بحوث ودراسات

السلطة الدينية (الثيوقراطية) – البابوية مثالاً (1)

محمد الحاج

باحث وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

يتضمن البحث:

– مقدمة:  الغاية من البحث. – تعريف الثيوقراطية: لغة واصطلاحا.- تمهيد

– انتشار المسيحية، واضطهادها، ثم انتصارها. – العصر البابوي: العوامل التي ساعدت على نشوء البابوية، وسيطرتها. – ركائز البابوية: الكنيسة ونظامها. اللاهوت. الكهنوت. سلطة البابا (الثيوقراطية). – الصراع بين الكنيسة والعلم. – طغيان الكنيسة: الطغيان الديني. الطغيان السياسي. الطغيان المالي. … وسنقوم بنشر البحث على عدة أقسام.

القسم الأول:

المقدمة: ليست الغاية من هذا البحث المتواضع، عرضا لتاريخ المسيحية، نشوءا  وانتشارا واضطهادا ثم انتصارا. بقدر ما هو جولة في الثقافة الأوربية، خلال العصور الوسطى، وفي حقل السلطة البابوية ( الحكم بالحق الإلهي) تحديدا، من حيث النشأة، والسيطرة، والركائز التي قامت عليها، ثم الطغيان الذي مارسته. لمعرفة البذار الذي غُرس في تربة تلك الثقافة، وما نبت فيها من أحداث، وما اكتنفها وأحاط بها من ظروف، وما آلت إليه الأمور بعد سيطرة كاملة لرجال الكهنوت، لمدة تقارب عشرة قرون، على الفكر والحياة الأوربيين.

ليعرف القارئ الكريم من جهة: أن البابوية نشأت وسادت في الغرب، جاعلة من ظهر المسيحية – بعد حرفها عن المسار الذي خطه عيسى “ع” – قنطرة تعبر منها إلى مشروعها السلطوي. -كما يفعل اليوم آيات فارس، باتخاذهم من الإسلام جسرا، للعبور إلى إعادة مجد إمبراطور يتهم المندثرة. – حيث تأثرت المسيحية بالثقافة الهلنستية *، على يد بولس – بعد انتقالها إلى العالم اليوناني – تأثرا كبيرا، أسس لها لاهوتا، لم يدع له المسيح (ع). وتأثرت بالوثنية السابقة عليها بالوجود، فأكنزتها طقوسا وكهانة، لم يبشر بها عيسى (ع). وادعت البابوية العصمة، وبصدور حكمها عن الله، لتقيم لذاتها سلطة، يخضع لها الجميع، وتحاكم الجميع، ولا تخضع هي لأحد، أو يحاكمها أحد. سلطة لم يأمر بها المسيح (ع). فكان المآل في أوربا فسادا وخرابا للنفس والمجتمع والحياة الأوربية. وجاءت ردة الفعل على ذلك المآل، عنيفة عنف المآل، برفض مشاركة الدين في الحياة، وحجره في الكنائس والبيوت، ورفض الغيب مصدرا لاكتساب المعرفة، والاكتفاء بالعقل مصدرا وحيدا لها، واعتماد العلمانية فلسفة للحياة.

وليعلم القارئ من جهة ثانية: أن الأحداث العامة، والتفصيلات والظروف، التي اكتنفت المسيحية  في الحقل الأوربي، مختلفة تماما عما كانت عليه، في الحقل العربي الإسلامي، كما بيَّنها تاريخنا في مصادره. حيث كانت أوربا تغط في الظلام، بينما العرب المسلمون ، كانوا ينشرون النور والمعرفة والحضارة، في الشرق والغرب. وبالتالي فإن تطبيق مفهوم معين، ظهر في بيئة حضارية، وصيرورة اجتماعية معينة، على مجتمع آخر من سياق مختلف،

سيكون أمرا مخالفا من وجهة نظر علم الاجتماع. ويؤدي إلى عيوب منهجية.

ثم ليستنتج القارئ أخيرا: أنه ليس من الضروري، أن يكون المآل في المجتمعات العربية الإسلامية، هو المآل نفسه في المجتمعات الأوربية، أي: ليس من الضروري أن تتحول مجتمعاتنا، إلى مجتمعات علمانية لتنهض وتتقدم، بحجة أن الأديان تؤدي إلى مصائر واحدة. وبحجة كونية العصر، التي يبشر بها الكثيرون اليوم.

تعريف الثيوقراطية لغة واصطلاحا: الثيوقراطية لغة: كلمة مشتقة من اليونانية، وتعني الحكم الإلهي. أما اصطلاحا: فالثيوقراطية: مذهب يُسند للحاكم سلطة دينية مطلقة، مظهرها التحليل والتحريم في كل شيء، وبدون نص إلهي. ويترتب على ذلك الانفراد بالسلطة السياسية (1)

وللثيوقراطية صور ثلاث: الأولى: ترى الحاكم نفسه من طبيعة إلهية مقدسة، وقد ظهرت هذه النظرية في الحضارات القديمة (مصر، الهند، الصين ..)، حيث انتشرت عبادة الفراعنة والأباطرة. الثانية: نظرية الحق الإلهي: التي تقول: أن الله يتدخل مباشرة لاختيار شخص الحاكم . وقال بها كثير من البابوات، وبعض ملوك أوربا. الثالثة: نظرية الحق الإلهي غير المباشر، أو العناية الإلهية: التي تقول: أن العناية الإلهية وجهت الأحداث ليصل هذا الحاكم إلى الحكم. وقال بها بعض الملوك وعلماء السياسة في أوربا.(2)

تمهيد: عندما انقلبت روما على عهد الجمهورية، وأحلت بدلا عنه غطرسة الإمبراطورية، كانت الديانة الرسمية للإمبراطورية ” نوعا من التوفيق – تم على أعقاب احتلال الرومان للشرق الإغريقي – بين آلهة المنتصرين وآلهة المغلوبين “. (3)  ديانة قائمة على عبادة الأوثان، وعبادة الإمبراطور. وقد تبرَّم أهل روما من تلك الديانة، واستخفوا بها، واعتبروها رموزا شكلية ” اقتصرت على بعض الاحتفالات، وخلت تماما من كل فقه لاهوتي، ومن كل عقيدة دينية حقيقية،[ ومن كل عاطفة دينية] تلك العاطفة التي عادت لتحتل في الضمير الإغريقي – الروماني، مكانا يزداد اتساعا بمرور الأيام ” (4) . وقد مهد لتلك العاطفة عوامل عدة، منها ” نفحات أتت من الشرق، وافتقار للعلوم الوضعية، وألوان من المحن، مرَّ بها القوم فزعزعت نفوسهم ” (5). المثقفون من الناس ” وإن أظهروا احترامهم لها[ الديانة الرسمية] في المجالات العامة، ولم يستنكفوا من المشاركة في طقوسها، عندما تقتضي الظروف مشاركتهم، ذلك أنهم آمنوا بضرورتها بالنسبة إلى عامة الشعب، الذي يحتاج ضابطا لأطماعه ولغرائزه الفطرية الخطرة … وأن أجدادهم اعتمدوا عليها في كفاحهم المتصل، ولأن هذه الديانة تمتاز بصفات رومانية خاصة، هي الرابطة الملموسة بين أهل المدينة الكبرى روما ” (6) . إلا أنهم [ المثقفون] لطغيان نزعة الشك العميق لديهم، وحاجتهم إلى” الغذاء الميتافيزيقي الذي لا يستطيعون غنى عنه ذهبت غالبيتهم في اتجاهاتها نحو المدارس  الأبيقورية (7) أو الرواقية (8)… أما الناس من الطبقات الدنيا فقد ظل أفرادها على تقديسهم لصغار الآلهة ” (9) . لكن الفلسفات الرواقية والأبيقورية، لم تستطع حماية إلا فئة طليعية محددة العدد من طغيان العاطفة الدينية إذ ” نمت هذه العاطفة، وأصبحت لها متطلبات أخذت في الازدياد.

وطغى التحمس المتجه إلى حياة دينية عميقة – حتى بين الطبقات المستنيرة – على تيارات الشك. وتراجعت الرواقية في سرعة أمام الأفلاطونية. التي فاقت في المرونة وفي القابلية للتشبع بالعاطفة الدينية “(10)

في هذه الأجواء من الخواء الروحي، للديانة الرسمية، ومن غياب عقيدة حقيقية، استورد أهل الإمبراطورية عقائد دينية من الشرق، مثل ديانة سيبيل من آسيا الصغرى، وديانة ميثراس من فارس، وإيزيس من مصر، وأخيرا المسيحية التي نبتت في فلسطين (11)

” ولأن قصة المسيح وحياته فاقت في سموها وجمالها بقية القصص الديني المعاصر[آنذاك]، إذ يكفي أن تعاليمه مستمدة من كتاب مقدس، يمكن أن يفهمه ويتأثر به الخاصة والعامة، لا من فلسفة اليونان، التي لا يمكن أن يتفهمها سوى فئة من خاصة المثقفين … أدركنا سر انتشارها السريع وتفوقها في النهاية على غيرها من العقائد الشرقية “.(12)  وبكلام آخر ” ظهرت المسيحية منذ القرن الأول، في ثوب الديانة الجامعة بين الروحانيات وبين الشعائر العملية، إذ كانت تعتمد من ناجية على الإلهام، وعلى الوعد بالخلاص والخلود من طريق شفيع أعظم، وتسعى من ناحية أخرى إلى إنشاء حياة جديدة على الأرض، حياة كلها حب وفضيلة. فكان من المرجح إذن أن تجد قبولا لدى هؤلاء القوم [أهل الإمبراطورية]، الذين يتطلعون إلى نفس الآمال التي جاءت بها ” (13).

……………………………
الهوامش:  الهلنستية: هي ثقافة مركبة، من عناصر يونانية وشرقية. حمل فيها الإغريقيون إلى الشرق الفلسفة. ولقح فيها الشرقيون حضارة اليونان بروحانية الشرق ونظمه. يقول تارن. في كتاب الحضارة الهلنستية: الحضارة الإغريقية تنقسم إلى مرحلتين، الأولى: هلينيك [ من هلين الجد الأسطوري لليونان] أي المرحلة اليونانية البحتة، وتضم مرحلة النشاط والنضج وتشمل العالم اليوناني وحضارته. والثانية: هلنستيك وهي مرحلة يونانية متأخرة وتشمل مناطق بلاد اليونان والممالك الشرقية بعد غزوالاسكندر لها  – مأخوذ من الحضارة الهلنستية – المعرفة.

 1 – د. صبري محمد خليل، بحث قراءة نقدية إسلامية لمظاهر الكهنوت والثيوقراطية في دلالات الإسلاميين ومذهب التفسير السياسي للدين، سودانيل، النشر 10/ 1/2016

2 –  الموسوعة العربية الميسرة، المكتبة العصرية صيدا بيروت، ص 1112

3 – شارل جني بير، أستاذ المسيحية جامعة باريس، المسيحية نشأتها وتطورها، ترجمة د. عبد الحليم محمود، منشورات المكتبة العصرية  صيدا – بيروت، ص 118

4 –  شارل ،المصدر نفسه، ص 119

5 – شارل، المصدر نفسه، ص 119

6 – شارل، المصدر نفسه، ص 118- 119

7 –  الأبيقورية: نسبة للفيلسوف أبيقور، ظهرت في منتصف القرن الرابع ق.م ، وتقرر: أن الشعور باللذة والألم هو المعيار الوحيد للخير والشر، والفضيلة والرذيلة.

8 –  الرواقية: فلسفة أنشأها “زينون” ونادى بعكس أبيقور، أي: أن الشعور باللذة والألم، هو أصل الشر، ومنبع الرذيلة، وأن معيار الفضيلة الوحيد، هو التخلص من ذلك الشعور، ومكافحة العاطفة الإنسانية، والوجدان الطبيعي، والبلوغ بها درجة التحجر. وسميت هذه المدرسة: بمدرسة أهل العزم والجلد.

9– شارل، المصد نفسه، ص 119 وينظر أيضا د. محمود محمد الحويري، رؤية في سقوط الإمبراطورية الرومانية، ط3 دار المعارف 1995ص 49- 53- 54

10 – شارل المصدر نفسه، ص 120

11-  د. سعيد عبد الفتاح عاشور ود. إسمت غنيم، تاريخ أوربا في العصور الوسطى، دار النهضة العربية بيروت 1976 ص 31

12 – عاشور ،ص 31

13 –شارل، ص 120- 121 وينظر الحويري، نفس المصدر ص 49

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى