حقوق وحريات

إضاءات سياسية (69)

هيثم المالح

عرض مقالات الكاتب

حضارة الغرب .. إلى أين ؟

03/03/2009

يعتقد البعض أن الغرب إنما نهض بفضل ثورته على الدين وفصله عن الدولة ، وتبنيه لشعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ، بينما لم نجد لهذه المفاهيم والشعارات أية قيمة حين غزت الجيوش الأمريكية العراق خارج القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان وميثاق منظمة الأمم المتحدة ، كما لم نجد لهذه المفاهيم أية قيمة منذ بدء خلق كيان الدولة الصهيونية على أرض فلسطين خارج القانون والمواثيق الدولية وحتى الآن ، تم فيها طرد سكان البلاد الأصليين ليحل محلهم يهود صهاينة جلبوا من كافة أصقاع الغرب ، الذي سعى للتخلص منهم ومن شرورهم وليزرعهم في بلادنا لنشر الرعب والقتل والمذابح ولوقف التنمية .

لقد جربنا الاستعمار الفرنسي في القرن العشرين الماضي ، وفي أواخر أيامه حين انتصر الجنرال “ديغول” بمساعدة البريطانيين والأمريكان على الجيوش الألمانية ، وكانت سوريا تُحكم من قبل حكومة “فيشي” التابعة للألمان ، والتي انسحبت لتفسح المجال للجيش الآخر بالدخول ، إلا أن هذا الجيش أتت إليه الأوامر بضرب دمشق ، أقدم مدينة عامرة على وجه الأرض بلا استثناء ولعلها أجملها ، فهاجم هذا الجيش المستشفى الوطني وسلط ناره من أفواه رشاشاته ومدافعه على الجرحى والمرضى ، ولم يقدر بعد ذلك إلا على أربع ممرضات أخذهن “سبايا” .

كما رمى السجون بالقنابل حيث لا يملك من فيها دفعاً ولا منعاً ، فصير سجونهم مقابر لهم ، واتخذ من المشفى العسكري بالمزة قلعة يضع فيها مدافعه وأسلحته لقصف الأحياء الآمنة ، فأحرق منه سوق ساروجة والكلاسة وغيرها ، ومن مدرسة “الفرنسيسكان” كانت تطلق الرشاشات على الناس في الطرقات ، بينما وَجد لدى القاضي”سبيرو” الذي جاء به الفرنسيون إلى المحكمة المختلطة رشاشاً ليقتل به الناس ، ولقد نبشت المدفعية القبور في مقبرة الدحداح ظناً من الجيش أن الموتى سيقاومون!! .

أما المجزرة التي وقعت في المجلس النيابي فسوف أنقل بعض المقاطع من مذكرات خالد العظم التي يقول فيها :

{ويوم الثلاثاء في 29 أيار/مايو 1945 ، ذهبت إلى الندوة النيابية لحضور الاجتماع المقرر عقده في الساعة الرابعة وانتظرت مع لفيف من النواب قرع الجرس إيذاناً باكتمال النصاب لعقد الجلسة ، لكن الأكثرية لم تكن قد حضرت ، وظللنا ننتظر في الحديقة إلى أن بلغت الساعة الخامسة والنصف ، فقطعنا الأمل بإمكان الاجتماع وسرنا إلى السرايا لاستطلاع أخبار الأزمة .

وجدنا نائب رئيس الوزراء جالساً في بهو الرئاسة وحوله بعض النواب والموظفين . وبدأ السيد جميل مردم يدلي بآخر ما لديه من أخبار الأزمة ، والنواب يناقشونه فيما يجب عمله ، وفي الساعة السادسة تماماً سمعنا أصوات طلقات نارية فخرجنا إلى الشرفة لمعرفة المصدر . واشتد أزيز الرصاص بشكل مزعج ، فعدنا إلى البهو لنتقي الرصاصات الطائشة . وعبثاً ذهبت محاولات نائب الرئيس للاتصال هاتفياً بمراكز الشرطة والدرك ، إذ كانت الخطوط الهاتفية مقطوعة .

وبعد برهة جاءنا من يخبرنا بأن الجنود الفرنسيين المرابطين أمام مركز رئاسة أركان الجيش الفرنسي طلبوا من حرس المجلس النيابي أن يصطفوا لتحية العلم الفرنسي في موعد إنزاله فما كان منهم تجاه رفض الحرس هذا الطلب إلا أن بدؤوا بإطلاق الرصاص عليهم . فقابلهم الحرس بالمثل ، ولكنهم ما لبثوا أن هجموا على المجلس ودخلوه عنوة وقتلوا ذبحاً جميع أفراد الحرس واستولوا على بناية المجلس . وبعد هنيهة بدأ إطلاق الرصاص على السرايا من الجهة الخلفية . وعلمنا أن مصدره هو الجنود الفرنسيون المرابطون إلى جانب بناية الهاتف التي تشغلها الآن دائرة الإذاعة في شارع النصر . واخترقت هذه الرصاصات نوافذ السرايا وصارت تتساقط في الممر} .

ثم يروي خالد العظم المعاناة التي عاشوها في الظلام في السرايا وخافوا أن يكون مصيرهم مصير شرطة المجلس النيابي ثم روى كيف استطاعوا الخروج من السرايا من الباب الجانبي متسترين بطرف من أطراف نهر بردى حتى وصلوا أخيراً إلى دار خالد العظم في سوق ساروجة ، وقد بلغ عدد هؤلاء مائة شخص ، نواب ووزراء وجرى طمأنة بعض من أهل الموجودين بالهاتف ، فعلم الفرنسيون باستراق السمع ، الملجأ الذي لجأت إليه الحكومة والنواب ، فقصفوا بمدافعهم من المزة سوق ساروجة حيث دار خالد العظم الذي لم يصب بالقنابل التي تساقطت على دور أخرى وشب الحريق في المنطقة .

ما أن أعلن قيام الدولة الصهيونية في فلسطين عام 1948 حتى نشطت عصاباتها من الهاغانا وشتيرن .. الخ بالقيام بمذابح في العديد من البلدات والقرى الفلسطينية ، تناولت النساء والأطفال والشيوخ وسالت الدماء الفلسطينية زكية أمام سمع الغرب المتحضر الذي ساهم بشكل أو بآخر في هذه المجازر وهجر مئات الآلاف من الفلسطينيين خارج أوطانهم .

وتمر الأيام حافلة بالمآسي والجراح وتقع كارثة عام 1967 وتتخاذل جيوش الدول المحيطة بالكيان الصهيوني ، وتضيع أراض من الدول المجاورة ، وتستمر الحال حتى إذا كان عام 1973 وبدت بوادر انتصار فإذا بالغرب ينتصر للباطل ويمد جسوراً جوياً لإمداد جيوش الصهاينة بأحدث الأسلحة بما فيها الدبابات التي نزلت من الطائرات مع طواقمها لتدخل المعارك فوراً .

بعد ذلك بدأت مفاوضات الاستسلام لتخرج مصر من حلبة الصراع مع العدو بعد “كامب ديفيد” ثم مرت بمدريد وانتهت بأوسلو ، وساد هدوء كافة الجبهات لأكثر من عشر سنين ، أعطت الفرصة للكيان الصهيوني لاقتطاع المزيد من الأراضي وبناء المستوطنات وتهويد القدس والخليل ، ونشر الرعب في صفوف الفلسطينيين وإقامة الحواجز والطرق الالتفافية وأخيراً الجدار الفاصل ، بينما نجد عرباً يسعون لتقبيل أيادي العدو لاستجدائه بفتات من مائدته .

