مقالات

الخوف السياسي

محمد سعيد سلام

سياسي سوري
عرض مقالات الكاتب

كان الخروج إلى الساحات في تونس والقاهرة وبنغازي وصنعاء ودمشق أشبه بالحلم، ويكاد أصحابه أنفسهم لا يصدقون ماذا يفعلون حينها، وشكل هذا الخروج صدمة رهيبة للعصابات الحاكمة التي تفننت عبر عقود بالإجرام قتلا وتعذيبا وتهجيرا وترويعا وتضييقا وملاحقة .
لم تعرف هذه العصابات المجرمة قانونا ولا دستورا ولا قيمة أخلاقية، واستباحت البلاد وثرواتها وقدراتها وكفاءاتها على نحو غير قابل للتصور لمن يملك قدرا بسيطا من معنى إنساني، كما حولت البلاد إلى قطعات عسكرية وحلبات مخابراتية، وتجردت من الثقة بأي أحد، وكرست الولاء لها القائم على الإذعان والخضوع والفساد والإفساد وشراء الذمم .
وأصبح النفاق ثقافة وفنا لدى شريحة لا بأس بها لا سيما المحيطون بهم والمقربون منهم .

وما إن تحررت نسبة معينة من الشعب من الخوف من هذه العصابات، وصدحت الحناجر بالحرية متسلحة بالإرادة القوية الصادقة حتى كسرت هذه العصابات رغم كل ما تسلحت أو دعمت به، خصوصا في اليمن وليبيا وسورية .
وتأثرت جميع عصابات الحكم الأخرى لاحقا بمستويات مختلفة بهذا التحرر من الخوف . وهناك المزيد من التأثر والتداعيات التي ستظهر تباعا وبشكل مطرد .
لكن هذا التغير النفسي السياسي وأثره الكبير على عصابات الحكم لم يكن وحده كافيا للانتقال إلى الضفة الأخرى المناقضة لأسلوب ومستوى هذه العصابة المجرمة، بل كان محتاجا لاستكمال .

وتريد هذه الإضاءة أن تركز على قضية مفصلية تسهم إسهاما كبيرا في متابعة طريق التحرر واستكماله وحصد نتائجه السياسية، وهي بقدر بساطتها وسهولة استيعابها إلا أنها صعبة التنفيذ بدلالة الواقع، ودونها ستطول مدة المخاض أكثر، بخلاف ما يتصور رافضوها سلوكيا، وغير العابئين بأهميتها، أو غير المقتنعين بها أصلا .
وهي تجمع في جنباتها وحيثياتها بين المحلي ” الداخلي ” والإقليمي والدولي “الخارجي ” إذ يقع كثير من المحللين والمتابعين والمهتمين بخطأ جسيم عندما يركزون على الداخل بعيدا عن الخارج، أو على الخارج مع إهمال الداخلي، فيفقدون القدرة على الموازنة والمقايسة، وليس محل نزاع أن مراعاة الأسباب الداخلية ومعالجتها والعناية بها أكثر أهمية ولها الأولوية .

لقد صحا الخوف في نفوس بعض الثوار وحواضنهم بما يشبه الخوف السابق أو مثيله الذي أورثهم الذل والمهانة، لكنهم لم يعودوا أو يتراجعوا عما قاموا به، إنما تحرروا من بعض الخوف فقط، ونفضوا عن كاهلهم جزءه فحسب؛ فوقعوا أسرى جهاز مخابراتي جديد، وأصبحوا يعاملونه رهبة كما كانوا يعاملون جهاز مخابرات العصابة التي كانت تتحكم برقابهم، وأمسوا يحسبون له حسابا رعبا كما كانوا يحسبون حسابا لسطوة جهاز مخابرات بلدهم، أما سوى الثوار فقد بدلوا الأجهزة ببعضها وتموقعوا بما يناسبها .

إن المفاخرة بالخروج في وجه عصابات الحكم أضحى من التاريخ، وما تولد عنه من إنجازات ليست بقليلة؛ وعلى أهميتها فقد باتت من الأمس، يستفاد منها ويبنى عليها ولا يكتفى بها . أما حديث اليوم وعمله ومقتضاه فيجب أن يكون عن الموقف السياسي من دور الأفراد والجهات والأحزاب والجماعات والحركات المحلية، ومن الدور الإقليمي والدولي الذي يتناقض مع الربيع وحريته وعدالته المنشودة، والعمل على تصويبه وتوضيح خلله، واتخاذ خط مواز سيادي .
وألا يتم الخوف على الرزق، فأين استقرت الأرزاق السابقة؟! وألا يرجح الخوف على الأولاد ومستقبلهم، فماذا عن أولاد الشهداء ومستقبلهم ؟!
أما الشكر للحكام المضيفين على حساب الثورات وقضاياها فيشبه تبجيل الرئيس الخالد والأخ القائد وزين العرب !
ويشبه الثناء على مواقفهم مديح السياسات الحكيمة والخطابات الملهمة والتصريحات التاريخية للمستبدين !
ويصور كل واحد من هؤلاء الحكام موقفه وتصرفه تجاه إحدى ثورات الربيع أو جميعها على أنها الأصوب والأفضل، والأكثر إنسانية، والمليئة بالحرص على المستقبل، ويردد بعض الخائفين وراءهم عظمة هذه المواقف، ونجاعة هذه التصرفات رغم كل الآثار السلبية الواضحة الملموسة !

وأكثر ما يجب التنبه له والتركيز عليه – وهذا قد يفاجئ بعضهم – هو تلك البلاد التي تدعي مناصرتها للحرية والديمقراطية كأميركا والأوروبيين، إذ إن السوريين أغلبهم هناك لا يختلفون عن سواهم في بلدان أخرى كما يحاول أن يصور أفراد منهم .
صحيح أن زاوية الحريات أكثر انفراجا من بلاد أخرى، لكن ذلك لا يدخل في دائرة الفرق الجوهري في التعاطي مع الثورات والمواقف منها.
فمن من السوريين في الولايات المتحدة يجاهر أن أميركا دولة محتلة لبلادنا، وناهبة لثرواتنا، وأنها أكثر الدول الداعمة للعصابة المجرمة، المانعة لاستكمال سقوطها، وأنها المسؤولة الأولى عن دعم الإرهاب وتصنيعه، وإتاحة الفرصة لتنقله وتموضعه ؟ إنهم قلة قليلة إن وجدوا أو عرفوا .
والأغلب منقسم لصالح الديمقراطيين الذين دعموا ملالي الإجرام ومولوهم ليتابعوا مسلسل إجرامهم في المنطقة، أو لصالح الجمهوريين الذين أفرزوا ترامب العنصري الذي يبيع الوهم بملايين الدولارات، ويؤكد على الدور الروسي في ملء الفراغ على حساب دماء الناس وأعراضهم ومصيرهم؛ ومعادلة انقسامهم بينهما بأفضل أحكامها لا تتعدى المفاضلة بين السيء والأسوء .
والصوأب – من وجهة نظري – أن ينحازوا لسوريتهم، ويقرروا مصيرها بذواتهم، ويتمتعوا بالجرأة، ويتابعوا طريق الحرية نحو دولة المواطنة، التي تعتبر الولايات المتحدة الأمركية من أكثر أعدائها .
ولا تختلف بريطانيا وفرنسا وألمانيا وسائر الأوربيين عن أميركا والسوريون ثم – إلا قلة – تملكهم الخوف السياسي ومازالوا يمدحون الأوربيين ومناصرتهم للإنسان وقضاياه على حين أن أموالهم – بعمومها على الأقل – لم تصب عمدا إلا في أيدي فاسدين وأن إعلامهم يروج منذ فترة مبكرة أن ما يحدث في سورية حرب أهلية .

والدول الأخرى هي على هذه الحال ووفق هذه السلوكيات من باب أولى، ولم يكن ذكر الولايات المتحدة والبلاد الأوروبية لتبرئة آخرين .

والخلاصة : إن تحرر السوريين من الخوف من آلة إرهاب العصابة الحاكمة أسقطها متحديا كل وسائل قمعها الوحشية، وإن التحرر من الخوف من الإقليمي وتهديداته ومن الدولي وترويعاته وحده سيساعد على تحقيق الانتقال السياسي وبناء دولة المواطنة وإرغامهم على القبول بها كامر واقع، وهذا لا شك واقع بعد حين .
فمن سيكون رواده، ومن سيصنعه ويؤسس له ؟ هذا ما يجب التفكير به، والحوار حوله، والعمل عليه .
والتاريخ لا يصنعه إلا الرجال فلا نامت أعين الخائفين ولا هدأت جفون الجبناء .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى