فرنسا وتركيا الملفات الشائكة ومستقبل العلاقات

تُعّرّف العلاقة بين انقرة وباريس على أنها علاقة مبينة على عدم وجود ثوابت دائمة، مقارنًة مع حجم التقلبات والمتغيرات على مدار عقدين ماضيين، وتعود طبيعة الخلافات إلى حقب تاريخية قديمة كقضية الأرمن وما رافقها من صراع أيديولوجي وصل مؤخرًا حول مسألة تقرير مصير أيا صوفيا، إلى جانب خلافات ظهرت في إدارة الأزمة السورية وموقف الطرفين من قضية الأكراد، وقضايا الغاز والطاقة في شرق المتوسط، والتموضع الاستراتيجي في شمال إفريقيا.
مقدمة
تشهد العلاقات بين تركيا وفرنسا حالة عدم يقين وتأرّجح منّزلق وصل مؤخرًا لحد تبادل الاتهامات والمناوشات العملية في ليبيا ومياه شرق المتوسط، حيث قادت المتغيّرات في الساحة الليّبية إلى تفجير خلاف علني بين الطرفين بسبب تضارب مصالحهما وتداخلها مع لاعبين آخرين منخرطين في النزاع الليبي.
انطلاقًا من هذه التحول الاستراتيجي في ليبيا، تبادلت كل من أنقرة وباريس حملة من الاتهامات والتراشق الدبلوماسي، بعد وقوفهما على نقيض في دعم أطراف محلية ليبية بين الشرق والغرب، حيث اتهم الرئيس الفرنس إيمانويل ماكرون الحكومة التركية أكثر من مرة على أنها تلعب دورًا خطيرًا في ليبيا عبر دعمها لحكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج وإسنادها بمقاتلين أجانب من خارج ليبيا وانتهاكها للحظر المفروض على التسليح بموجب عملية إيريني التي تقودها.[1]
يُضاف للامتعاض الفرنسي رفضها سلوك انقرة داخل حلف الأطلسي إذ تتهمها باستغلال سياسات الحلف لصالح تطلعاتها في المنطقة، محاولةً بذلك تأليب رأي قادة الناتو على السياسيات التركية، وهو ما آل إلى مطالبة فرنسية رسمية بإعادة النظر في عضوية تركيا داخل الحلف بعد حدوث مناوشات عملية في مياه المتوسط، رافقه حديث فرنسي عن تعرّض إحدى سفنها لعمل عدواني من قبل زوارق بحرية تركية، قالت فرنسا إن أنقرة تقف وراءها واتهمتها بمنع فرقاطة فرنسية من تفتيش سفينة متجهة إلى الشواطئ الليبية.[2]
مقابل ذلك لم توفر انقرة أي فرصة للرد على فرنسا سواء حول طبيعة الخلاف الراهن في ليبيا، أو في عمليات التنقيب التي تقوم بها في مياه شرق المتوسط قبالة السواحل اليونانية القبرصية، إلى جانب ردود في بقية القضايا الخلافية كقضية الأرمن، والأزمة السورية حول قضية دعم الأكراد، ومسائل الهجرة وحقوق الإنسان ومسار مفاوضات عضويتها داخل الاتحاد الأوربي.
اللافت أن الساحة الليبية رغم أنها تشهد تعدّد لقوى دولية، غير أنَّها لم تصل لحد النفور البيني أو الاصطدام بين اللاعبين التقليدين كفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، مقارنًة مع الحالة التي وصلت لها كل من انقرة وباريس، ويعزى ذلك إلى ظهور حالة تنافس حادة بين قوتين صاعدتين متنافرتين، الأولى فرنسية بقيادة الرئيس ماكرون والذي أصبح يطمح لأن تكون بلاده مهيئة كبديل قادم للقاطرة الأوربية بعد انسحاب بريطانيا، إلى جانب حرصه على استعادة دور فرنسا في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
مقابل ذلك تسعى تركيا إلى توسيع خريطة تحالفاتها الجيوسياسية منذ 2009 حينما بدأت تركز اهتمامها على منطقة الشرق الأوسط والقارة الإفريقية بهدف البحث عن موطئ قدم لها يعود عليها بالنفع كقوة موجودة أمام أي نظام دولي جديد.
بالتالي فإنّا إسراع الطرفين النقيضين في تعزيز وجودهما الجيوسياسي في الساحة الدولية أفصح بشكل أكبر عن دوافعهما العملية في المنطقة، وكشف بذات الوقت عن حجم الهوة والتباعد في المواقف، وزاد من حالة التصدع في مسار العلاقات التي وصلت الآن لمستويات متدنية، مما طرح تساؤلات عن مـألات هذه العلاقة ومستقبلها.
وبهدف محاولة التكهن بمآل سير العلاقات، لا بد من التطّرق لتفنيد مواقف البلدين في هذه الملفات بسبب ارتباطها جميعها في سياق توجهات السياسية الخارجية لكلا الدولتين تجاه المنطقة.
تناقش الورقة مسار العلاقات الفرنسية التركية في عدة قضايا لا تزال عالقة ومستقبلها.
الخلاف في سورية
تُعارض فرنسا دور تركيا المتنامي في سورية منذ بدء توغلها في عمليات جرابلس – عفرين – 2016ـ ومناطق شرق الفرات في عملياتها الأخيرة تحت مسمى نبع السلام، وتنظر لسلوك أنقرة على أنه عدائي ومقلق لعمليات الاستقرار خصيصًا في مرحلة صعود وتنامي تنظيم الدولة داعش، حيث تضع فرنسا محددات أمنية في التعامل مع هذا الملف منذ تعرضها لعمليات إرهابية بعد 2015، إلى جانب توجّسها من مخاطر عودة الأجانب الفرنسيين المنخرطين داخل صفوف المقاتلين.[3]
ومن هذا المنطلق اختلفت مع تركيا حول قضية الأكراد، حيث تعد هذه المسألة ذات حساسية عالية بالنسبة لتركيا ولأمنها القومي ولها سجل تاريخي في الصراع التركي الكردي استمر لأكثر من 30 عام، ويبدو أنه تجدّد مع بدء موجة الاحتجاجات في سورية 2011.
الموقف التركي كان واضحًا لا سيما بعد تنامي خطر التنظيمات BKK-BYD- YBK، في حدودها الجنوبية والتي تعتقد أن غايتها النهائية إقامة كيان كردي ذاتي على طول شريطها الحدودي مع سورية يصل لمشارف البحر المتوسط، وهو الأمر الذي ترفضه جملة وتفصيلًا وتسعى عبر مفاوضات طويلة مع الولايات المتحدة لإنهاء مخاوفها، وتردد دائمًا أن وحدات حماية الشعب هي ذراع لحزب العمال الكردستاني المصنف لديها على قوائم الإرهاب.[4]
على النقيض فإن باريس تحاول إظهار امتنانها للفصائل الكردية في سورية، وتدعي أن لها الفضل في محاربة تنظيم الدولة داعش، بالتالي لم تُخفِ سلوكها في دعمهم واستضافة بعض قياداتهم في قصر الإليزيه، كما أنها حاولت أكثر من مرة لعب دور وساطة بالتنسيق مع روسيا لتقريب وجهات النظر بين الأكراد والنظام السوري، لكن قوبلت تلك المحاولات بالرفض التركي القاطع مع مطالبتها بالكف عن دعمهم.[5]
في هذا الملف يبدو الموقف التركي أكثر وضوحًا من الموقف الفرنسي على اعتبار أن انقرة تعتبر هذه القضية مسألة أمن قومي، مما يدفع للبحث عن أسباب دعم فرنسا لبعض الفصائل الكردية كأداة للضغط على تركيا في أكثر من ملف، بعيدًا عن منطلقات باريس النظرية من رؤيتها الأمنية لدعم الأكراد إلا أن أسبابًا أخرى تبدو عملية وواضحة في سياق سلوكها وفقً التالي:
- التواجد الفرنسي في سورية ينطلق أولًا من محدد جيواستراتيجي عبر السعي لحجز موطئ قدم تسعى من خلاله جعله ركيزة لإعادة تواجدها في منطقة الشرق الأوسط، لذلك شاركت في عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولي في سورية، ونسجت تفاهمات عدة مع جميع الأطراف السورية على رأسها الفصائل العربية والكردية التي المشاركة في العمليات البرية.
- عززت وجودها البري تحت ذريعة أن القوات الفرنسية المرسلة ستُقدم مهام استشارية وتدريبة للقوات التي ستنفذ عمليات عسكرية ضد التنظيمات الراديكالية، وبموجبه أرسلت في 2016 – 70 عنصرًا من القوات الخاصة تمركزت في تلة ميشتانور، وبلدة صرين، ومصنع “لافارج” الفرنسي للإسمنت، في قرية “خراب عشق، في ريف حلب شمالي سوريا، وعين عيسى في ريف الرقة، بالإضافة إلى 30 جنديًا في مدينة الرقة.[6]
- تُحاول فرنسا الاستفادة من زيادة فعاليتها في سورية وتوسيع دائرة نفوذها خاصة بعد إعلان الولايات المتحدة انسحابها من سورية، حيث تخشى ف من أن تخلو الساحة للاعب الروسي على حسابها في قضايا الإعمار وملفات الطاقة والغاز وهو أمر بات ملح لتوجهات ماكرون الخارجية في ظل الظروف الاقتصادية الهشة التي تمر بها بلاده.
- الخشية من عودة الجهادين الفرنسيين وتنامي مهدداتهم على الهوية الفرنسية المسيحية، لذلك ترفض فرنسا جهود تركيا في تأمين عودة الأجانب الجهادين.
- · يوجد هدف جوهري من دعم فرنسا لقوات سورية الديمقراطية، فعبر نسج علاقات متشعبة معهم تستطيع من وراء ذلك الحصول على معلومات مستمرة عن المقاتلين الفرنسيين بهدف منعهم من العودة للبلاد.[7]
- تقوية موقفها مع الأكراد كسياسة ندية ضد تركيا بهدف الضغط عليها في أكثر من ملف أهمها مسائل التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، والملف الليبي وشمال إفريقيا، حيث تعتقد فرنسا أن تنامي دور تركيا هناك يشكل تهديدَا على مصالحها الاقتصادية والأمنية في منطقة نفوذها التقليدية كمالي والتشاد.
توتر شرق المتوسط
الخلاف الفرنسي التركي في شرق المتوسط مرتبط بإشكالية التنافس مع عدة دول كبرى على مسائل توزيع الحصص والتنقيب على الغاز منذ أن تم اكتشاف أول حقل في 2009، حيث تسعى عدة قوى إلى جانب شركات أوربية حجز أكبر حصة لها من الاحتياط الغازي البديل على النفط، وبسبب أن الثروات الغازية مكتشفة قبالة سواحل فلسطين واليونان وتركيا ولبنان وسورية ومصر وليبيا، تسارعت خطوات الدول الكبرى وشكلت عملية اصطفافات تبلورت بعقد اتفاقيات أحادية وثنائية بين قبرص اليونان وإسرائيل والولايات المتحدة ومصر وشركات أوربية في الفترة بين 2013- و2019،[8] كذلك تم تشكيل ما بات يُعرف بمنتدى غاز شرق المتوسط 2019، بقيادة مصر، وقد هدفت هذه الخطوة لتشكيل مركز عالمي للغاز والتحكم به على حساب حصص الدول التي لا تتمتع بإمكانات فرض قوة سيادية لنزع حصتها، باستثناء تركيا التي عملت على فرض واقع سياسي جديد وخلطت كامل الأوراق في مسائل غاز شرق المتوسط حينما وقعت اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع حكومة الوفاق الليبي برئاسة فايز السراج في نوفمبر 2019.
شكلَت هذه الخطوة عملية استفزازية بالنسبة لليونان التي تختلف مع تركيا حول عدة قضايا من بينها حقوق التنقيب في بحر ايجه والنزاع في قبرص المنقسمة منذ سبعينات القرن الماضي.[9]
وفي ظل زخم الصراع بين تركيا واليونان دخلت فرنسا على الخط وأظهرت دعمها بشكل علني لمواقف آتينا بهدف الضغط على تركيا، لا سيما بعد تجاهل الأخيرة التحذيرات الأوربية في سياق استمرارها تنفيذ عمليات تنقيب على الغاز في المناطق البحرية المتداخلة مع جزيرة قبرص اليونان التي تعتبرها تركيا على أنها ضمن حصتها البحرية.
على إثر ذلك عززت اليونان مطلع يناير- 2020 تعاونها الاستراتيجي مع باريس، وأعادت تفعيل اتفاق عسكري مع واشنطن،[10] على أمل كسب دعمهما بمواجهة جارتها تركيا، وجذب قدراتهما الاستثمارية. كما شاركت فرقاط يونانية في مهمة إلى جانب حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول في شرق البحر المتوسط، في إبريل الماضي، فضلًا عن لجوء فرنسا لمناورة سياسية في عرضها طلب الانتساب للمنتدى الغازي الذي تقوده مصر بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي.[11]
وبموجب التقاء المصالح بين اليونان وفرنسا أصبحت المواقف متقاربة في رفض ثنائي للجهود التركية حول مسائل التنقيب المستمرة في سواحل جزيرة قبرص اليونانية ودورها المتنامي في ليبيا. ويمكن تفسير الرفض الفرنسي لسلوك تركيا في أزمة شرق غاز شرق المتوسط وفقًا لعدة اعتبارات.
- العلاقات التقليدية الوثيقة بين اليونان وفرنسا، من جهة، وتوتر العلاقات الفرنسية-التركية، على خلفية صدام الدولتين في سوريا وليبيا، من جهة أخرى، دفعت باريس إلى اتخاذ موقف صريح في مساندة الموقف اليوناني.
- باريس باتت تخشى من تنامي الدور التركي في شرق المتوسط أن يكون على حسابها، خصيصًا أنها كانت تحاول إحياء اتفاقية قديمة لها 2010 حول مسائل التنقيب على الغاز في حوض النالوت الليبي.[12]
- زيادة مخاوفها على عقودها الاستثمارية منها عقود شركة “توتال” الفرنسية مع قبرص اليونانية للتنقيب عن مكامن الطاقة. كما وقعت باريس في مايو الماضي مع نيقوسيا اتفاقية تنص على التعاون في المنطقة المتنازع عليها بشرق المتوسط.[13]
خلافات تاريخية (قضية الأرمن- عضوية تركيا الأوربية- صراع أيديولوجي)
لم يكن الملف الليبي هو الخلاف الوحيد بين انقرة وباريس، بل يوجد عدة ملفات عالقة أعيد إحياؤها من جديد في ظل التوتر الحالي.
قضية الأرمن: أعاد الرئيس الفرنسي طرحها من جديد حينما أعلن في 13 أبريل الماضي، عبر مرسوم رئاسي أن يوم 24 أبريل هو يوم ذكرى إبادة الأرمن ليحقق بذلك أحد تعهداته التي قطعها أثناء حملته الرئاسية في عام 2017. وقد أثار هذا القرار غضبًا تركيًّا عارمًا وتنديدًا من قبل أنقرة، لا سيما وأن الجمعية الوطنية الفرنسية كانت قد اعترفت بمجازر الإبادة في عام 2011.[14]
ويعود هذا الخلاف إلى حقبة تاريخية حيث تفيد تقارير غربية أن الدولة العثمانية ارتكبت خلال فترة الحرب العالمية الأولى مجازر ضد الأرمن أسفرت عن مقتل قرابة مليون وأربعمئة ألف أرميني، فيما تقول تركيا أن عدد هؤلاء لا يتجاوز ثلاثمائة ألف، وإن ذلك حصل بسبب ظروف الحرب، وتضيف أنقرة أن حل القضية لا يُمكن أن يكون من خلال إقرار قانون الإبادة، وإنما بنوع من المصالحة التاريخية. فهي تخشى من أن يؤدي هذا الاعتراف إلى تجريم التاريخ التركي، وما يترتب على ذلك من تداعيات قانونية وسياسية وتعويضات مالية.
عضوية تركيا الانضمام للاتحاد الأوربي: هي إحدى أهم القضايا الخلافية ليس فقط على صعيد العلاقة بين تركيا وفرنسا وإنما مع كامل دول الأعضاء داخل الاتحاد الأوربي، وتعود جذور المسألة إلى بداية العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوربي منذ توقيع نظام اتفاق الشراكة بتاريخ 12 أيلول/سبتمبر 1963 ودخوله حيز التنفيذ بتاريخ 1 كانون الأول/ديسمبر 1964 وقد تضمنت الاتفاقية عدة شروط يجب على أنقرة أن تمر بها لتحقيق تكاملها مع الاتحاد الأوروبي وهي المرحلة التحضيرية والمرحلة الانتقالية والمرحلة النهائية. [15]
وقد مرَّ هذا الملف بين مد وجزر وتطور بشكل ملحوظ وإيجابي لصالح تركيا في حقبة الرئيس الفرنسي جاك شيراك والذي كان مؤيدًا لانضمام تركيا للاتحاد، لكن الموقف الفرنسي تغيَّر منذ 2006 تحديدًا عندما أوصت المفوضية الأوروبية بوقف مفاوضات الانضمام الجارية مع تركيا، ولو جزئيًا، بسبب تواصل رفض أنقرة لفتح موانئها البحرية والجوية أمام السفن والطائرات القبرصية، ورفضها أيضًا الاعتراف بعضوية قبرص في الاتحاد الأوروبي. لذا طُلب من تركيا الاعتراف الأحادي الجانب بقبرص لكن الأخيرة رفضت ذلك.
ازداد الخلاف في هذا الملف مع وصول ماكرون لقصر الإليزيه فبعد مضي عام على اعتلائه سدة الحكم قال “حان الوقت كي نضع حدًا للنفاق المتمثل في التظاهر بأن ثمة إمكانية لتحقيق تقدم في مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي”.[16] وقد فُهم من هذا التصريح أن فرنسا لا يمكن أن تقبل بوجود دولة ذات مرجعية إسلامية داخل الاتحاد.
مقابل ذلك كانت أنقرة قد سئمت من عملية المفاوضات التي هدفت على ما يبدو إلى توظيف الموضوع سياسيًا ضدها في عدة قضايا أخرى، مما دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى اتهام اتهم عمليات التكتل داخل الاتحاد بالمخادعة، حيث أشار إلى أن غالبية الأتراك لم يعودوا يرغبون في الانضمام إلى الاتحاد الأوربي.
وربما قد تتخلى تركيا نهائيًا عن مسألة الانضمام للاتحاد الأوربي بعد أن حدث تغيير طارئ في سياساتها الداخلية والخارجية منذ عملية الانقلاب الفاشل في 2016، فمنذ ذلك الحين وهي تعمل على إعادة النظر في تحالفاتها الاستراتيجية، والتي تركزت نحو منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
نزعة الأيديولوجيا:
في شهر فبراير الماضي دع الرئيس الفرنسي ماكرون إلى ردع ما وصفه بالتطرف الإسلامي حيث ادعى أنه يُزعزع أمن واستقرار أمن بلاده، فألقى خطابًا حازما عند زيارته مدينة ملوز في شمال شرق البلاد التي تعد معقلًا رئيسًا للجالية الإسلامية، قال حينها أنه سيفرض رقابة أكبر على الأئمة الأجانب، وتمويل دول أجنبية للمساجد في بلاده، مشددا أنه سيمنع الأئمة القادمين من دول إسلامية الذين يحصلون على أموال من هذه الدولة الإسلامية.[17] وقد بدا الخطاب أن موجهًا بشكل مباشر لتركيا. كما تطرق أيضًا إلى أن بلاده لن تسمح بتطبيق القوانين التركية على الأراضي الفرنسية.
بعد هذا الخطاب بدأت بعض وسائل إعلام بعملية تقصي حول هذا الملف بهدف إثارة رأي عام داخل فرنسا ضد تركيا، خصيصًا في مناطق شمال شرق البلاد التي ادعت فرنسا أنها منطقة ينشط فيها نفوذ تركيا في تعزيز العقلية الدينية للإسلام، وقد وسم المسلمين في فرنسا بالانفصالين والمتطرفين ما يُشير إلى عملية الخلط في المفاهيم والمصطلحات التي تسيء للجالية العربية والمسلمة في فرنسا.
الرواية الفرنسية تبدو متناقضة ويشوبها نوع من الخلل لأن ما يتم الحديث عنه يهدف إلى عملية توظيف سياسي للجالية العربية والإسلامية بشكل مخالف للمبادئ الديمقراطية وحرية الرأي التي تدعي فرنسا أنها متمسكة بها، وقد أثارت خطابات ماكرون المتكررة عن ردود أفعال قوية من قبل رموز الجالية الإسلامية الفرنسية حيث عبر أنور كبيبش، رئيس مجلس الديانة الإسلامية سابقا، ورئيس المنظمة الإسلامية تجمع مسلمي فرنسا، عن تحفظه بشأن تعبير “الانفصال”، مؤكدا أن بعض مظاهر الانفصال عن المجتمع وقيم الجمهورية الفرنسية ليس بسبب التشدد في مظاهر التدين، ولكن أحيانا كثيرة بسبب عوامل اقتصادية واجتماعية، بينها الفقر والتهميش والإقصاء والعنصرية.[18]
ويشار إلى أن وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاستانير كان قد أكد في شهر شباط/ فبراير الفائت أن فرنسا قد أبلغت كلا من المغرب والجزائر وتركيا بقرار تخفيض عدد الأئمة الوافدين من هذه الدول اعتبارا من هذا العام، وأنها لن تستقبل أي إمام أجنبي بحلول عام 2024،
ويعد هذا الملف شديد الحساسية بين أنقرة وباريس لأنه يمس جوهر الهوية الأيديولوجية للبلدين وإنَّ إثارته الآن من قبل باريس لم يكن حدث اعتباطي بل جاء في سياق توتر العلاقة في الملف الليبي.
ليبيا- تضارب في المصالح
احتدم الخلاف بين البلدين في ليبيا بعد أن استشعرت فرنسا أن مصالحها التقليدية باتت في خطر أمام فعالية تنامي الدور التركي الروسي في ليبيا، حيث آل هذا الدور إلى جانب تقارب تركيا مع حكومة الوفاق الليبي إلى تراجع أدوار اللاعبين التقليدين في ليبيا إلى الخلف، تجلّى ذلك منذ خسارة خليفة حفتر مدن الساحل الليبي وفشله في إسقاط العاصمة طرابلس، وخسارته قاعدة الوطية الاستراتيجية.[19] ومن المعلوم أن فرنسا كانت تُعول من وراء دعمها لمعسكر حفتر على تثبيت مصالحها الاستراتيجية في مناطق الجنوب والساحل الإفريقي، لكن يبدو أن موقعها الآن داخل منظومة المتغيرات الاستراتيجية الليبية هو الأضعف، مقارنة مع صعود دور روسي متناغم مع تركيا، ودور إيطالي متقارب مع تركيا تم الكشف عنها من خلال عدة زيارات لوزير الخارجية الإيطالي إلى طرابلس وأنقرة أواخر الشهر حزيران/ يونيو- 2020.[20]
مع هذه التطورات فإن مصالح فرنسا في ليبيا والساحل الإفريقي باتت مهددة، أكثر من أي وقت مضى، ويمكن فهم رفضها للسلوك التركي من خلال طبيعة المصالح التي تسعى لتحقيقها، فمنذ العام 2012، كثّفت باريس من تواجدها العسكري في منطقة الساحل الإفريقي لحماية مصالحها الحيوية والأمنية، وأنشأت قواعد عسكرية عدة منها قاعدة إنجامينا بتشاد، ونيامي في النيجر، وغاو في شمال مالي، وقاعدة للقوات الخاصة في بوركينا فاسو. وقد بلغ الحجم المعلن للقوات الفرنسية المنتشرة هناك أربعة آلاف جندي فرنسي، مزودين بعشرات طائرات الهليكوبتر، ومئات العربات المدرعة، وطائرات مقاتلة وأخرى بدون طيار.[21]
على صعيد الاقتصاد لديها رؤية تسعى إلى تنفيذها فباريس ترى أن لها نصيب من تركة الحرب الليبية بما فيها الحصة من ثروات البلاد، لذا فهي تسعى إلى تفعيل الاتفاقيات النووية القديمة والتي تعود إلى سنة 2007، كما أنها ترغب في تأمين طريق الغاز المستمر من النيجر الى الجزائر إلى أوروبا وطريق التبادل التجاري، لأوروبا المار من شمال إفريقيا.[22]
من هنا تعتبر باريس أن تدخل أنقرة في ليبيا غير مقبول وأنها لن تسمح به، ولمنع تنامي دورها ذهبت مؤخرًا إلى التواصل مع كل من بوتين وترامب لتحجيمها.[23]
مقابل ذلك تسعى تركيا إلى توسيع نفوذها في القارة الإفريقية وشرق المتوسط، لنزع مكاسب اقتصادية وجيوسياسية، وتحاول مؤخرًا استثمار نجاحاتها العسكرية في المنطقة لإضفاء شرعية دولية على دورها المستقبلي في النظام الدولي والاقتصاد العالمي لاسيما في مشاريع الغاز والطاقة.
مستقبل العلاقة
نقطة الخلاف الحالية متوقفة على إيجاد صيغة توافقية لوقف إطلاق النار في ليبيا، بين مسارين متنافرين (برلين- مبادرة القاهرة) تركيا تحاول إقناع جميع الأطراف بالعودة إلى مخرجات مؤتمر برلين، بينما فرنسا تريد تفعيل مبادرة القاهرة التي أعلن عنها الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي في شهر حزيران/ يونيو- 2020.
وفي ظل استمرار نبرة الاتهامات المتبادلة بين الطرفين رغم هدوء وتيرة الأعمال العسكرية عند حدود خط سرت الجفرة، إلا أنّه يبدو أن التوتر لا يزال آخذًا نحو تصعيد حاد، فرغم إجماع الطرفين على نقطة توافقية في الحل السياسي للأزمة الليبية واستبعاد أي حسم عسكري، إلا أنّ تباين المواقف حول هذا المسار قد يُعيد خلط الأوراق من جديد، ويزيد من حجم الهوة في العلاقات بين البلدين في أكثر من ملف.
مع ذلك يبدو أن التوتر الأخير قد يكون مؤقت ومرحلي يُضاف إلى بقية الملفات العالقة، بسبب أن الكلمة الفصل في الملف الليبي ستكون لروسيا ولأمريكا، فهما اليوم من يدير الأزمة مع بقية الأطراف، وعليه ربما ينجح التواصل الروسي التركي والأمريكي التركي إلى نسج تفاهمات وحلول وسط تهدأ من نبرة التصعيد بين تركيا وفرنسا كون أن البلدين عضوان في حلف شمال الأطلسي، وهناك إرادة أمريكية بأن لا يصل التصعيد لأكثر من مستوى الكلام.
هذا فيما يتعلق في ليبيا أما على صعيد بقية الملفات الخلافية التركية الفرنسية، فهي ستبقى عالقة بانتظار تغير في نهج سياسة كلا البلدين إذا ما أرادا الحفاظ على المصالح الاقتصادية والتجارية والتاريخية المتبادلة، بالإضافة إلى ضرورة انتباه ثنائي لـحاجة مشتركة لبعضهما البعض في أكثر من ملف في ظل وجود مناخ إقليمي وعالمي مضطرب.
خاتمة
بناءَ على ما ذُكر في مسار العلاقات التركية الفرنسية وبعد محاولة تفنيد طبيعة الملفات العالقة المشتركة كقضية سورية وملف الأرمن وعضوية تركيا داخل الاتحاد الأوربي وآخرها ليبيا، يمكن القول إن هذه العلاقة يطفو عليها طابع عام يتسم بمسار متأرجح غير ثابتـ، يشوبه متغيرات دائمة وينتج عنه دائماً خلافات أكثر من توافقات وحلول، مما قاد إلى تراكمها بسبب ترحيل دائم أو تأجيل منوط بنطاق ضيق ومرتبط بمصالح براغماتية عالية.
بالتالي لا يمكن التعويل على تحسّن قريب في العلاقات الثنائية إلا في حال تغير المزاج العام المعني بتغير نهج البلدين تجاه بعضهما البعض، وهذا غير وارد في المدى القريب والمتوسط في ظل تمسك الطرفين بمواقف متصلبة أكثر من عملية إبداء المرونة التي يغيب عنها تنازل أحد الطرفين للآخر، لذا ستستمر هذه العلاقة بالتذبذب بين مد وجزر دون وصولها لحد القطيعة الشاملة، لكن الاستثناء الوحيد الذي قد يكون غير مألوف ويقود إلى أبعد من المنطق هو ملف بحر شرق المتوسط فأي نزاع بحري هناك قد يدخل هذه العلاقة في مصير مجهول تكون فيه نقطة الرجوع للخلف شبه صفرية.
العربية، ماكرون: تركيا تمارس “لعبة خطيرة” في ليبيا.. وفرنسا لن تتسامح مع تدخلها، ن- 23- يونيو- 2020.
DW، التوتر الفرنسي ـ التركي حول ليبيا يصل لمؤسسات الناتو، ن- 18- يونيو- 2020.
ساسة بوست، الخلاف يتفاقم مع تركيا.. إلى أين ستصل علاقة فرنسا بالأكراد السوريين، ن- 3- إبريل- 2108.
المركز العربي للدراسات، المقاربة الجديدة للقضية الكردية في تركيا، ن- 20- سبتمبر – 2018.
روسيا اليوم، أردوغان: فرنسا تستضيف إرهابيين في قصر الإليزيه، ن- 7- إبريل- 2018.
هيومن فويس، لماذا نشرت فرنسا قواتها في الأراضي السورية، ن- 3- مايو- 2028.
صحيفة العرب، المغامرون الفرنسيون في صفوف أكراد سوريا تحد يؤرق سلطات بلادهم، ن- 18-5- 2019.
برق للسياسات والاستشارات، الصِّراع على الغاز في شرق المتوسط، ن- 16- أكتوبر- 2019.
الموسوعة الجزائرية للدراسات، التنافس التركي اليوناني والصراع الاستراتيجي على منابع غاز اشرق المتوسط، ن- 11-6-2018.
روسيا اليوم، اليونان تعزز مواقفها ضد تركيا في المتوسط عبر توطيد التعاون العسكري مع واشنطن وباريس، ت- 8-2-2020.
اليوم السابع، فرنسا تطلب رسمياً الانضمام لمنتدى غاز شرق المتوسط، ن- 16- يناير- 2020.
المعهد المصري للدراسات، تركيا وليبيا وجيوبوليتيك الطاقة في المتوسط، ن- 9- ديسمبر- 2019.
[13] مرجع سابق ، برق للسياسات والاستشارات، الصراع على غاز المتوسط.
مركز الجزيرة للدراسات، العلاقات التركية-الفرنسية والاستدعاء السياسي للتاريخ الأرمني، ن- 22- يناير- 2012.
برق للسياسات والاستشارات، المسار الحرج للعلاقات التركية الأوروبية، ن- 4- إبريل- 2020.
ساسة بوست، مبارزة طويلة.. هل كسب أردوغان حتى الآن نقاط مباراته مع ماكرون، ن- 26- يونيو- 2020.
YUTUBE، من سلسلة “وجها لوجه. من هم الانفصاليون الذين قصدهم ماكرون، ن- 22- يونيو- 2020.
الجزيرة نت، مسلمو فرنسا: لسنا انفصاليين ونرفض الزج بنا في معارك انتخابية، 20- 2- 2020.
تركيا الآن، سمير صالحة، فرنسا تشهر سيف المواجهة مع تركيا في ليبيا… طموحات وخيبات، ن- 190 يونيو- 2020.
مصر العربية، لمواجهة نفوذ فرنسا.. هل تحالفت إيطاليا مع تركيا في معارك ليبيا، ن- 21- يونيو- 2020.
[21] مرجع سابق.
برق للسياسات والاستشارات، فرنسا في ليبيا الدور التاريخي المتجّدد ومستقبل النفوذ، ن- 11- مارس- 2020.
عربي 21، هل يمكن أن تتحالف فرنسا مع روسيا ضد تركيا في ليبيا، ن- 16- يونيو- 2020.