وأخيراً وليس آخراً حاصر العدو الصهيوني غزة بموافقة عرب لأشهر طويلة ثم صب جام غضبه بالأسلحة الأمريكية المدمرة من صواريخ وقنابل وأسلحة محرمة دولياً ، واستعمل كافة صنوف التدمير براً وجواً وبحراً ، فأحرق الأخضر واليابس وقتل النساء والأطفال والشيوخ وبعد أكثر من ثلاثة أسابيع انهزم فلم يحقق ما سعى إليه في حربه العدوانية ، وعاونه في ذلك أو سكت عن مجازره المواليين من هذا الغرب المنافق .

ما كان لافتاً للنظر أكثر من الحرب نفسها ، هو هرولة مسؤولين كبار من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا وبريطانيا إلى الكيان الصهيوني ليجتمعوا بالقتلة أولمرت وباراك وليفني ، في تل أبيب وليمدوهم بالدعم المطلق لجرائمهم التي شاهدها العالم أجمع على شاشات التلفاز ، ودون أن يرف لهم جفن ، أو يحاولوا ولو من قبيل المجاملة ، التعرف على ما وقع في غزة ، أو ليزوروا الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ ، ويروا بأنفسهم الدمار الذي خلفته آلتهم العسكرية! .

هكذا تتكرر مأساة الشعوب الضعيفة التي تقع تحت نير احتلال ذوي العيون الزرق ، الذين يرفعون شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ، لتكون وسيلة لتضليل شعوبنا الساذجة التي تحكم من قبل أنظمة قمعية استبدادية لم تترك لها فرصة للتمييز بين الخبيث والطيب ، فآثر بعضها أن يرتمي بأحضان الغرب الهمجي مخدوعاً بدعاوى النفاق وحرصهم على الشعارات التي يطرحونها .

ولم يدر بخلد أحد أن يستعرض أمامه التاريخ الأسود لهذا الغرب وليطرح على نفسه السؤال الكبير ، ما هو الفرق بين جريمة أصحاب العيون الزرق في أمريكا مع الهنود الحمر وهيروشيما وناغازاكني والفيتنام وبناما وأمريكا الجنوبية أو مع السود في أفريقيا أو مع الشعوب التي استعمروها في بلادنا العربية والإسلامية ؟

شريط الأحداث يتكرر بنفسه والمثل يقول :

 (التقي من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه) ، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : « لاَ يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرْتَيْنِ »([1]) .

لا ننكر أن هناك أصواتاً وقفت بحزم في الخندق الحقيقي لحقوق الإنسان ، وخرجت للشوارع منددة بالجرائم التي ترتكب بحق شعوبنا ، سواء قبل الغزو الأمريكي الهمجي للعراق أو المجازر التي ارتكبت ولا تزال في فلسطين . أولئك هم من نمد وسنمد لهم يد الصداقة .

الشرعية والمشروعية في الحكم

13/06/2009

يرى بعض علماء الاجتماع أن الإنسان الأول بدأ حياته في إطار أسرة أبوية ، أي الأسرة التي تقوم على رابطة الدم من جهة الذكور حيث خضع الأبناء لسلطة الأب أو الجد المشترك الذي يدينون له بالطاعة المطلقة والولاء .

وقد تطور هذا الوضع على نحو يسمح باتساع دائرة الأسرة لتشمل بعض الغرباء ممن ينضمون إليها بطريقة التبني ، أو طريق الحماية التي يعطيها رب الأسرة للمستجيرين بها من الأجانب ، أو عن طريق اقتناء الرقيق وضمهم إلى خدمة الأسرة .

ودون الخوض في الخلافات بين علماء الاجتماع حول تشكل الأسرة وتابعيتها ، على اعتبار أن هذا ليس هو موضوع بحثنا ، إلا أن التطور الاجتماعي قبل الدولة هو أن انتقل الوضع من الأسرة إلى العشيرة ، وهي التي تكونت من تجمع عدد من الأسر نتيجة ازدياد في الأسرة والمواليد وتكاثر السكان ، وكانت الحياة قائمة على الترحال إلى أن ظهرت الزراعة فبدأت حياة الاستقرار حول قرى صغيرة ، ومع التطور وشعور الإنسان بعجزه لوحده عن أن يفي بحاجات نفسه ، وهي حاجات تعد بالمئات ، واختلاف كل منها عن الأخرى ، يستتبع اختلافاً في الأعمال يوجب تقسيمها وتفريقها ، واختلافاً في أهلية الناس للعمل واستعدادهم ومواهبهم ، فيختص كل منهم بشأن يتقنه ويقدمه للآخرين مقابل ما يقدمونه إليه ، وهذا هو الأساس الطبيعي الذي تقوم عليه الدولة وهو ثمرة طبيعة الأشياء ، ثمرة الضرورة لا ثمرة الاصطناع والاتفاق .

وهكذا وبسائق الضرورة تبنى الدولة المدنية الطبيعية البسيطة ، القائمة على سداد الحاجات الطبيعية البسيطة ، دون أن تحفل بالحاجات الكمالية الاستثنائية .

تلك هي الدولة في صورتها البدائية ، والتي تتسع مع الزمن بحسب حاجة الإنسان وتطور الحياة ونشوء الحرفيين والتجار والصناع .. وتتحول صورة الدولة كلما ازدادت توسعاً في أعمالها وحاجاتها ، وانطلق الناس إلى حياة الترف والنعيم وتطلبوا حاجات استثنائية توضع إلى جانب المهن الأساسية الضرورية ، ويتفنن بعض الناس في إبداع الحاجات النسوية ، بينما يزداد عدد الشعراء والممثلين ، ويصعب بازدياد تلبية حاجات الناس المتزايدة وتأمين الغذاء وضرورات الحياة لهذا المجتمع .. الخ .

إن هذا كله يحمل الدولة على أن تركب رأسها وتتجاوز حدودها الضيقة ، مثلما يركب الأفراد رؤوسهم مندفعين وراء مختلف الحاجيات الضرورية والكمالية ، والبذخ والترف والبطر والتعالي ، والبذخ مرتعه وخيم! ومن هنا تجيء الحرب ، وتولد معها مهن جديدة تحتاج إلى مؤهلات خاصة واختصاص قوي صحيح ، وتنشأ تبعاً لذلك طبقة متميزة تضم حراس الدولة والمحاربين ومنتجي السلاح ، وتكون الأولوية الأساسية هنا هي ضمان سلامة الدولة .

والدولة هذه تعددت أشكالها من دولة ملكية دينية ، إلى جمهورية أرستقراطية ، إلى أشكال أخرى من أنظمة الحكم الاستبدادية والفاشية الشمولية ، التي سادت بعض دول أوروبا قبيل الحرب العالمية الثانية ، إلى الجمهورية الديمقراطية التي سادت دولاً أخرى ، وفي الوقت الذي كان النظام الديمقراطي أيضاً متعدد الأشكال فمنه النظام الرئاسي كما في الولايات المتحدة الأمريكية ، ومنه النظام الجمهوري الذي تقوى فيه سلطة الحكومة أو سلطة مجلس النواب ، إلى آخر ما هنالك من أشكال كما في دول أوروبية معروفة . ولكن أين تكمن الشرعية والمشروعية في الحكم ؟

بين الحكم الاستبدادي والحكم المشروع :

في عالمنا العربي انقسمت الأنظمة إلى أنواع منها ما عاد القهقرى فأوغل في تاريخ حكم الأسرة وسمحت لنفسها بتسمية الدولة كلها باسمها ، في حين تسترت بعض الأنظمة بمسميات أخرى ، وأظهرت الديمقراطية بينما خبأت مخالب الحكم الاستبدادي الشمولي في قفازاتها الحريرية ، وحرصت هذه الدول على أن تكون مظاهر الديمقراطية بمؤسساتها خالية من المضمون ، فسمت مجلساً (للنواب عن الشعب) تحت مسميات شتى ودرجت سوريا على تسميته (مجلس الشعب) ، ومجلساً للوزراء ، وسلطة قضائية ، في حين تذوب كل هذه المؤسسات والسلطات في شخص الرئيس الذي هو الملهم والعاطي والقائد الفذ الوحيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وقد يضع النظام لنفسه دريئة يتمترس بها أمام الغير وهي (الحزب الحاكم) الذي يضم أعداداً كبيرة من المنتفعين الذين لا هم لهم سوى جني المنافع وتكديس الأموال والعيش برفاه لا حدود له ، كل ذلك باسم الشعب ولمصلحة الشعب وعلى حساب المواطن دافع الضرائب المسكين . فأين يكمن الفرق إذاً بين الحكم الاستبدادي والحكم المشروع ؟

في الحقيقة أن التفريق بين الحكم الاستبدادي والحكم المشروع تفريق موضوعي مجرد عن الأشخاص ، فإن أي نوع من أنواع الحكم يلتزم القانون لا يحيد عنه ، يكون حكماً مشروعاً .

ولكن هل يكفي أن يلتزم الحكم بالقانون ؟ أم لا بد أن يكون القانون ممثلاً حقيقياً لإرادة الشعب الحرة التي تعلو على المصالح والأهواء .

وفي هذا يقول Esmeim : (ليس ثمة حرية حقيقية حتى مع السيادة الشعبية إذا كانت الجمعية الشعبية تستطيع أن تتخذ اعتباطاً بحق مواطن معين أي تدبير كان) فسواء أكان القائمون على الحكم جماعة أم فرداً وسواء كانت الجماعة تتوزع السلطات وتفصلها أو تمسك بها كلها في أيديها ، فإن الحكم إذا بني على القوانين أي على القواعد الثابتة المعروفة المسبقة التي توجه صاحب السيادة الذي يمارس السلطات والحكم ، فيكون حكماً مشروعاً أو على العكس فيكون استبدادياً .

وإذا نظرنا من بين القواعد الحقوقية في الدولة ، إلى تلك التي تصدر عن السلطة التأسيسية هي القواعد المتفوقة المفروضة على الحاكمين أنفسهم أياً كانوا وأياً كان العمل الذي يقومون به ونصيبهم في ممارسة السلطة العامة أي ممارسة السيادة ، القواعد التي تحدد بشكل أمر حدود ممارسة هذه السلطة السياسية وشروطها ، فإننا نجد أنفسنا أمام الدستور من حيث مفهومه الموضوعي ، وأمام تفريق للحكم بين استبدادي ودستوري .

فالحكم المشروع بشكل عام هو حكم القانون في سائر وجوه نشاط الدولة ، أما الحكم المشروع من حيث التقيّد بالدستور فهو الحكم الدستوري ، فإذا كان الدستور يلزم السلطات في الدولة باتباع النهج القانوني المحدد لها ، فيؤول بالضرورة إلى احترام القانون في مختلف مساعي الدولة .

رأينا هذا التوافق والوحدة بين الحكم المشروع والحكم الدستوري ، ولقد وقع الخطأ لدى البعض من أن الاستبداد يأتي عبر الحكم الملكي الذي يكون فيه رئيس الدولة وراثياً ، أما الجمهورية فيكون رئيس الدولة فيها مسمى لمدة معينة ولا يأخذ الرئاسة عن طريق الإرث ولا يورثها ، إلا أن هذا الاعتقاد لم يصمد على أرض الواقع ، إذ رأينا في العصر الحديث ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين أن الرئيس في النظام الجمهوري قد يأتي بالوراثة ، ورأينا في ذلك بدعة نظام جمهوري وراثي ، كما رأينا تسمية الدولة جميعها باسم رئيس الجمهورية ، على غرار تسمية بعض الدول الملكية بأسماء الأسرة المالكة .

وبينما يتقيد العديد من الملوك بالدستور وبالقوانين ، نرى انعدام ذلك في الأنظمة الجمهورية التي انقلب فيها مفهوم الانتخاب المؤقت إلى تأبيد الجلوس على كراسي الحكم إلى الأبد ، بينما تصاغ صيغ متعددة لما يسمى انتخاب أو استفتاء وما شابه ذلك ، لتلميع الصورة وإظهارها بمظهر الممارسة الديمقراطية ، وتدور عجلة الدعاية الكبيرة لدى أجهزة الحكم كي تؤسس وتزرع في أذهان الناس خطر التغيير في أسلوب التأبيد أو الوراثة ، ويدخل في ريع المواطنين أنهم سيكونون أمام فراغ سياسي إذا غيروا ما درج عليه النظام الجمهوري آنف الذكر ، ويتم من بعد ذلك هدر جميع قيم الحكم السياسية ويجري ازدراء المجتمع على أرض الواقع ، كما يجري تصوير الشخص الوحيد الذي يقدم للحكم أنه هو المنقذ الوحيد القادر على إدارة دفة الحكم ، بينما تصور ساحة المجتمع على أنها خالية من أية إمكانية لوجود أشخاص قياديين آخرين ، فالشخص الوحيد هو المعطي والمانع والملهم .. الخ .

ولاستكمال الصورة تشكل مجالس “نيابية” على مقاس السلطة الحاكمة كما تسمى مجالس وزراء مماثلة لأي نظام ديمقراطي آخر ، وحتى لا يكون هناك من يقف في وجه هذا النظام الاستبدادي يتم الاستيلاء على السلطة القضائية ويجرد القضاء من استقلاله ، ومن العديد من صلاحياته القانونية وذلك بأن تؤسس العديد من أنواع المحاكم الاستثنائية التي لا تتقيد بقانون وتصدر أحكامها من إملاءات خارجها ، وقد تتمترس السلطة خلف واجهة حزبية عريضة تستخدم هي أيضاً لتأليه الحاكم وإضفاء المعصومية على تصرفاته ، وإظهار الانبهار بأقواله ، وبذلك ينجرف النظام برمته رويداً رويداً باتجاه الفاشية التي تقوم أساساً على قاعدة حزبية عريضة إلا أنها تنحني للواحد الملهم .

في مثل هذا النظام يجري التضييق على الأشخاص اعتباطاً بحجرهم في أماكن إقامتهم وفرض الرقابة المشددة عليهم ومنعهم من السفر أو عقد أي لقاء بقصد التداول في الشأن العام ، وتطلق الصلاحيات غير المحدودة لأجهزة الأمن المتعددة والمختلفة والتي تعمل جاهدة لضمان سلامة نظام الحاكم الأوحد ، وتصدر تشريعات غير دستورية وتناقض كافة القوانين والمعاهدات الدولية خارج صلاحيات مجالس الشعب وقد تصدر مجالس الشعب قوانين غير دستورية ، بينما لا يمارس مجلس الشعب نفسه ولا رئيس الدولة صلاحيته الوحيدة بعرض هذه القوانين على أية محكمة دستورية ويغض القضاة الطرف فيصدرون أحكاماً تنأى عن العدالة حين يطبقون هذه القوانين والمراسيم التشريعية ، ودون أن يتحروا عن العدالة أو يبحثوا في صلاحيات هذه القوانين للتطبيق .

إن حضارة أي دولة ومشروعيتها إنما ينبعان من مدى صدقيتها في إصدار قوانين مشروعة وتقيدها بهذه القوانين ، وهو وحده الذي يضفي على الدولة صفة الشرعية والمشروعية في الحكم .


([1]) رواه البخاري ومسلم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى