بحوث ودراسات

الخليفة المظلوم – عبد الله بن الزبير المفترى عليه – 9 من 11

د. هاني السباعي

مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن.
عرض مقالات الكاتب

المبحث الرابع

أسباب فشل ابن الزبير في الاحتفاظ بخلافته

بعد هذا العرض السريع لأهم الشبهات والطعون التي ذكرها الكتاب في أسباب فشل ابن الزبير في الاحتفاظ بخلافته يكون قد استبان لنا ضعف هذه الأسباب التي ذكروها. لذلك نرى أن أهم الأسباب التي أدت إلى فشل ابن الزبير في الاحتفاظ بحكمه تتلخص في الآتي:

أولاً: حروب ابن الزبير على عدة جبهات في وقت واحد:

الجبهة الأولى: قتاله لأهل الشام بقيادة مروان ابن الحكم ثم ابنه عبد الملك.

الجبهة الثانية: حروبه ضد الخوارج بقيادة نافع بن الأزرق في العراق ووخراسان.

الجبهة الثالثة: حروبه ضد المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب في العراق.

الجبهة الرابعة: حروبه ضد الروم وتأمينه الحدود خشية الإغارة على بلاد الإسلام.

ثانياً: توزيع قواد ابن الزبير على عدة جبهات: مثل المهلب بن أبي صفرة[1] فارس العرب والإسلام وكاسر شوكة الخوارج، يعتبر من أعظم قواد المسلمين في عصره، وهو الذي دوخ أهل الشرك وصارت له خبرة طويلة قتال الخوارج. وإبراهيم بن الأشتر وهو فارس ابن فارس أبوه الأشتر النخعي ويعتبر من أفتك قادة المسلمين، وقد انقلب على المختار الثقفي بعدما علم كذبه، وصار من قادة ابن الزبير رضي الله عنه. أما كبير القواد فهو فارس آل الزبير والإسلام فهو مصعب بن الزبير فقد كان مشغولاً بحرب عبد عبد الملك بن مروان وجند الشام وفي نفس الوقت يحارب المختار الثقفي.

ثالثا: مقتل مصعب بن الزبير الساعد الأيمن لابن الزبير:

لقد ترجم الحافظ ابن كثير ترجمة في أحداث سنة 71 هجرية حيث قال:

“وهذه ترجمة مصعب بن الزبير رحمه الله وهو مصعب بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو عبد الله القرشي – ويقال له : أبو عيسى أيضا – الأسدي  وأمه الرباب بنت أنيف الكلبية. كان من أحسن الناس وجها، وأشجعهم قلبا، وأسخاهم كفا.

وقد حكى عن عمر بن الخطاب، وروى عن أبيه الزبير بن العوام، وسعد، وأبي سعيد الخدري، وروى عنه الحكم بن عتيبة، وعمرو بن دينار الجمحي، وإسماعيل بن أبي خالد، ووفد على معاوية، وكان ممن يجالس أبا هريرة، وكان من أحسن الناس وجها”أهـ[2]

قال فيه ابن قيس الرقيات:

إنما مصعب شهاب من الله

تجلت عن وجهه الظلماء

ملكه ملك عز ليس فيه

جبروت منه ولا كبرياء

يتقي الله في الأمور وقد أفـ

ـلح من كان همه الاتقاء[3]

لقد كان مصعب إذا ذكّره أحد بالله أو بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم: “قال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل، حدثنا حماد بن سلمة، ثنا علي بن زيد قال: بلغ مصعبا عن عريف الأنصار شيء فهم به، فدخل عليه أنس بن مالك، فقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: استوصوا بالأنصار خيرا – أو قال : معروفا – اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم، فألقى مصعب نفسه عن سريره وألصق خده بالبساط، وقال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين فتركه. ومن كلام مصعب في التواضع أنه قال: العجب من ابن آدم كيف يتكبر، وقد جرى في مجرى البول مرتين؟! وقال محمد بن يزيد المبرد : سئل القاسم بن محمد عن مصعب فقال: كان نبيلا رئيسا نفيسا أنيسا”أهـ[4]

وأما عن كيفية مقتله:

قال ابن كثير: “لما تفرق عن مصعب جموعه قال له ابنه عيسى: لو اعتصمت ببعض القلاع، وكاتبت من بعد عنك مثل المهلب بن أبي صفرة وغيره فقدموا عليك، فإذا اجتمع لك ما تريد منهم لقيت القوم فإنك قد ضعفت جدا. فلم يرد عليه جوابا. ثم ذكر ما جرى للحسين بن علي، وكيف قتل كريما، ولم يُلق بيده، ولم يجد من أهل العراق وفاء، وكذلك أبوه وأخوه، ونحن ما ما وجدنا لهم وفاء”أهـ[5]

أقول: هكذا كانت أخلاق مصعب وشجاعته ما كان ليفر ويترك من بقي معه من أصحابه خيث أصر على القتال ورفض فكرة الانحياز إلى إحدى القلاع وقد وصف لنا الاخباريون هذه المرثية الحزينة لبطل من أبطال الإسلام؛ فقط وصف لنا صاحب البداية والنهاية:

“ثم انهزم أصحابه، وبقي في قليل من خواصه، ومال الجميع إلى عبد الملك، وقد كان عبد الملك يحب مصعبا حباً شديداً، وكان خليلاً له قبل الخلافة، فقال لأخيه محمد: اذهب إليه فآمِنْه، فجاءه، فقال له: يا مصعب قد آمنك ابن عمك على نفسك وولدك ومالك وأهلك، فاذهب حيث شئت من البلاد، ولو أراد بك غير ذلك لكان، فقال مصعب: قضي الأمر، إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالباً أو مغلوباً. فتقدم ابنه عيسى فقاتل، فقال محمد بن مروان يا بن أخي لا تقتل نفسك. ثم ذكر من قوله ما تقدم، ثم قاتل حتى قتل، رحمه الله، ثم ذكر من قتل أبيه بعده، كما تقدم”أهـ[6]

قال ابن كثير:

” ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك بكى وقال: والله ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له حتى دخل السيف بيننا، ولكن الملك عقيم! ولقد كانت المحبة والحرمة بيننا قديمة، متى تلد النساء مثل مصعب؟ ثم أمر بمواراته، ودفنه هو وابنه وإبراهيم بن الأشتر في قبور بمسكن بالقرب من الكوفة. قال المدائني : وكان مقتل مصعب بن الزبير يوم الثلاثاء الثالث عشر من جمادى الأولى أو الآخرة من سنة إحدى وسبعين في قول الجمهور ، وقال المدائني : سنة ثنتين وسبعين . والله أعلم”أهـ[7]

تقدير عبد الملك بن مروان لمصعب واحترامه له رغم انتصاره عليه:

“وقال الزبير بن بكار‏:‏ حدثني فليح بن إسماعيل، وجعفر بن أبي بشير، عن أبيه‏.‏ قال‏:‏ لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك قال‏:‏

لقد أردى الفوارس يوم عبسٍ

غلامٌ غير مناع المتاع

ولا فرحٌ بخيرٍ إن أتاه

ولا هلع من الحدثان لاع

ولا رقابةً والخيل تعدو

ولا خالٌ كانبوب اليراع

فقال الرجل الذي جاء برأسه‏:‏ والله يا أمير المؤمنين لو رأيته والرمح في يده تارة والسيف تارة يفري بهذا، ويطعن بهذا لرأيت رجلاً يملأ القلب والعين شجاعة، لكنه لما تفرقت عنه رجاله وكثر من قصده وبقي وحده ما زال ينشد‏:‏

وإني على المكروه عند حضوره

أكذب نفسي والجفون فلم تغض

وما ذاك من ذلٍ ولكن حفيظةٌ

أذبُّ بها عند المكارم عن عرضي

وإني لأهل الشر بالشر مرصدٌ

وإني لذي سلمٍ أذلُّ من الأرض

فقال عبد الملك‏:‏ كان والله كما وصف به نفسه وصدق، ولقد كان من أحب الناس إليّ، وأشدهم لي ألفة ومودة، ولكن الملك عقيم‏.‏”أهـ[8]

رثاء ابن قيس الرقيات لمصعب:

“قال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعبا :

لقد أورث المصرين خزيا وذلة

قتيل بدير الجاثليق مقيم

فما نصحت لله بكر بن وائل

ولا صدقت يوم اللقاء تميم

ولو كان بكريا تعطف حوله

كتائب يغلي حميها ويدوم

ولكنه ضاع الذمام ولم يكن

بها مضري يوم ذاك كريم

جزى الله كوفيا هناك ملامة

وبصريهم إن المليم مليم

وإن بني العلات أخلوا ظهورنا

ونحن صريح بينهم وصميم

فإن نفْنَ لا يبقى أولئك بعدنا

لذي حرمة في المسلمين حريم”أهـ[9]

وقال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعبا أيضا :

“نعت السحائب والغمام بأسرها

جسدا بمسكن عاري الأوصال

تمسي عوائذه السباع وداره

بمنازل أطلالهن بوالي

رحل الرفاق وغادروه ثاويا

للريح بين صبا وبين شمال”أهـ[10]

ومن كلام مصعب في التواضع أنه قال : العجب من ابن آدم كيف يتكبر ، وقد جرى في مجرى البول مرتين ؟ !وقال محمد بن يزيد المبرد : سئل القاسم بن محمد عن مصعب فقال : كان نبيلا رئيسا نفيسا أنيسا “أهـ[11]


[1] المهلّب بن أبي صفرة الأزدي وكنيته أبو سعيد، هو من أهم ولاة الأمويين على خراسان. عينه الحجاج عاملا على خراسان عام (78هـ) وقام بفتوح واسعة فيما وراء بلاد النهر فقد فتح المهلب إقليم “الصغد” وغزا “خوارزم” وافتتح جرجان وطبرستان وغيرها توفي سنة 83 هـ.    

[2] ابن كثير: البداية والنهاية ـ تحقيق التركي ـ ج12 ص143 وص144.

[3] ابن كثير: البداية والنهاية ـ تحقيق التركي ـ ج12 ص150

[4] ابن كثير: البداية والنهاية ـ تحقيق التركي ـ ج12 ص150، ص151.

[5] ابن كثير: البداية والنهاية ـ تحقيق التركي ـ ج12 ص139

[6] ابن كثير: البداية والنهاية ـ تحقيق التركي ـ ج12 ص139 وص140.

[7] ابن كثير: البداية والنهاية ـ تحقيق التركي ـ ج12 ص140.

[8] ابن كثير البداية والنهاية ج12 ص153.

[9] ابن كثير: البداية والنهاية ج12 ص155

[10] ابن كثير: البداية والنهاية ج12 ص156

[11] ابن كثير البداية والنهاية ج12 ص149 وص150 وص151.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى