مقالات

موانع قتل أم موانع “حمل”.. عندما يصير لوم الضحية عملاً سهلاً

الكاتبة

في روايته “أم سعد”, رسم لنا غسان كنفاني صورة الإنسان المكابر على ألمه تحت خيمة, على لسان بطلة الرواية ام سعد التي ترى أن “خيمة عن خيمة تختلف” لكنها تصب في النهاية في بحر واحد, هو اللجوء الذي لا يتطور سوى ألمه وزيادة حدة مأساته وتغذية أسباب الوجع, وحتى في ذلك التطور يرى الكاتب انه فرصة للهروب من رتابة اللجوء, فيصبح المطر اكثر حناناً من الريح, فالريح قد تقتلع الخيمة اما المطر فيكتفي بإغراقها. وهكذا مع ازدياد القصص ورتابة ألم اللجوء يبقى الجاني “الثابت” في منأى  عن اللوم, ويصير اللاجئ ” المتغير” هو الملام . فالجاني بمنأى عن التهمة  باللاوعي الذي فرضه الحس الجمعي تجاهه, فيتم التركيز على اللجوء كمأساة بحد ذاته دون ذكر الأسباب. لدرجة انك ستحد من يطالب اللاجئين بتحديد النسل والكف عن الانجاب.  وبموازاة لوم اللاجئ لكثرة إنجابه تجدهم لا يتفوهون كثيراً عمن قتل  أطفالاً تم إنجابهم وكانت الحياة حقهم الطبيعي جداً, أفليس من حق الحياة التعويض عن وجودها الطبيعي الذي انتهكه الطغاة ؟!

وعند الحديث عن خيام اللجوء السوري لا نبتعد كثيرا عن هذا “التوصيف الروائي ”  المفعم حساً بالقضية وتفاصيلها ومقياس تطور الألم وتدرجاته. فالمخيم في تعريفه محصلة “الم” ونتيجة “مأساة”, ولأن المأساة تولِّد مآس, فإن الأعداد وحدها تتكلم عن ذاك المكان الذي يتقاطر ألماً وهو يستقبل بشراً مُنهكين مِن قسوة القصف والقتل والرغبة بالنجاة ، ليصبحوا لاجئين محتاجين، جوعى، عطشى، عراة في عزِ الصقيع، ففي غمرة البرد واشتداد الرياح وتساقط الثلوج, يغوصون في الوحل بأقدام مبللة, وبخوف شديد، وبرد قارس ينغرس في العظام.

مأساة تفوق الوصف، يحتاج المرء أن يستعيد قواه وهو يتجول في مخيمات شبيهة بسجون الألم واستنزاف طاقات الإنسان بالانتظار, يتناثر فيها أطفال لا زال المستقبل مظلماً أمامهم, في عالم أصم أذنيه عن سماع مأساتهم ومحاسبة جلادهم.

وكأن هذه المخيمات خارج دورة التاريخ الذي يعدنا أحياناً بحل تلقائي بناء على تجارب سابقة. بالفعل هناك لجوء تم حله وعاد أصحابه, وصار بحكم المنسي. إنها أحكام القدر, فنحن إما منسيون عندما نكون يوماً فاعلين, أو منسيون عندما نكون ضحايا..

يقول الكاتب إيشان ثارور  في مقال له متحدثا عن الحكاية المنسية, والحكاية المنسية هنا هي قصة  مخيمات اللاجئين الأوروبيين في الشرق الأوسط:  “مهلاً، نحن لا نتحدث هنا عن محنة اللاجئين السوريين التائقين للهروب من خراب بلادهم. حكايتنا اليوم هي على الأغلب منسية ولا يعرفها كثيرون، عن آلاف الأشخاص من أوروبا الشرقية وبلاد البلقان والذين اتخذوا من مخيمات في الشرق الأوسط، وخاصة سوريا، موطناً مؤقتاً لهم خلال الحرب العالمية الثانية”.

لقد تم حل القضية وانتهت الحكاية, ونحن كنا جزءاً من الحكاية ولازال بعض المنصفين يشيدون بكرم بلاد الشرق وحسن استقبالها. اليوم, ماذا عسانا نقول كضحايا, ليس لنظام قمعي فحسب, بل ضحايا لصمت العالم اللاعب على هذا المسرح الذي كان ولازال طامعاً في سحره.

وكان ملفتا للنظر ان تتحدث صحيفة فلسطينية اسمها آنذاك “هنا القدس” عن الحدث قبل أكثر من سبعة عقود خلت, وقتها كانت فلسطين لأهلها. تفصيل يثبت ملكية الحق لأصحابه لمن يهتم بتفاصيل القضايا.

اليوم ومع كل شمس يتجدد وجعنا كسورين, فعندما انتهت مأساتهم, بدأت مأساتنا التي تسبب بها نظام يوصف بالفاشية والنازية اللتين كانتا سبباً في هجرة أولئك الى بلادنا.

بدأت حرائقنا, وحتى اللحظة لا شيء يطفئها, وكأن التاريخ كلما دار دورته يعود إلينا. فنحن يجب أن نكون برغبتنا أو بدونها ضحايا حرائق السياسة..

ونحن السوريون الذين لا تنتهي حرائقنا وقصصنا وخلافاتنا ولا حتى اختلافنا على البديهيات بما فيها هل المجرم مجرم أم لا؟ هل الظالم ظالم أم لا؟ وهل الضحايا وهم ارقام لا تنتهي ولا امل حتى الآن بنهايتها, هم بالفعل ضحايا؟. وعلى قدر المأساة تأتي مآسي أخرى, توازيها مأساة عقل ومبدا وموقف لا يميز ولم يعد يميز بين الضحية والجلاد بعمد أو بسبب طائفية بغيضة أو بسبب طبقية غبية عمياء ترى في أهل الخيام المجبرين طبقة أدنى, وهم العارفون كيف جاءت هذه الطبقة, ومن هو  المسبب لمأساتهم. أو لمصلحة ضيقة  تربط بين صاحب الموقف والجاني لجهل أخلاقي, فالجهل الاخلاقي الذي يصاب به بعض المثقفين يكاد يكون أحد مصائبنا.

إن الحصانة التي منحها النظام العالمي للنظام السوري  والتي لم يحظَ بها أحد كانت سبباً لأن تصير قضية اللجوء ” شبه منفصلة” عن المأساة السورية الكبرى التي تسبب بها النظام, ليس قبل عشر سنوات بل قبل خمسين عاماً. مأساة التشرد ومخيمات السوريين ليست مجرد مأساة أو جريمة بل هي وصمة عار على جبين العالم الذي أدمن حجب الرؤية, فالحقيقة عادة ما تكون مرة ومؤلمة، لكن مهما بلغت مرارتها فلن تعادل المرارة والألم الذي يعيشه أطفال سوريا وهم يقبعون في مخيمات متهالكة لا تحميهم من برد الشتاء ولا تشفع لهم من لهيب الصيف.

وبين لجوء الأوربيين ولجوئنا, يفصل بين الكارثتين حوالي سبعين عاماً. وفي حين صُنّفت الحرب العالمية الثانية بأنها أكبر مأساة في القرن العشرين، فإن معضلة اللجوء السوري بشكل خاص اعتُبرت في العام 2015، على لسان المفوض السامي لشؤون اللاجئين أنطونيو غوتيريش، بأنها “أكبر كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية”، حيث غادر حوالي ستة ملايين شخص البلاد منذ العام 2011، كما نزح عدد مماثل تقريباً بشكل داخلي هرباً من الموت.

لكن, لا حجم هذه الكارثة ولا المسبب الرئيسي لها منع البعض بل الكثير من الحاقدين من ضيقي الأفق والضمير عن لوم الضحية اللاجئ , فالهارب من الموت قد لا يغدو ضحية في نظر البعض , وكأن الهروب من الموت وبطش الجاني هو جريمة. فسهل هو توجيه اللوم للضحايا, فالجلاد قابع في ” بيروقراطية” الحصانة التي فرضتها رتابة التخاذل عن كبح جماحه. لكن ثمة من يغذي ذاكرة الألم فلا أحد ينسى جلاده.

إنه من السهولة بمكان ان يخرج  بعض الحاقدين ليضعوا اللوم على الضحايا. فالمخيمات لا تناسب طبقيتهم ونوعيتهم وعشقهم للمظاهر ورفاهية الزيف, فممنوع عن النساء الإنجاب, ممنوع عليهن ان يفكرن بذلك, بل هن سبب الازمة وتفاقمها بكثرة إنجابهن للأطفال, لذلك من الأفضل اعطاؤهن مانع حمل.. هكذا يرون, لأن غريزة الامومة ممنوعة على قاطني المخيمات الذين لم يختاروا قدرهم يوماً.

اكتفى العالم الكاذب الصامت المنافق على جعل المخيمات متاحف لأفضل صورة, وافضل تقرير وسبق صحفي وافضل عرض واستعراض للدموع الكاذبة, ليشاع ما مدى إنسانية تلك الممثلة أو ذاك الممثل.  الكل  يقصدهم لالتقاط صورة توضح عمق إنسانيته المزيفة. لا احد يتحدث عن الحل, فالكل يركز على المشكلة والنتائج دون المسببات.

لا احد يتحدث عن أجيال تنمو هناك بلا هوية وتعليم وحقوق أساسية, بل حتى حقوق ومستلزمات بسيطة. أطفال بلا آباء وبلا حياة طبيعية, جيل ينمو امام انظار العالم الذي يرسل منظماته التي صارت توازي اعداد الخيام.  تفاصيل الألم هناك ليست جيلاً ينمو بعد جيل وخياماً تزداد أعدادها, إنها كارثة بشر تم اقتلاعهم من جذورهم منذ عقد.

كانت الصورة النمطية التي تبثها بعض وسائل الإعلام عن اللجوء، هي كثرة الانجاب والزواج المبكر والتحرش بالنساء. وكان التركيز قائماً على الضحية ليس من باب كونه ضحية لواحد من أكثر الانظمة وحشية ودموية بل التركيز من باب التحامل عليه وجعل قضيته منفصلة عن اسباب وجوده في هذه المخيمات.  لم يعد يذكر احد المسبب ولماذا اصلاً وجدت هذه المخيمات القابعة على مسافات شاسعة. فالجلاد في مأمن عن كل المساءلات القانونية والإنسانية وكأن هؤلاء جاؤوا من العدم, ولم يتسبب احد في مأساتهم . إحداهن تطالب بمانع حمل حتى لا يتكاثر الأطفال في المخيمات. متناسية أن ما يحتاجه هؤلاء هو مانع قتل، مانع برد مانع جوع..

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال رائع وصف حالة الشعب السوري ومعاناته المستمرة وغير معروفة النهاية. مأساة شعب كشفت زيف ضمير هذا العالم الذي روت المادية والبراغماتية دمائه فالكل خذل هذا الشعب الذي خرج مطالبا بحريته ومن أجل ذلك قدم أروح اعز ابنائه شبابا واطفالا ونساء وشيوخا كانوا ضحية لنداء شعب طمح وحلم بحريته ولم يجد من العالم سوى الخذلان بل و فوق ذلك أصبح القاء اللوم على ذلك الشعب المسكين وتبرءت النظام المجرم كشفت ثورة الشعب السوري أقنعة العالم المزيفة فسقطت مبادئ حقوق الإنسان التى تغنوا بها تحت أقدام معاناة أطفال ونساء وشيوخ الشعب السوري الذي كلما صمدى وازدادت معانته تتابع وتتالى تساقط الأقنعةالمزيفة لعالم البشر. لشعب سوريا وأهلها عدالة الله التى نصرت أنبيائه ورسله وكما قصمت عدالة الله ظهر كل طاغية ومتجبر سوف تقصم ظهر ذلك الظالم وكل ظلام العالم. نعم مأساة السوريين من أصعب الكوارث منذ الحرب العالمية الثانية وأيضا ثورة ذلك الشعب هي ايضا وحدها التي كشفت الوجه الحقيقي لضمير العالم الميت.كشفت زيف حقوق الإنسان التى طبل لها الغربيين كشفت كم تغمس العالم في المادية والبراغماتية. تستقبل كندا بعض اللاجئين وتعيد توطينهم وبالمقابل فإن شركات الأسلحة الكندية هي من أكثر الشركات التي سوقت وباعة أسلحة خلال تلك الحرب القذرة فوق دماء وعظام الشعب السوري. كشفت كذب مبدأ لكل إنسان الحق أن يعيش حرا وبكرامته. لنرى انه يتم انتهاك كرامة الإنسان اثناء السير في طريق اللجوء وفي مخيمات اللجوء. وفي بلاد اللجوء. معاناة شعب مستمرة وكشف أقنعة مزيفة مستمر ايضا فلقد باتت معادلة تسير بالتساوي وباتت معادلة متساويت الطرفين طردا فكلما زادت المعاناة ازداد أكتشاف الأقنعة والمبادئ المزيفة لأهل سوريا عدالة ورعاية الله ولابد من نهاية لكل ظالم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى