مقالات

باريس والإسلام… فرنسا في مواجهة نفسها

الدكتور إدريس الكنبوري

باحث وكاتب مغربي
عرض مقالات الكاتب

لم يكد يجف الحبر الذي كتبت به تصريحات الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، التي قال فيها إن الإسلام “يعيش أزمة في جميع أنحاء العالم”، حتى تسللت الأزمة إلى البيت الداخلي لفرنسا، وبات ماكرون في مواجهة محنة سياسية جديدة، بعدما ظهر للجميع أنه رئيس فاشل لا يعرف كيف يدير الأزمات الخارجية والداخلية، وأنه بموقفه العرجاء سيدخل فرنسا في شارع ضيق لا يوجد في نهايته مسلك.
فلقد كشف الإفراج عن الرهينة الفرنسية صوفي بيترونين، التي كانت محتجزة لدى الجماعات المسلحة في مالي منذ أربع سنوات، عن منعطف كبير في السياسة الخارجية الفرنسية وفي السياسة المحلية تجاه الإسلام والمسلمين، إذ فوجئ الرئيس الفرنسي، لدى استقبالها في مطار العاصمة باماكو إلى جانب مسؤولين ماليين وفرنسيين، أن الرهينة الفرنسية اعتنقت الإسلام. لقد سمع منها ذلك بأذنيه وسمع منها أن تدعو الله لمالي، وسمع منها أنها تريد العودة إلى مالي بعد أن تزور بلدها فرنسا، فأسقط في أيدي ماكرون.
وفي الوقت الذي طار فيه الرئيس الفرنسي إلى مالي متوقعا أن يحصل على هدية سياسية ثمينة يقدمها إلى الجسم الناخب في فرنسا، ويعرضها كعربون على نجاح سياسته الإفريقية، جاءت المفاجأة بعد أن انقلبت فرحته إلى حسرة، وهو يرى أمام عينيه مواطنة فرنسية ترد عليه تصريحاته بعد أقل من أسبوع من إلقائها على الملأ متبجحا بها، وتفخر أمامه باعتناقها الإسلام، وكأنها تقول له: كيف يكون دين في أزمة بينما تعتنقه مواطنة فرنسية كانت في الأسر؟.
وقد يكون الأمر عاديا في ظروف مختلفة، فالفرنسيون والفرنسيات الذين يعتنقون الإسلام سنويا يعدون بالآلاف، ولكن أن تعتنقه سيدة فرنسية كانت تحت الأسر لدى جماعات مسلحة في بلد إفريقي فتلك هي الصدمة الكبرى. ذلك أن المواطنين الفرنسيين الآخرون يعتنقون الإسلام في ظروف الحرية، لكن السيدة الفرنسية اعتنقته في ظروف الاعتقال والحجز، وهو ما يطعن في الكثير من المواقف المسبقة المغلوطة عن الإسلام عبر التاريخ بالنسبة لفرنسا والفرنسيين، تلك المواقف التي روجها المستشرقون والكنيسة حول استعمال الإكراه والعنف من لدن المسلمين لفرض الإسلام على الآخرين، إذ لو لم يكن اعتناق صوفيا بيترونين للإسلام بشكل اختياري وحر، لكان سهلا عليها التخلي عنه فور نزولها فوق أرضية المطار، ولكن الذي حصل هو أنها قالت للصحافيين إنها غيرت اسمها إلى مريم، وإنها تريد العيش في مالي، بما يدل على أن قلبها اطمأن للإسلام.
بيد أن المسألة أكبر حجما من ذلك. فأن تعلن الرهينة الفرنسية اعتناقها للإسلام أياما فقط بعد تصريحات ماكرون، والنقاش في فرنسا حول “الانفصالية” الفرنسية، فإن ذلك يعد خلطا للأوراق في الحكومة الفرنسية. فالمعروف حتى اليوم أن الحكومات الفرنسية المتعاقبة ظلت تعزف على وتر واحد، هو الذي يرتاح إليه اليمين بكل تلاوينه، وهو أن الإسلام دخيل على المجتمع الفرنسي، وأنه يرتبط بالجاليات المغاربية والمسلمة والجيلين الثالث والرابع من أبناء المهاجرين، أي أنه دين وافد، ومن تم فإن الحديث عن “الانفصالية الإسلامية” يشير أساسا إلى انغلاق طبقة من المهاجرين على أنفسهم بسبب ديانتهم. إلا أن حالة الرهينة الفرنسية دفعت إلى النور قضية ظل مسكوتا عنها في الإعلام الفرنسي وفي السياسة الفرنسية، هي قضية المسلمين الفرنسيين الذين ينتمون إلى التاريخ والحضارة الفرنسيين، والذين يشكلون جزءا من الأصول الدينية والحضارية والثقافية الفرنسية، ولا يمكن لأي حكومة فرنسية أن تهددهم بسحب جنسياتهم مثلا، كما تهدد المسلمين الفرنسيين أبناء المهاجرين، أو طردهم خارج البلد، أو عزلهم اجتماعيا، وذلك نتوقع أن يتخذ النقاش حول الإسلام في فرنسا مستوى جديدا في السنوات المقبلة.
ولا ينبغي أن تفوتنا قضية على قدر كبير من الأهمية، تمس السياسة الفرنسية والازدواجية الخطرة التي تدبر بها الحكومات الفرنسية شؤون البلدان الإفريقية، وتمس مواقفها الانتهازية من الجماعات المسلحة، التي تستخدمها باريس من أجل التوغل في افريقيا لتحصين مصالحها.
تتعلق هذه القضية بالتفاوض مع الجماعات المسلحة، فالرهينة الفرنسية تم الإفراج عنها بعد شهور من المفاوضات الشاقة، قدمت خلالها فرنسا تنازلات لهذه الجماعات ممثلة في إطلاق سراح عدد من الأسرى من هذه الجماعات، مقابل الإفراج عن أربعة رهائن، بينهم “مريم بيترونين”. والسؤال هو: لماذا تفاوض فرنسا الجماعات التي تنعتها بالإرهابية وتقدم لها تنازلات، وتورط الحكومات الإفريقية؟ أليس في تلك المفاوضات اعتراف بها وبشرعية قضيتها؟ ولماذا كانت باريس تنصح العواصم الإفريقية، ومنها الجزائر، بعدم التفاوض مع “الإرهابيين”، حتى لا يشكل ذلك اعترافا بهم؟.
ونعتقد أن من شأن هذا الموقف الجديد لفرنسا أن يقنع البلدان الإفريقية بتغيير سياساتها ناحية باريس، والدفاع عن مصالحها بصرف النظر عن إملاءات الحكومات الفرنسية، التي يمكنها أن تنقلب سريعا على جميع التعهدات والاتفاقيات إذا بدا لها أن مصالحها تكمن في خرقها، بل أن تتحالف مع الجماعات المسلحة إذا تبين لها أنها ستكون رابحة معها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى