مختارات

من المكارثية إلى المكارونية

أحمد الهواس

رئيس التحرير

عرض مقالات الكاتب

لم يكن طرح الرئيس الفرنسي – بالمستغرب – حول ما سَمَّاه أزمة الإسلام، ووجوب وضع خطط احتواء للمسلمين في فرنسا، واصفًا مشروعه بضرورة التصدي للانعزالية الإسلامية، وأن هذا المخطط السياسي الديني الممنهج الذي يقوم على الالتفاف على قوانين الجمهورية، وإقامة نظام موازٍ يقوم على قيم مغايرة.

 طرح لم يكن جديدًا أو من بنات أفكاره، فهو يكاد يكون نقلاً عن مشروع جوزيف مكارثي السيناتور الأمريكي في احتواء الشيوعية داخل أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية!

فالخطة الماكرونية لم تأت بغتة، ولم يصح الفرنسيون فجأة على عداء مستجد تجاه الإسلام، بل إنّ ثمة إرهاصات ومقدمات وربما صراعات -خفية – أو على أراض أخرى غير أرض الجمهورية الفرنسية تصل لحد الصدام، تحت مسمى حرب الإرهاب أو الخطر الإسلامي!

فشيطنة الإسلام والتخويف من الخطر الإسلامي تجري – منذ زمن – على قدم وساق، وكلها تغلف بالتخويف من قيم ” وافدة” تهدد القيم الغربية، أو تهدد الحرية والإخاء والمساواة، تلك القيم التي طالما قدّمتها فرنسا “الثورة” للعالم، رغم أن تاريخ فرنسا الدموي بعد ثورتها – ولا سيما مع المسلمين- فاق كل إجرامها الطويل قبل الثورة !

ولعله بات من الحكمة عدم الخوض في ذلك التاريخ الدموي، ليس حفاظًا على الذوق العام، ولا لأنّه يفسّر بالعمل التحريضي ونبش الماضي، بل لأن ثمة “فكرة” باتت تسيطر على عقول كثير من الشباب ولا نغالي إن قلنا إننا أمام شريحة كبيرة لم تعد تهتم بالتاريخ ولا بالنزاعات ، بل بالبحث كما – تتوهم- عن وسيلة تطوير الدين الإسلامي الذي بات عائقًا للتقدم ، ومعارضًا لقيم الحداثة وما بعد الحداثة !

تقبل التصريحات

لا يستطيع ماكرون أن يصف الإسلام أنّه يعيش في أزمة ، لولا أنّه يدرك أن المسلمين في أزمة ، ولولا أنّ ثمة تقبلاً لتصريحاته على مستوى حكومات العالم الإسلامي ، وفي القلب منه العالم العربي ، بل إنّ تصريحات ماكرون ربما تعدّ صدى لتصريحات أو لنقل “تخويف “عبد الله بن زايد للغرب من خمسين مليون مسلم ، ومن عدم مراقبة مساجدهم ، وكذلك تصريحات السيسي بخطر الإسلام والدعوة  لتطوير الخطاب الديني ، وكذلك مع خطط محمد بن سلمان بالتبرؤ من المرحلة السابقة والذهاب باتجاه انفتاح على حساب المبادئ أو الايدلوجيا التي أسست المملكة !

لم تشكل تصريحات ماكرون صدمة عند مسلمي فرنسا فحسب، بل عند مسلمي العالم، ليس لأن ماكرون غلّف عداءه للإسلام باسم قيم الجمهورية، بل لأن ماكرون تعدى على دين خمس البشرية ، وهذا الدين يشكل اتباعه الضلع الثاني في فرنسا ” العلمانية” من حيث العدد ، ولأن فرنسا تدّعي أنها تطبّق العلمانية منذ 1905 ، وهذا يعني أنّ الدولة تمارس الحياد الديني ، بين أتباع الديانات في المجتمع الفرنسي ، لكن الذي نحاول القفز عليه أن الحياد المزعوم لم يتمخض عن اعتراف فرنسا ” الدولة” بالإسلام ! وهذه إشكالية وأزمة في عمق الدولة الفرنسية ذاتها، فكيف تمارس حيادًا مع فئة لا تعترف بدينهم ؟

مشكلة ماكرون كما وصفها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه لم يتصرف كرجل دولة، أي أن الرئيس الفرنسي، كان ينبغي عليه أن يتصرف كرجل دولة ، وليس كرئيس حزب أو صاحب برنامج انتخابي ، ورجل الدولة هو الذي يقف في المنتصف من جميع الأطراف والتيارات بما يحقق مصالح الدولة ، فاتهام جزء من شعبه بالانعزالية ، تندرج تحت العنصرية ، وهذه التهمة لا يجرؤ أن يوجهها لفئة أخرى ، فهي سياسة ستؤسس لثقافة الكره ، وتعمل على ترسيخ شرخ اجتماعي يتنافى مع  المواطنة التي يجب أن تكون عليها الديمقراطيات الغربية .

الخطوات التي نادى بها ماكرون لوضع مؤسسات المجتمع المدني “المسلم” تحت المراقبة، وإشراف الدولة، لا تختلف عن خطوات السناتور مكارثي حين نجح في تكوين لجنة داخل الكونجرس الأمريكي بالرقابة على الثقافة في 10 يوليه 1953 تحت ذريعة محاربة الفكر الشيوعي بين الأمريكيين، وقد أدّت لكوارث في المجتمع الأمريكي وانتهت بتدمير نفسيات كتّاب ومشاهير وانتحار بعضهم كما حصل مع الروائي آرنست همنغواي.

استفزاز المشاعر

كان على ماكرون العودة “لمستشاريه” للشؤون الإسلامية، قبل أن يستفز مشاعر المسلمين، لكي يبلغوه أن الأزمة في المسلمين وليست في الإسلام، وأن أزمة العالم الإسلامي سببها غياب النظام الإسلامي، فالدول الإسلامية منذ 1830 تُحكم بعلمانية جزئية أو كلية، ولم يبق في هذا العالم سوى الأحكام الشخصية ، وثمة دول تطبّق أحكامًا لائكية لا علاقة للإسلام بها ! وأن الأزمة تعمّقت بسبب غياب الديمقراطية ودعم الغرب للمستبدين والفاسدين والمنقلبين ضد الديمقراطية، أو كما يصف تلك العلاقة الجدلية الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش : “كلما ابتعد النظام عن الإسلام قلّ دعم الشعب له، وهكذا تبقى الأنظمة المعادية للإسلام محرومة تمامًا من أي دعم شعبي ، ومن ثمّ تجد نفسها – طوعًا أو كرهًا- مجبورة على البحث عن هذا الدعم لدى القوى الأجنبية ، ولذلك فإنّ التبعية التي تغرق فيها هذه الأنظمة هي نتيجة مباشرة لتوجهاتها اللا إسلامية”

 وأن مصالح الغرب تتخطى مصالح تلك الشعوب، وأن المشكلات التي صنعها الغرب في تلك البقعة من العالم لا يمكن أن تنعكس سلبًا على المنطقة فقط بل لابدّ أن تمتد آثارها لمناطق أخرى وسترتد على صانعيها أيضًا! أو كما يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه الإسلام والاستبداد السياسي:

إن بلاد الإسلام في هذا العصر – وفي العصور القريبة السابقة – تحمل كفلين من العذاب أحدهما من وطأة الغرب المعسكر بقواته الكثيفة من المحيط إلى المحيط؛ والآخر من غدر الحكام المشايعين له، ومن أوضاعهم الملفقة وفسادهم العريض.

المصدر: الجزيرة مباشر
http://mubasher.aljazeera.net/opinion/%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%A7%D8%B1%D8%AB%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%A7%D8%B1%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى