الجيش السوري في عيده الماسي .. من البدايات إلى حافظ الأسد (1 من 3)

يعتبر أغسطس/ آب من العام 1945 شهر التأسيس الحقيقي للجيش الوطني السوري، وليس مجرد بيان صدر في الأول منه، إذ أن الشهر بكامله شهد حراكاً متواصلاً على مدار أيامه، وحزماً من المراسيم المتتابعة والقرارات الناظمة لكل شؤونه. ولم يكد الشهر يشرف على نهايته، إلا وكانت مرحلة التأسيس الفعلية ناجزة ومعلنة. والجيش السوري هو أعرق جيش وطني عربي يتأسس مستقلاً عن أي احتلال، أو تدخلات خارجية مباشرة، تزامناً مع استقلال الدولة السورية عن الاحتلال الفرنسي، والذي كان أيضاً أول استقلال معاصر في الدول العربية الحالية. وقد عبّر عن الآمال الكبرى المعقودة على هذا الجيش في بناء وطن المستقبل النشيد الوطني الذي بدأ بتحيته “حماة الديار عليكم سلام/ أبت أن تذل النفوس الكرام”. وحمل شعاره وعلمه كلمات “وطن. شرف. إخلاص”، فكيف كانت مراحل تأسيس هذا الجيش، المحتفل بالذكرى الماسية (75 عاماً)، وكيف كانت مسيرته ودوره في التحولات الكبرى، وصولاً إلى ما إليه.
محاولات أولى
بعد الحرب العالمية الأولى وإعادة رسم المنطقة وفق إرادة المنتصرين، اصطدمت إرادة السوريين لإقامة دولتهم الكبرى، في حدودها الطبيعية، مع مخططات أقوى الحلفاء المنتصرين (بريطانيا وفرنسا)، فسارع “المؤتمر السوري العام” إلى إعلانه قيام “المملكة السورية العربية” في 8 مارس/ آذار 1920، أعقبته مباشرةً محاولة تأسيس جيش سوري وطني، وتسمية يوسف العظمة وزيراً للحربية، ففتح باب التطوع وبدأ الحديث عن سَنِّ قانون للخدمة العسكرية الإلزامية. وسرعان ما بدأت التشكيلات الأولى لذلك الجيش تبدو واقعة، الأمر الذي أثار حفيظة فرنسا، بل وجعل من أهم شروط الجنرال الفرنسي، غورو، عبر إنذاره أن يتم تسريح ذلك الجيش. ضمن تلك التجاذبات، خرجت طلائع من هذا الجيش، وبعض رافضي الاحتلال الفرنسي بقيادة يوسف العظمة، لمواجهة جيش غورو في ميسلون غرب دمشق، وفي معركة معروف مسبقاً عدم تكافئها من جميع الجوانب. وسرعان ما انتهت باستشهاد قائدها ومن صمدوا معه، لتدخل القوات الفرنسية صبيحة اليوم التالي دمشق (25 يوليو/ تموز 1920)، معلنة نهاية المملكة السورية وجيشها الأول.
الجيش السوري أعرق جيش وطني عربي يتأسس مستقلاً عن أي احتلال
ويخلط بعض الباحثين، نتيجة تشابه التسمية في المرحلة ذاتها بين المسميين: جيش الشرق الفرنسي: وهو إحدى القوى الضاربة للجيش الفرنسي الذي عمل خلال الحرب العالمية الأولى في الشرق مع قوات الحلفاء، ومن ثم استكمل مهمته في احتلال سورية ولبنان وأجزاء من تركيا. وصل تعداده عام 1921 إلى سبعين ألفاً من المقاتلين النظاميين، معظمهم من الدول الخاضعة للسيطرة الفرنسية في المغرب العربي والسنغال وبقية المستعمرات الأفريقية، وتحت قيادات فرنسية خالصة. والقوات الخاصة للشرق: وهي القوات المحلية التي شكلتها فرنسا في كل من سورية و لبنان عام 1924 بديلاً عن “جيش سوري وطني”، بإشراف فرنسي، كما نصّ صك الانتداب الذي تنصلت منه فرنسا. بلغ عدد هذه القوات حين التأسيس أكثر من ستة آلاف، ووصل في ذروته إلى أربعة عشر ألف مقاتل عام 1935. وكان أكثر متطوعيه من الأقليات الدينية والطائفية والإثنيات العرقية، أما قياداته العليا فهي فرنسية حصراً.
ويُذكر في السياق ذاته أن فرنسا عمدت، بعد اندلاع الثورة السورية الكبرى (1925) إلى تشكيلٍ آخر أسمته “القوات الإضافية”، استعانت به على إخماد الثورة، وكان معظم منتسبيه من الموتورين طائفياً وعرقياً وشذاذ الآفاق الذين اتسموا بالوحشية والفظاظة بالتعامل، ما جعل فرنسا، بعد إخمادها الثورة الكبرى، تستغني عن خدمات كثيرين منهم، وتضم الباقي إلى “القوات الخاصة للشرق”.
تكاد تجمع وثائق تلك المرحلة أن قرابة نصف القوات كان من العلويين (في سورية) والمسيحيين (في لبنان)، مع نسبة لافتة من الطائفة الإسماعيلية قياساً لتعدادها، على عكس الانخفاض الملحوظ في نسبة الطائفة الدرزية. أما المسلمون السنة فعلى الرغم من وجودهم ضمن تركيبة تلك القوات، فقد كانت نسبتهم أقل بكثير منها في المجتمع، وأغلب المنتسبين من أعراق غير عربية. لافت أيضاً الاعتماد في تلك القوات على أبناء الجبال والمناطق الريفية النائية أكثر من الاعتماد على أبناء الحواضر والمدن، وكان ذلك مدروساً بعناية من الفرنسيين، بحكم تجربتهم السابقة في شمال إفريقيا، بل ونقلوا ضباطا وخبراء منهم من هناك إلى سورية ولبنان، لخبرتهم في شأن التقسيم المجتمعي، وافتعال العداوات وتكريسها وفق خلخلة البنى القائمة.
كان الجيش السوري في فترة تأسيسه وطنياً بحق، ولم يشهد أي تمييز بين أبناء الوطن
بعد تحوّل الحراك الثوري السوري إلى مرحلة الكفاح السياسي، والنجاح في تحقيق بعض المطالب، كانتخابات الجمعية التأسيسية ووضع دستور 1930 وإعلان الجمهورية السورية الأولى التي أنهت التقسيم الفرنسي لسورية إلى عدة دويلات. أما المطالب المتعلقة بتأسيس جيش سوري، فماطلت فيها فرنسا، لكنها استجابت لافتتاح “الكلية العسكرية في حمص” 1932. ولزيادة نسبة السنة والعرب في القوات، ولكن بمراقبة دقيقة منها، بما لا يخلّ بمنهجها. ما زاد، بدرجة لافتة، نسبة العرب والسنة التي تجاوزت النصف من خريجي الكلية العسكرية في حمص، أن المستوى التعليمي في الجبال والمناطق النائية كان متدنياً، بل ومنعدماً في كثير منها، وهو ما يفسر قلة الضباط العلوييين تحديداً، مطلع الاستقلال
التأسيس الرسمي والعيد الماسي
تتضارب بعض الآراء مختلفةً في اعتبار أحد العامين (1945 – 1946) عام تأسيس الجيش السوري المستقل، بزعم الفريق الثاني إن الاستقلال كان في 1946، لكن المؤكّد، بالبحث والتقصي والوثائق، أن يوم التأسيس كان في الأول من أغسطس/ آب 1945، وهو أيضاً المعتمد رسمياً من الحكومات السورية المتعاقبة. وتعود جذور التأسيس إلى معاهدة 1936 التي نصت على منح الاستقلال خلال مرحلة انتقالية، أقصاها ثلاث سنوات، وتأسيس جيش وطني سوري على كامل الأراضي السورية التي تحتلها فرنسا (مع استقلالية لبنان) في مقابل الإبقاء على قاعدتين جويتين فرنسيتين للإستخدام، حين الضرورة.
نشوب الحرب العالمية الثانية (1939) ودخول فرنسا الحرب أعطياها ذريعة للمماطلة، لكن الوعود عادت لكسب تأييد السوريين، حين وقّعت باريس تحت الاحتلال الألماني، خصوصا بعد معركة دمشق (يونيو/ حزيران 1941) التي استعادت فيها قوات فرنسا الحرة السيطرة على سورية، طاردة القوات الموالية لحكومة (فيشي) المعينة من الألمان، فقبيل تلك المعركة حلقت طائرات فرنسية تتبع للحلفاء في سماء دمشق، وألقت مناشير كتب عليها “فرنسا بصوت أبنائها تعلن استقلالكم”. بعد شهر، اجتمع المندوب السامي الفرنسي الجديد (الجنرال كاترو) مع السياسيين السوريين في مدرج جامعة دمشق، معلناً أن الوقت قد حان لوضع نهاية للإنتداب والتفاوض بشأن شروط تحقيق سيادة تامة، استمرت المفاوضات حتى سبتمبر/ أيلول 1941، وأذيع بيان الاستقلال، وفيه “إن فرنسا تعترف بسوريا دولة حرة مستقلة ذات سيادة”. اعترفت بريطانيا ودول أخرى بهذا الاستقلال مباشرة، والذي أعقبه إعادة العمل بالدستور، وتولي تاج الدين الحسيني مهام رئاسة الجمهورية.
نصّت معاهدة 1936 على منح الاستقلال خلال مرحلة انتقالية، أقصاها ثلاث سنوات، وتأسيس جيش وطني على كامل الأراضي السورية التي تحتلها فرنسا
استقلال سورية إذن وإعلانه فرنسياً، واعتراف بريطانيا به كان عام 1941، لكن تطبيقه الواقعي على الأرض وجلاء آخر جندي فرنسي تأخر إلى ما بعد تحرير فرنسا ذاتها من الاحتلال الألماني ونهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، حيث عادت المفاوضات إلى بحث إجراءات التنفيذ. طالبت فرنسا ببقاء القاعدتين الجويتين، كما في معاهدة 1936وبإشرافٍ على تشكيل الجيش الوطني، وهو ما يرفضه الساسة السوريون، لأن فرنسا نكصت بعهودها وسلمت لواء اسكندرون لتركيا (1939)، وضمّت مزيداً من الأقضية لجبل لبنان. ما يسجل هنا بحروف ناصعة لساسة الاستقلال، خصوصا الرئيس شكري القوتلي ورئيس الوزراء وزير الدفاع، سعد الله الجابري، الموقف الصلب في رفض أي وجود فرنسي أو تدخل، على الرغم من التهديد باعتقالهما وقصف الطيران الفرنسي مبنى البرلمان وحاميته (29 مايو/ أيار 1945)، بل وقّعا معاً مرسوم تأسيس الجيش السوري، الوطني كامل الاستقلال، في الأول من أغسطس/ آب عام 1945. وسرعان ما صدر خلال الشهر ذاته الأمر الإداري (55/3) عن قيادة الأركان الحربية، متضمناً التفاصيل الناظمة لتشكيلات الجيش السوري، بفرقه وألويته وأفواجه وشعبه، وما يتعلق بشؤونه واعتبارها واجبة التنفيذ من الأول من سبتمبر/ أيلول 1945.
وعندما تم الجلاء كاملاً (17 إبريل/ نيسان 1945) كان الجيش السوري فعلياً وحده القوة العسكرية الموجودة في الدولة المعترف بسيادتها، من دون وجودٍ لأي جندي محتل.
قبلالنكبةوالانقلابات
حدّد المرسوم 1271 الصادر في 12/11/1945، بتوقيع كل من رئيس الجمهورية شكري القوتلي، وسعد الله الجابري بصفته وزيراً للدفاع ورئيساً للوزراء، ملاك الجيش السوري بتشكيله الموجود والبالغ عدد أفراده 12686، ثلثاهما من القوات النظامية وثلث من القوات غير النظامية الملتحقة به. فيما كان عدد الضباط من مختلف الرتب 586 ضابطاً، أعلاها رتبة زعيم (عميد)، ومن بينهم أول ضابط يتسلم قيادة الأركان، الزعيم عبدالله عطفة، التي تظهره الصور الأرشيفية في احتفالات الجلاء وهو يسلم علم الجيش للملازم أول عدنان المالكي.

اللافت في الإحصاءات والأرقام الموثقة أن عدد أفراد الجيش من القوات النظامية يقلّ عن العدد الذي كان يشكل قوامه في القوات الخاصة للشرق قبل الاستقلال، والتي تجاوزت أعدادها أربعة عشر ألف مقاتل، ما يعود إلى أن مرسوم التأسيس استثنى من آثر مؤازرة الفرنسيين، ولم ينضم للجيش الوطني بعد حادثة الاعتداء على البرلمان.
عتاد الجيش وسلاحه الخفيف والمتوسط والثقيل حين التأسيس تذكره الوثائق بالتفصيل، وهو سلاح متواضع جداً لجيش وطني
عتاد الجيش وسلاحه الخفيف والمتوسط والثقيل حين التأسيس تذكره الوثائق بالتفصيل، وهو سلاح متواضع جداً لجيش وطني، فعلى سبيل المثال كانت آليات سلاح المدرّعات مكونة من تسع دبابات فرنسية الصنع وثلاث مدرعات مجنزرة وبعض عربات مصفحة تحمل رشاشات متوسطة. أما فوجا المدفعية فاحتويا معاً على 24 مدفعاً من عيار 75مم نموذج 1897 مع ذخيرة مئة قذيفة فقط لكل مدفع. هذا الواقع من ناحية ضعف التسليح رفعه إلى رئيس الأركان، الزعيم عبدالله عطفة، إلى وزارة الدفاع، بتقرير شامل مفصل و موثق (3/5/208) تضمن اقتراح تشكيل أركان حرب مشتركة بين الدول العربية، بإشراف مجلس جامعة الدول العربية، لوضع أسس موحدة لجيوشها ودراسة الإمكانات المشتركة لإقامة صناعة عسكرية عربية، تحاول تدريجياً التخفف من الاعتماد على الأجنبي في التسليح والتذخير.
ويخلص التقرير إلى أن “المعنويات قوية بحماس الأفراد الفطري .. إلا أنها ضعيفة بالسلاح والماديات، وإن القوة العددية لهي وليدة الماديات فإذا صلحت صلح الباقي. ويمكن التأكيد بأنه في حال تأمين الوجهة المادية للحصول على ما ينقص الجيش من أسلحة وتجهيزات ومعدّات وإعطاء العسكريين الحد الأدنى مما يحتاجونه في حياتهم المادية، لكي يتمكّنوا من حفظ كرامتهم، يمكن أن نتوصل بجيشنا إلى أقرب حد من الكمال النسبي”.
اهتمت الحكومة بمعظم ما جاء في تقرير رئيس الأركان، وشكلت لجاناً لشراء ما تستطيع من أسلحة ثقيلة من مخلفات جيوش الحلفاء في البلدان المجاورة والقريبة، ومحاولات تنويع مصادر السلاح الجديد، بشكل مباشر أو عن طريق وسطاء، فنجحت في بعض وفشلت في آخر، ما أبقى التسليح دون المستوى المأمول، على أعتاب حربٍ تلوح نذرها في فلسطين. وعلى صعيد التدريب، أُرسل ضباطٌ كثيرون في بعثات للتدرّب على أحدث التقنيات في مختلف التخصصات العسكرية، ومنها دورات طيران. ولم يمض عامان، حتى ارتفع مستوى الكفاءة في بعض التخصصات، إلى درجة جيدة نسبياً، لعل من شواهدها مطار المزّة العسكري الذي ضاق بحركة طيرانه اليومية من طلعات تدريبية واستطلاعية على الطائرات البالغ عددها 24، معظمها هارفارد أميركية الصنع مخصصة للتدريب، ما استدعى فتح ثانية للطيران والتدريب في مطار النيرب العسكري في حلب. وتزامن ذلك مع قوانين ومراسيم ناظمة ومنظمة للشأن العسكري، مستفيدة من تجارب الجيوش المتطورة، والأهم مرسوم الخدمة العسكرية الإلزامية الذي طبق أول مرة نهاية عام 1947، وتجاوزت دفعة السوق الأولى عشرين ألفاً من الأفراد المجنّدين مع فتح باب التطوع للأطباء والمهندسين من خرّيجي الجامعة السورية، بحسب الحاجة والاختصاص، لتعيينهم ضباطاً عاملين برتبة ملازم أول، بعد اتباعهم دورة عسكرية.
كان الجيش السوري في مرحلته الأولى وطنياً بحق، ولم يشهد أي تمييز بين أبناء الوطن الواحد
كان الجيش السوري في تلك المرحلة وطنياً بحق، ولم يشهد أي تمييز بين أبناء الوطن الواحد، المتطلع إلى دولة حضارية، وبحماس منقطع النظير، للذود عن حياضها في مرحلة تلوح فيها المخاطر والتهديدات. وتعطي الوثائق التي باتت متوفرة بكثرة وتفصيل فكرة واضحة من خلال أسماء الضباط على شمولية مختلف أطياف المجتمع السوري بطوائفه وأعراقه (من بين أسماء الضباط أكثر من ضابط أرمني وبمواقع قيادية). جدير بالملاحظة أيضاً أن الضباط من الطائفة العلوية لم يكن لهم وجود بين رتب القادة مع عدد قليل في رتب الضباط حديثي الانتساب، ولعل مرد ذلك أن التعليم المؤهل لدخول الكلية العسكرية في حمص منذ إحداثها (1932) لم يكن متوفراً في مناطقهم الجبلية آنذاك، لكن تلك القلة الملحوظة ذلك الوقت سرعان ما ستنقلب عكساً لتغدو ظاهرة طاغية في مرحلة لاحقة.