بحوث ودراسات

السلطة الدينية (الثيوقراطية) – البابوية مثالاً (2)

محمد الحاج

باحث وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

انتشار المسيحية: انتشرت المسيحية سريعا، بعد خروجها من فلسطين إلى سوريا، ثم إلى آسيا الصغرى، ثم إلى بلاد اليونان، ثم إلى الغرب الأوربي عموما. ولم يكد ينتهي القرن الأول، إلا وكانت كل ولاية رومانية، مطلة على البحر الأبيض المتوسط، تضم بين جوانبها جالية مسيحية، وكانت الجالية المسيحية في روما، ملحوظة منذ 64 م … وجاء انتشار المسيحية أفقيا بين الطبقات الفقيرة، وعموديا – وإن بصورة أقل – عند الطبقات الغنية. (1)

وقد سهل ذلك الانتشار، ما قام به ” القديس بولس في تنظيم المجتمعات المسيحية الأولى، ووضع قواعد اللاهوت، وما يرتبط  به من فلسفة المسيحية، المتعلقة بالأخلاق والأخريات، كالموت والبعث والحساب والخلود. فضلا عن جهوده في وضع دعائم الكنيسة الكاثوليكية العالمية “.(2) كما سهله ” ظروف الإمبراطورية من شبكة واسعة من الطرق الضخمة، ربطت مدنها وأطرافها، والأمن والسلام، ونشاط التبادل التجاري في مختلف أجزائها. وسهولة انتقال الآراء والأفكار والمعتقدات، بين مختلف أنحاء الإمبراطورية، لسيادة اللغة اللاتينية في أجزائها الغربية، واليونانية في أجزائها الشرقية “. (3)

على أن تعاليم المسيحية، التي تغلغلت في المجتمع الروماني، لم تكن محل ترحيب باستمرار في العقلية الرومانية. فقد كان وجود الكنيسة كمنظمة دينية منفصلة عن الدولة، غريب عن العقلية الرومانية والفكر الروماني. ففي النظام الروماني، تقوم فئة من كبار الموظفين، بمسك زمام جميع الوظائف الكبرى في الدولة، من سياسية ومدنية وحربية ودينية، مع ترك حرية العقيدة لكل مواطن روماني، طالما يعترف بآلهة الدولة، وأن عقيدته لا تهدد سلام الإمبراطورية، ويعترف بعبادة الإمبراطور القائم، ولم يُعفَ من هذا الإجراء أي – عبادة الإمبراطور -، إلا اليهود، في حين لم يتمتع المسيحيون بهذا القدر من الحرية الدينية. (4)

أسباب اضطهاد الرومان للمسيحية: ببروز الاختلاف بين ما تنشده المسيحية، وما تقتضيه السياسة العامة للدولة الرومانية، بدأت تتغير نظرة الأخيرة تجاه المسيحية، وتطورت حتى ممارسة الاضطهاد. وكانت الأسباب:

ا – السبب الأول: تغير وسط انتشار المسيحية: صحيح أن الحكومة الرومانية لا تعنيها العقائد، طالما لا تتعارض مع مقتضيات السياسة العامة للدولة، وكانت تنظر للنصرانية على أنها طائفة يهودية، فتسري عليها ما ينطبق على اليهود وغيرهم من تسامح إزاء معتقداتها وعباداتها. ” ولكنها احتفظت لنفسها، بحق التدخل أو اتخاذ إجراءات عنيفة ضد أي ديانة، تشكل خطرا على النظام العام، أو الأخلاقيات العامة. ومن هذا المنطلق، غيرت الإمبراطورية من سياستها، عندما

رفض أتباع المسيحية  … تقديس الأباطرة وعبادتهم، وإحراق البخور أمام تماثيل الآلهة، دليلا على ولائهم للإمبراطورية “. (5)

وبعد أن لاحظت الحكومة الرومانية، سرعة انتشار النصرانية التي بدأت من فلسطين، وجدت أنها تنتشر في أوساط جديدة، غير الوسط اليهودي الأصلي،” فقد انتشرت  بين اليهود اليونانيين، وبين الوثنيين، في بلاد سورية وآسيا الصغرى،… حتى بلغت الدعوة للدين المسيحي قصبة الإمبراطورية نفسها على يد بولس. وظهر واضحا للناس أن هذه الدعوة، إنما هي لديانة جديدة تختلف عن اليهودية، وخاصة بعد أن أدخل عليها بولس تعديلاته وبصماته، وأحس الرومان بذلك، فبدأت المخاوف والشكوك، تدخل في نفوسهم إزاء هذه الدعوة الجديدة “. (6)

يقول بيوري في كتابه حرية الفكر: ” على أن الدين اليهودي كان محتملا، طالما كان محصورا في اليهود الأصليين، أما وقد بدا في الأفق أن هذا الدين سيتناسل وسيتكاثر في صورة المسيحية، فقد كان ذلك مشكلة جديدة تستحق الاعتبار، وإن رئيس الدولة لابد أن يتملكه الريب حينما يرى توسع دين يعارض جميع الأديان ويبادئها  العداء … دين وُسِم أتباعه بأنهم أعداء الجنس البشري ، أفلا يُعدُّ انتشاره إلى غير اليهود خطرا داهما على الإمبراطورية، ألم يكن ذلك الدين يناقض في روحه أساس المجتمع الروماني وتقاليده “. (7)

ب – السبب الثاني:  سبب ديني يتعلق بنظرة النصارى إلى الدنيا، ولكنه فُسِّرَ تفسيرا سياسيا، من قبل الحكومة الرومانية. ” فمسيحيو العهد الأول آمنوا بأن نهاية العالم وشيكة الوقوع، وتطلعوا بآمالهم إلى  يوم القيامة ، فقلَّ اهتمامهم بواجبات وهموم الحياة الدنيوية، وأصبح حب مملكة القدس السماوية في قلوبهم، يضر بمصالح الوطن الروماني بصورة واضحة: كانت الخدمة العسكرية بغيضة إليهم، لأنها تنطوي على فروض وثنية، … وبدت مشاركتهم في الخدمة المدنية وكأنها شيء لا جدوى منه، ثم أصبحوا يرفضون بعناد الإسهام في كل مظاهر التأييد التي تطلبها حكومة الإمبراطورية “.(8)

نظرة المسيحية المتشائمة تلك وتوقعها قرب زوال العالم، جعلت الحكومة الرومانية، تتوجس خيفة من زوال الدولة نفسها، لذا ” الدولة أحست بالإنزعاج عندما اكتشفت أن أتباع الديانة الجديدة، اعتبروا أن الدنيا زائلة وشيكة الفناء، على خلاف الوثنيين الذين يقدرون دنياهم وحضارتهم، ولذلك اعتبرت السلطات الرومانية المسيحيين مواطنين  يملؤهم الشر، وعنصرا خطرا في المجتمع، لابد من خضوعه للدولة. وبعبارة أخرى رأت في المسيحية، ثورة اجتماعية تعمل على تقويض أركان المجتمع الروماني ونظمه وتقاليده  “.(9)

السبب الثالث: سبب اجتماعي: اضطهد الرومان النصارى، لشعورهم بأن الدين الجديد، ينقض

الأسس التي قام عليها المجتمع الروماني. فالنصرانية تدعو إلى المساواة بين البشر، والتسامح بين الناس، أما الطبقات الحاكمة الرومانية، فكانت تميز بين الناس … وتُعِدُّ السعي إلى القوة والجاه والثروة أمرا مشروعا. ثم إن من يعتنق النصرانية من أسرة رومانية، يرفض الاشتراك في عبادة الأسرة، أو في بعض ألوان الحياة العائلة كضرب التسلية، لذلك رأت الحكومة الرومانية في النصرانية ضررا، إذ تعمل على تقويض أركان المجتمع ونظمه وتقاليده، فاعتبرت النصارى فئة خارجة عن الجماعة . (10)

واعتمادا على تلك الأسباب، بدأت الحكومة تعتبر اعتناق المسيحية، جرما في حق الدولة، فمنعت اجتماعات المسيحيين، وأخذت تنظم حملات الاضطهاد ضدهم، وقد شارك في تلك الحملات حكام معروفون بجبروتهم (نيرون)، وحكام مصلحون معروفون بحرصهم على تنفيذ القوانين، مثل تراجان وهادريان. (11)

انتهت قرون الاضطهاد، بوصول قسطنطين إلى السلطة، وبإصداره مرسوم ميلان 313 م الشهير، معترفا بوضع المسيحية كإحدى الشرائع المصرح باعتناقها داخل الإمبراطورية. وأتبعه بخطوة أخرى، هي نقل العاصمة من روما إلى القسطنطينية، فهجر روما الخالدة، إلى عاصمته الجديدة في الشرق. وأصبح العالم على أبواب عصور وسطى جديدة، لم تعد فيها روما مركز الإمبراطورية من جهة، وأصبحت المسيحية ورجالها، بمثابة القوة الفعالة في المجتمع الأوربي، من جهة أخرى. (12)

الهوامش:

  1. د. سعيد عبد الفتاح عاشور، و د. إسمت غنيم، تاريخ أوربا في العصور الوسطى، الجزء الأول، ص 31- 32
  2. روستوفيسيف مؤرخ روسي، والنقل عن عاشور، ص 31
  3. عاشور، ص 32 بتصرف
  4. عاشور، ص 33 بتصرف
  5. د. محمود محمد الحويري، رؤية في سقوط الإمبراطورية الرومانية، دار المعارف ط3 1995، ص 59 
  6. د. أحمد عجيبة، موسوعة العقيدة الأديان، تأثر المسيحية بالأديان الوضعية، دار الآفاق العربية، ص 60 بتصرف
  7. ج. بيوري، حرية الفكر تعريب عبد العزيز اسحاق تقديم إمام عبد الفتاح إمام، المركز القومي للترجمة، ص 42
  8. شارل جيني بير، المسيحية: نشأتها وتطورها، ترجمة د. عبد الحليم محمود، منشورات المكتبة العصرية صيدا بيروت، ص 166
  9. الحويري، ص 59
  10. عجيبة، ص 63 – 64 بتصرف
  11. عاشور، ص 34 بتصرف
  12. عاشور، ص 36 بتصرف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى