بحوث ودراسات

الخليفة المظلوم – عبد الله بن الزبير المفترى عليه – 11 من 11

د. هاني السباعي

مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن.
عرض مقالات الكاتب

آخر خطبة لابن الزبير قبل استشهاده

 قال ابن كثير: “فلما كان ليلة الثلاثاء السابع عشر من جمادى الأولى من هذه السنة، بات ابن الزبير يصلي طول ليلته، ثم جلس فاحتبى بحميلة سيفه فأغفى ثم انتبه مع الفجر على عادته، ثم قال: أذن يا سعد. فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير، ثم صلى ركعتي الفجر، ثم أقيمت الصلاة فصلى الفجر، ثم قرأ سورة “ن” حرفًا حرفًاً، ثم سلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال لأصحابه: ما أراني اليوم إلا مقتولاً، فإني رأيت في منامي كأن السماء فرجت لي، فدحلتها، وإني والله قد مللت الحياة وجاوزت سني اثنتين وسبعين سنة، اللهم إني أحب لقاءك فأحبَّ لقائي. ثم قال:  اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم فكشفوا وجوههم وعليهم المغافر، فحرضهم وحثهم على القتال والصبر، ثم نهض بهم. فحمل وحملوا حتى كشفوهم إلى الحجون، فجاءته آجُرّة فأصابته في وجهه، فارتعش لها، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه تمثل بقول بعضهم:

ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا … ولكن على أقدامنا تقطر الدما”أهـ[1]

شهادة الصحابي الجليل

عبد الله بن عباس رضي الله عنهم

“وسئل ابن عباس عن ابن الزبير فقال: كان قارئاً لكتاب الله، متبعاً لسنة رسول الله، قانتاً لله، صائماً في الهواجر من مخافة الله، ابن حواري رسول الله، وأمه بنت الصديق، ةخالته عائشة، حبيبة حبيب الله، زوجة رسول الله، فلا يجهل حقه إلا من أعماه الله.”أهـ[2]

وقد رثي ابن الزبير وأخوه مصعب بمراث كثيرة حسنة بليغة، من ذلك قول معمر بن أبي معمر الذهلي يرثيهما بأبيات‏:‏

لعمرك ما أبقيت في الناس حاجة * ولا كنت ملبوس الهدى متذبذباً

غداة دعاني مصعب فأجبته * وقلت له أهلاً وسهلاً ومرحباً

أبوك حواريّ الرسول وسيفه * فأنت بحمد الله من خيرنا أبا

وذاك أخوك المهتدى بضيائه * بمكة يدعونا دعاء مثوباً

ولم أك ذا وجهين وجه لمصعب * مريض ووجه لابن مروان إذ صبا

وكنت امرأ ناصحته غير مؤثر * عليه ابن مروان ولا متقرباً

إليه بما تقذى به عين مصعب * ولكنني ناصحت في الله مصعباً

إلى أن رمته الحادثات بسهمها * فيالله سهماً ما أسد وأصوباً

فإن يك هذا الدهر أردى بمصعب * وأصبح عبد الله شلواً ملحباً

فكل امرئ حاس من الموت جرعة * وإن حاد عنها جهده وتهيباً”أهـ[3]

قال العلامة ابن الجوزي المتوفى 597هـ: “دخل عبد الله بن عمر المسجد وابن الزبير قد قتل وصلب، فقيل له: هذه أسماء بنت أبي بكر في المسجد فمال إليها وقال: اصبري فإن هذه الجثث ليست بشئ، وإنما الأرواح عند الله، فقالت: وما يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من يغايا بني إسرائيل”أهـ[4]

موعظة لابن الزبير

“عن وهب بن كيسان قال: كتب إلي عبد الله بن الزبير: أما بعد فإن لأهل التقوى علامات يعرفون بها ويعرفونها من أنفسهم، من صبر على البلاء، ورضي بالقضاء، وشكر النعماء، وذل لحكم القرآن، وإنما الإمام كالسوق؛ ما نفق فيها حمل إليها، إن نفق الحق عنده حمل إليه وجاءه أهل الحق، وإن نفق عنده الباطل جاءه أهل الباطل”أهـ[5]

وساق ابن الجوزي بسنده: “حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة سنة ثنتين وسبعين وستة أشهر وسبع عشرة ليلة، ونصب الحجاج المنجنيق يرمي به أحث الرمي، وألح عليهم بالقتال من كل وجه وحبس عنهم الميرة، وحصرهم أشد الحصار. فقامت أسماء يوماً فصلت ودعت فقالت: اللهم لا تخيب عبد الله بن الزبير، اللهم ارحم ذلك السجود والنحيب والظمأ في تلك الهواجر. وقتل يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة”[6]

هكذا سطرالصحابي الجليل الشهيد المظلوم خليفة المسلمين؛ عبد الله بن الزبير وأصحابه صفحة مشرفة في في سماء التاريخ وجبين الزمان. فلولا توفيق الله لابن الزبير الذي كسر شوكة الخوارج، وأنهى الله به شوكة المختار الثقفي الكذاب؛ لا ندري ماذا عسى مصير الأمة سيكون لو انتصر الخوارج أو المختار الثقفي على جيش ابن الزبير؟!. فهل كان في مقدور جيش الشام أن يدفع هذا الخطر الداهم؟! ألم يقتل المختار الثقفي في غداة واحدة معظم قواد عبد الملك بن مروان مثل عبيد الله بن زياد، والحصين بن نمير، وذو الكلاع، وعمر بن سعد وخلق كثير من جند الشام.

إن الحقيقة المؤلمة أن زمن ابن الزبير، قد انتهى وما عادت سيرة الراشدين والأخلاق الحميدة ومعاملة الناس بسياسة الصديق والفاروق تجدي!؛ فقد دخل خلق جديد وأمم كثيرة في الإسلام وتغيرت القيم والمثل!، وما عاد الناس يطيقون أن يعاملوا بالطريقة العمرية!، وهذا ما يفسر لنا ما حدث من قبل مع الحسن بن علي رضي الله عنه؛  سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرغم علمه وشجاعته وزهده وورعه، يتخلى عنه الناس ويصلح الله به الفريقين. مصداقاً لمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم له: “إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ » . قَالَ لِى عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِنَّمَا ثَبَتَ لَنَا سَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ أَبِى بَكْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ”أهـ[7]

فهي صورة من أرقى درجات الرقي الخلقي والعزوف عن زهرة هذه الدنيا وزخرفها واختيار ما هو أبقى.

فإذا كان ابن الزبير فشل بالاحتفاظ بحكمه فإنه لم يفشل إن شاء الله في الاحتفاظ بما عند الله من نعيم سرمدي وحياة أبقى وأسمى. فقد كان مقتل ابن الزبير إيذاناً بحلول عهد جديد وقيم جديدة عن سير الحلفاء الراشدين!. لقد أراد ابن الزبير أن يعيد للحجاز هيبته وثقله الديني، فلم يفلح في نهاية المطاف.

لذلك لا نعجب من إصراراه على الاحتفاظ بمركز الحجاز التاريخي من الناحية الدينية.  فالرجل لم يكن جاهلاً بموقع الحجاز الجغرافي ويعرف مدى حاجة مكة إلى غيرها من الأمصار، ولكنه أراد أن يعيد لهذا المكان المقدس هيبته بعد أن حلت الفوضى في ربوع أرض الإسلام!. فماذا كانت النتيجة عندما اختار الحسين رضي الله عنه أرض العراق! تخلى عنه أنصاره وأشياعه وقتل الحسين في كربلاء! فصار دمه لعنة على هذه الأمة إلى وقتنا الحاضر من تفرق وتشرذم .

أراد ابن الزبير أن يعيد للحجاز وللحرمين الهيبة والوقار والثقل الشرعي لعلمه بما حدث لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبما حدث لولده الحسن عندما خذله أشياعه ومريدوه من أهل العراق!. فهل يقال بعد كل هذا أن ابن الزبير لم يكن ذا نظر في عواقب الأمور!. أعتقد أن المعركة لو انتهت لصالح ابن الزبير لقالوا وحللوا غير الذي نقرأه اليوم في كتبهم وأبحاثهم! ولكن هكذا يكتب التاريخ؛ يكتب بهوى المنتصر وبشروطه!. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

خلافة راشدة أم خلافة على منهاج النبوة

هل يعد ابن الزبير من الخلفاء الراشدين؟ وهل خلافته على منهاج النبوة؟ إذا كنا نسلم بأن ابن الزبير كان خليفة زمانه إلى أن قتل؟ فلماذا لا نعده من الخلفاء الراشدين؟

 قبل أن نشرع في إلقاء الضوء على هذه القضية نستعرض بعض الأحاديث الآتية:

ورد في صحيح البخاري: حيث ساق بسنده عن جابر بن سمرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يقوم اثنا عشر أميراً فقال كلمة لم أسمعها. فقال أي أنه كلهم من قريش” الحديث رقم 6682 بترقيم الموسوعة الحديثية.

وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة. قال ثم قال بكلام خفي علي. فقلت لأبي ما قال: كلهم من قريش” الحديث رقم 3393 بترقيم الموسوعة. وفي صحيح مسلم أيضاً انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ومعي أبي فسمعته يقول لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة. فقال كلمة صمَّنِيها الناس فقلت لأبي ما قال؟ قال كلهم من قريش” الحديث 3397 بترقيم الموسوعة.

وفي سنن أبي داود: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لا زال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة. فسمعت كلاماً من النبي صلى الله عليه وسلم لم أفهمه قلت أبي ما يقول؟ قال كلهم من قريش” الحديث رقم 3737 بترقيم الموسوعة.

وبعد حتى لا يتبادر إلى الذهن تسآال ما علاقة هذه الأحاديث بموضوع بحثنا؟

 مما لا شك فيه أننا سقنا هذه الأحاديث لعلاقتها بصميم موضوعنا ولتعضيد وجهة نظرنا في أن دولة ابن الزبير كانت خلافة راشدة. وقد أفاض الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث في كتاب الأحكام في فتح الباري وعدّ ابن الزبير رضي الله عنه ضمن الإثني عشر خليفة الذين تجتمع عليهم الأمة. يقول ابن حجر بعد استعراضه لآراء العلماء وشروحهم لهذا الحديث برواياته المختلفة وعلى تقدير ذلك فالأولى أن يحمل قوله :”يكون بعدي اثنا عشر خليفة على الحقيقة البعدية فجميع من ولي الخلافة من الصديق إلى عمر بن عبد العزيز أربعة عشر نفساً. منهم اثنان لم تصح ولايتهما ولم تطل مدتهما وهما معاوية بن يزيد ومروان بن الحكم والباقون اثنا عشر نفساً على الولاء كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت وفاة عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومئة وتغيرت الأحوال بعده وانقضى القرن الأول الذي هو خير القرون ولا يقدح في ذلك قولهم “يجتمع عليه الناس”! لأنه يحمل على الأكثر الأغلب لأن هذه الصفة لم تفقد منهم إلا في الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير مع صحة ولايتهما والحكم بأن من خالفهما لم يثبت استحقاقه إلا بعد تسلم الحسن وبعد قتل ابن الزبير والله أعلم. وكانت الأمور في غالب أزمنة هؤلاء الإثني عشر منتظمة وإن وجد في بعض مدتهم خلاف ذلك فهو بالنسبة إلى الاستقامة نادر والله أعلم”أهـ[8]

نخلص من كلام ابن حجر الآتي: أن الحسن وابن الزبير ضمن الإثني عشر خليفة مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة.

صحة بيعة ابن الزبير وبطلان بيعة مروان بن الحكم وعدم احتساب مدة معاوية بن يزيد (معاوية الثاني) وبطلان ولاية عبد الملك بن مروان في الدولة الأولى أي إلى حين مقتل ابن الزبير رضي الله عنه سنة 73 هـ فمن هنا صحة بيعة عبد الملك بن مروان.

أما أن ابن الزبير يستحق أن يقال عنه خليفة راشد بل هو أولى من عمر بن عبد العزيز رحمه الله لاعتبارات عدة:

أولاً: علو منزلة ابن الزبير لشرف صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم. بالإضافة إلى أنه لم يكن صحابياً عادياً ثم كان من فقهاء وعلماء الصحابة ومن العبادلة الأربعة المشهورين بالفتوى وبالفقه والعلم من الصحابة.

ثانياً: إنه ولي أمر المسلمين ببيعة شرعية صحيحة، ولم يكن متغلباً ولم تصل إليه بالميراث الملكي كما آلت لعمر بن عبد العزيز رحمه الله.

ثالثاً: إذا كان عمر بن عبد العزيز قد استحق أن يقال عنه خليفة راشد لسيرته العادلة ولتأسيه بسيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه رغم قصر خلافته. فإن عبد الله بن الزبير أولى إذ أن سيرته العادلة وزهده وجهاده قبل الخلافة وأثناءها لا يخفى على أحد من أهل الإسلام حتى خصومه الذين شهدوا له بذلك.

رابعاً: يجب ألا نتردد ونحن نكتب أو نقرأ سيرة عبد الله بن الزبير أن نضيف هذه الألقاب التي طمسها الإخباريون: أمير المؤمنين، الخليفة الراشد، بل والخليفة الشهيد رضي الله عنه. فقد حفظنا منذ الصغر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين جده لأمه عمر بن الخطاب لذلك سار على سيرته كل هذه الصفات لا اعتراض عليها فرحمة الله على عمر بن عبد العزيز الذي كان يسير على خطى الخلفاء الراشدين.

أما أن يقال إنه خامس الخلفاء الراشدين ويغض النظر عمن سبقه فهذا حيف تاريخي! بل وظلم للخليفة الراشد الحسن بن علي بن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجور أيضاً على حق عبد الله بن الزبير هذا الخليفة المجاهد الراشد، فحيثية ابن الزبير التاريخية أولى من عمر بن عبد العزيز في استحقاقات هذا اللقب وبالأنساب فابن الزبير من سادة قريش؛ أبوه الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأمه أسماء بنت الصديق ذات النطاقين رضي الله عنها، وجده لأمه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وخالته عائشة أم المؤمنين حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجدته لأبيه صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أول مولود ولد للمسلمين في المدينة حيث حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بريقه الشريف. فجهاد ابن الزبير وبلاؤه وفتوحاته وفضله وتقواه وعدله وورعه متوافر رضي الله عنهم أجمعين.

وإزاء ذلك نرى أنه من المناسب أن يتسع مفهوم الخلافة الراشدة ليشمل كل من يسير بالأمة سيرة الصديق والفاروق رضي الله عنهما لذلك نرى أن عبد الله بن الزبير خليفة راشد ويعد سادس الخلفاء الراشدين فيكون الترتيب كالآتي بعد الخلفاء الأربعة يكون الحسن بن علي رضي الله عنه خامس الخلفاء الراشدين، ويأتي: معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه السادس، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه سابعهم، أما عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه فلا خلاف عليه في تعداده ضمن الخلفاء الراشدين ولكن الخلاف في ترتيبه لأن مفهوم الخلافة الراشدة قد يضم آخرين سبقوا عمر بن عبد العزيز وقد يكون لنا مع هذه القضية بحث آخر إن شاء الله.

هكذا نكون قد أنصفنا ابن الزبير رضي الله عنه.

وقبل أن نختم هذه الدراسة السريعة نود أن نضيف زيادة هامة تتمة لما قلناه إذ يعترض البعض إشكال أو يظن أن هناك تعارضاً بين حديث الإثني عشر خليفة المذكور بحديث “الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا؟ ونجيب على هذا التعارض المزعوم بما قاله القاضي عياض نقلاً عن ابن حجر في الفتح: “وقد لخص القاضي عياض ذلك وقال توجه عليه هذا العدد سؤالان إحداهما أنه يعارضه ظاهراً قوله حديث سفينة الذي أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره “الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا” لأن الثلاثين لم يكن فيها إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن بن علي. والثاني أنه ولي الخلافة أكثر من هذا العدد. قال: والجواب عن الأول أنه أراد في حديث سفينة “خلافة على منهاج النبوة” ولم يقيده في حديث جابر بن سمرة بذلك. الثاني أنه لم يقل: “لا يلي إلا اثنا عشر” وإنما قال “يكون اثنا عشر” وقد ولي هذا العدد ولا يمنع ذلك الزيادة عليه. قال وهذا إن جعل اللفظ واقعاً على كل من ولي وألا يحتمل أن يكون المراد من يستحق الخلافة من أئمة العدل. وقد مضى منهم الخلفاء الأربعة. لا بد من تمام العدة قبل تمام الساعة”أهـ[9]

نستخلص من كلام القاضي عياض ما يلي:

لا تعارض بين حديث :” لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة” وبين حديث “الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكا: الحديث الأول عام يتكلم عن أئمة العدل وعمن يسيرون بين الناس بالعدل ويجتمع عليهم الناس في الأغلب. الحديث الثاني يتكلم عن حقبة معينة، وعن خلافة على منهاج النبوة وبالحساب الزمني تشكل هذه الفترة؛ الصديق والفاروق عثمان وعلي بن أبي طالب وتشمل الحسن بن علي أيضاً لأنه ورد في بعض الروايات “تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو لست وثلاثين”. من منطوق ومفهوم الحديث الثاني: الخلافة بعدي ثلاثون سنة. لا تكون خلافة عبد الله بن الزبير ولا خلافة عمر بن عبد العزيز على منهاج النبوة لأنه لم تشملهما الفترة الزمنية. وممن منطوق ومفهوم الحديث الأول :”اثنا عشر خليفة” أي بالمعني الواسع فخلافة عبد الله بن الزبير خلافة راشدة ويلحق به عمر بن عبد العزيز ومن يسير على نفس الطريق.

الخلافة على منهاج النبوة كخلافة الخلفاء الأربعة هي أنموذج صافي لكي تتأسى الأمة به منهم من يقترب من الأنموذج؛ كخلافة عبد الله بن الزبير، ومنهم من هو أقل كخلافة، عمر بن عبد العزيز وكلاهما خلافة راشد. أما الأنموذج فهو نبراس لهذه الأمة مقياس للحكم على الولاة.

صفوة القول

بعد هذا التطواف حول سيرة الصحابي عبد الله بن الزبير والشبهات التي أثيرت حوله؛ يستبين لنا أن كتابة التاريخ الإسلامي في حاجة لإعادة النظر فهناك كم هائل من تلال الزيف، وكم فظيع من تحريف الكلام عن مواضعه.

هكذا استبان لنا شخصية عبد الله بن الزبير أمير المؤمنين بدون دخن، سيرة واضحة جلية. فالخليفة عبد الله بن الزبير لم ينصفوه حياً وميتاً بل كنا نردد ما اخترعه الإخباريون القدماء دون روية!. وجاء إخباريو هذا الزمان فزادوا الطين بلة!وطفقوا يبنون أوهاماً من الدراسات والأبحاث، وجل جعبتهم أخبار مدسوسة وروايات واهية، ومن ثم كانت النتيجة أننا نقرأ تاريخاً يحمل أخباراً متناقضة وقادة يحملون صفات متناقضة!. مما ساعد في اهتزاز صورة الجيل الأول وخلق حالة من الحيرة والريب لدى ضعاف النفوس والشعور بالحرج ونحن قرأ تاريخ سلفنا الصالح.

هكذا نكون قد أنصفنا ابن الزبير وأعدنا الاعتبار لهذه الشخصية العظيمة، ولا نزعم أننا نأتي بجديد ولكنها محاولة منا لوضع لبنة في صرح تاريخنا التليد، ودعوة الغيورين من أبناء هذه الأمة لكي يعيدوا النظر في قراءة وكتابة التاريخ الإسلامي ورد الاعتبار لقادة المسلمين المفترى عليهم.

وفي الختام لا يسعنا إلا أن نقول رضي الله عن الخليفة الراشد المجاهد الشهيد عبد الله بن الزبير الذي كان كثيراً ما يقول والله ما نموت إلا بأطرف الرماح أو تحت ظلال السيوف. وبالله التوفيق.


[1] البداية والنهاية: ج12 ص183

[2] البداية والنهاية: ج12 ص183

[3] البداية والنهاية ج12 ص158

[4] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ـ تحقيق محمد ومصطفى عبد القادر عطا ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ج6 ص140.

[5] ابن الجوزي: صفة الصفوة ـ تحقيق طارق محمد عبد المنعم ـ  دار ابن خلدون ـ مج1 ص253.

[6] ابن الجوزي: صفة الصفوة ـ مج1 ص254 وص255.

[7] البخاري كتاب الصلح رقم الحيث 2704 ترقيم الموسوعة الحديثية

[8] ابن حجر: فتح الباري ـ دار الفكر ـ بيروت ـ 1413هـ/1992 ـ  ج15 ص130

[9] ابن حجر: فتح الباري ـ دار الفكر ـ بيروت ـ 1413هـ/1992 ـ  ج15 ص126 وص127

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى