بحوث ودراسات

الخليفة المظلوم – عبد الله بن الزبير المفترى عليه – 8 من 11

د. هاني السباعي

مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن.
عرض مقالات الكاتب

أسباب قتال ابن الزبير للمختار الثقفي[1] المقتول سنة 67هـ

فمن هو المختار الثقفي؟

قال ابن كثير: ” هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عفرة بن عميرة بن عوف بن ثقيف الثقفي.[2] معظم عند الشيعة

وخلاصة القول في المختار الثقفي:

أنه كذاب مخادع وصولي غادر.

أنه نقض بيعة ابن الزبير وغدر بواليه وطرده من الكوفة.

أنه كان فاسد الاعتقاد يزعم أنه يوحى إليه، استحوذ على الناس بإظهار الأخذ بثأر الحسين رضي الله عنه، لذلك نرى أن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير لم يقصر في استمالة المختار الثقفي إلى جانبه عندما علم فيه الصدق أولاً، وماذا عسى ابن الزبير أن يفعل في رجل بايعه ودعا له على المنابر علانية، لكنه اكتشف أن الرجل فاسد الاعتقاد، وله أطماع يحرض الناس على نقض بيعته ومحاربته والدعوة لمحمد بن الحنفية سراً، وبدأ بالغدر وطرد والي ابن الزبير! إزاء هذه المعطيات كان لزاما على ابن الزبير أن يتصدى لهذا الخطر الداهم، فأراح الله المسلمين بقتل هذا الداعية الكذاب.

الشبهة الخامسة

إهماله الدعاية والإعلام

يقصدون إهماله الشعراء ويستندون على بعض الروايات، نختار منها: الشاعر عبد الله بن الزَبير الأسدي بفتح الزاي، ذكره الذهبي: بفتح الزاي فهو الأسدي أسد خزيمة كوفي شاعر مشهور له نظم بديع، وهو الذي امتدح معاوية ثم قدم على ابن الزبير فلم يعطه شيئاً فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك. فقال  (ابن الزبير): إن وراكبها، ولعن الله راكبها”[3]

وقال ابن الزبير لمن قال له: لعن الله ناقة حملتني إليك: “إنّ وراكبها” أي نعم ولعن راكبها.

إهماله للشاعر النابغة الجعدي:

قالوا: إهماله الشاعر النابغة الجعدي[4] قيل عاش مئة وعشرين سنة وقيل مئة وثمانين عاما: وهو شاعر مخضرم له صحبة واسمه: حبان بن قيس بن جعدة بن مضر ويكنى أبا ليلى، دخل على عبد الله بن الزبير المسجد الحرام فأنشده:

حكيت لنا الصديق لما وليتنا ** وعثمان الفاروق فارتاح معدمُ

أتاك أبو ليلى يجوب به الدجى ** دجى الليل جوّابُ الفلاة عثمثمُ

ليتجبرَ منه جانباً زعزعت به ** صروفُ الليالي والزمانُ المصممُ

فقال له ابن الزبير: هون عليك أبا ليلى! فإن الشعر أهون وسائلك عندنا، لك في مال الله حقان؛ حق لرؤيتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق بشركتك أهل الإسلام في فيئهم. ثم أخذ بيده ودخل به دار النعم، فأعطاه قلائص سبعاً، وجملاً رجيلاً، وأوقر له الإبل براً وتمراً وثياباً”[5]

أقول: بداية لا نسلم بصحة خبر النابغة الجعدي رضي الله عنه لتجريح الرواة لأبي الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغانيٍ، ولو سلمنا جدلاً بصحة الخبر فإن الشاهد من الرواية السابقة قول ابن الزبير للنابغة: هون عليك أبا ليلى! فإن الشعر أهون وسائلك عندنا! فهذه العبارة لا يستدل منها على هوان الشعر عند ابن الزبير وإهماله له؛ بل هذه العبارة إجابة للنابغة الجعدي لأنه يطلب مالاً بهذا الشعر، فإن ابن الزبير يريد تحرير المقصد وأن يكون المدح أو الذم لله وحده، وليس لمطلب دنيوي! فهذا هو المفهوم الراقي في تقويم الأمور ونصح الرعية بعدم استجداء الولاة؛ بل إن ابن الزبير من خلال هذه الرواية أنه كان يسير على درب من سبقه من الخلفاء الراشدين؛ فلا تملق ولا تزلف للحاكم.

كما أن هذه الرواية تصطدم بعناية ابن الزبير بالشعر، بل هو نفسه كان شاعراً حتى في ساحة الوغى، وعلى مشارف الموت كان ابن الزبير يتمثل بأبيات للحصين بن الحمام، يرددها في حصاره الأخير:

فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ** ولكن على أعقابنا تقطر الدما

نفلق هاما من رجال أعزة علينا ** وهم كانوا علينا أعق وأظلما

ودليل اهتمام ابن الزبير بالشعراء، أن عبيد الله بن قيس الرقيّات كان شاعر الدولة الزبيرية الأول: “وكان عبيد الله بن قيس الرقيات من أنصار آل الزبير منقطعاً إليهم (..) وهو شاعر قريش في الإسلام غير منازع، وقد كان أشد قريش أسر شعر (متانة وشدة)، في الإسلام بعد عبد الله بن الزبعرى، وفي الجاهلية. وكذلك كانت أفانين شعره كثيرة: له المدح البارح، والهجاء الشديد، والغزل الرائق (..) وقد كانت أكثر مدائحه وأحسنها في مصعب بن الزبير”[6] 

ابن قيس الرقيات يمدح عبد الله بن الزبير:

ودخلنا الديار ما نشتهيها ** طمعاً أن ننالها أو ترانا

وابن أسماء خير من مسح الركـ **ن فعالاً وخيرهم بنيانا

وإذا قيل منْ هجانُ قريش ** كنت أنت الفتى وأنت الهجانا[7]

أقول: فهل بعد هذا يقال إن عبد الله بن الزبير أهمل الشعراء وأهمل الدعاية؟! فأي دعاية يقصدون ومعظم منابر العالم الإسلامي تدعو لابن الزبير وتحت رايته؛ الحجاز ومصر واليمن والعراق وخراسان وفلسطين ومعظم الشام ما عدا الأردن ـ كانت تخطب لابن الزبير، ولن نزيد على ما ذكرناه آنفاً خشية الإطالة.

الشبهة السادسة

ادعاؤهم أنه كان بخيلاً

نلاحظ أن كثيراً من الكتاب كرروا هذه العبارة حيث صارت لازمة لابن الزبير!، ولا يكاد يخلو كتاب من ذكر هذه الصفة الذميمة من لدن الطبري حتى وقتنا الحاضر! وقد ذكرنا مقولة الدكتور ماهر حمادة آنفاً: “فقد كان بخيلاً، والعرب لا تدين لبخيل. كان يعطي للناس فيئ الله، وكأنه يقسم ميراثه من أبيه”[8]

وتعليقنا على هذه القضية يتلخص في النقاط التالية:

أولاً: في قصة النابغة الجعدي على افتراض صحتها، ما يعضد رأينا إذ أن ابن الزبيركان يسير على طريقة أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ فهل كان يعطي الصديق والفاروق الشعراء من بيت مال المسلمين؟!. وقصة عمر رضي الله عنه مع الشاعر الحطيئة[9] شهيرة.. فتراجع في مظانها لم يعطه إلا لفقره ولحاجته.

 وكذلك فعل عبد الله بن الزبير مع النابغة الجعدي، قال له كما في الرواية السابقة : ” لك في مال الله حقان؛ حق لرؤيتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق بشركتك أهل الإسلام في فيئهم”[10]

هكذا كان يتعامل ابن الزبير مع مال المسلمين فلو أنه أعطى هذا الشاعر وغيره من مال المسلمين لقالوا إنه جواد كريم، رغم أنه ليس من كده ولا من حر ماله! ولربما قالوا العكس: من أين لابن الزبير من هذا المال؟، إنه يتصرف في مال المسلمين كأنه يتصرف في مال أبيه!! بعبارة أشد قولهم إن ابن الزبير يتصرف في مال المسلمين كأنه مال بدون صاحب!! .

ثانياً: الذي روج لهذه الصفة الذميمة هم الشعراء الذين لم يجدوا ضالتهم عند ابن الزبير، فلما سخطوا عليه احتضنهم الخصوم وأجزلوا لهم العطاء!! ومن ثم هجوا ابن الزبير في قصائد مدفوعة من خصومه وشاعت وانتشرت بعد استقرار ملك بني أمية!؛ فالتاريخ يكتب على هوى المنتصر بغية تحسينه وسحق خصومه، وقد ذكرنا في مقال لنا (إعادة النظر في كتاب التاريخ الإسلامي): “إن الكثير من كتب التاريخ خضعت لهوى الحاكم إما رغبة في نوال ما عندهم أو رهبة في من سطوة الدولة أو بميل المؤرخ لتوجهات الدولة”[11]

وبمثل هذه الشبهات والطعون التي تقال على هؤلاء الخلفاء والقادة تصداقا لما ذكرناه من قبل: “إن كتابة التاريخ الإسلامي تعرضت لتشويه متعمد من قبل السلطة وكان الاخباريون والشعراء أدوات السلطة في التشويه، وقد أغفل العباسيون هذه الصفحة المضيئة في تاريخ هذا الخليفة المفترى عليه، كنا نود أن يردوا إليه اعتباره ويذبوا عنه ما وصمه به خصومه! لكنهم ساروا على درب من سبقهم فطفقوا يرددون نفس الأخبار والروايات وهم يعلمون أن ابن الزبير وتاريخه وسابقته وصحبته براء من هذه الصفات الذميمية.

لذلك نرى أن هوى الحكام وخشيتهم من ظهور لابن زبير آخر لغض الطرف عن إعادة الاعتبار لهذا الصحابي الجليل! فلا يريدون من يعكر عليهم صفو سلطتهم! فاكتفوا بإبراز صحبته، وفقهه وورعه وزهده مع شجاعته وجهاده. أما الجوانب الأخرى فتركوها للإخباريين!! وزادت حكايات بخل ابن الزبير في عصر بني بويه 320 هـ إلى 447 هـ. وكتاب الأغاني للأصفهاني طافح بمثل هذه الأكاذيب التي يعتمد عليها الرواة في طعن الصحابة وسادة الأمة رضي الله عنهم أجمعين.

إن الذي يقوي وجهة نظرنا أن قصة بخل ابن الزبير خلت منها سيرته الأولى أي قبل أن يبايع خليفة! وروج خصومه هذه الإشاعات وزادوا فيها خاصة بعد أن بويع له بالخلافة وبعد مقتله رضي الله عنه.


[1] راجع: يعظم الكثير من الشيعة المختار وذلك لمطالبته بدم الإمام الحسين بن علي الإمام الثالث، والذي قتل في واقعة الطف ويروي الشيعة عن الامام محمد الباقر الإمام الخامس حديثًا عن المختار بأنه قال لا تسبوا المختار فإنه قتل قتلتنا، وطلب ثأرنا، وزوج أراملنا، وقسم فينا المال على العسرة”أهـ بتصرف ـ  بحار الأنوار ج45 ص350.

[2]  راجع ترجمة المختار الثقفي: البداية والنهاية لابن كثير تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي ـ هجر للطباعة والنشر ـ طبعة أولى 1418 هـ ـ 1998م ـ الجزء 12 ص ـ الطبري ج من ص 64 ـ 62.

[3] الذهبي: سير أعلام النبلاء ـ ج 3 ص 383.

[4] راجع: هو قيس، وقيل حسان، بن عبد الله بن عُدَس بن ربيعة الجعدي العامري من جنوب اليمن . كُنيّ بأبي ليلى ولُقب بالنابغة لأنه سكت عن الشعر ثلاثين سنة ثم نبغ في قوله في الاسلام . هو أقدم من النابغة الذبياني . عاش طويلاً ونادم المنذر أبا النعمان بن المنذر . قيل إنه كان في الجاهلية يصوم ويصلي ويستغفر وهجر عبادة الاصنام . وله ابيات يذكر فيها التوحيد والبعث والجنة والنار . وفد على النبي على رأس وفد من قومه فأسلم وأنشده قصيدته الرائية، فأعجب بها الرسول وقال له : أجدت ، لا يُفضض الله فاكَ . ورد ذكره في “سير أعلام النبلاء”: ((هو أبو ليلى شاعر زمانه له صحبة ووفادة ورواية وهو من بني عامر بن صعصعة. يقال: عاش مئة وعشرين سنة. وكان يتنقل في البلاد ويمتدح الأمراء وامتد عمره قيل عاش إلى حدود سنة سبعين. قال محمد بن سلام: اسمه قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة بن جعدة. ويقال: عاش مئة وثمانين سنة وقيل أكثر من ذلك. وشعره سائر كثير. وقيل: اسمه حيان بن قيس وكان فيه دين وخير)).

[5] الخوري يوسف عون، وعبد الله العلايلي: أغاني الأغاني: مختصر أغاني الأصفهاني ـ مج1 ص387.

[6] عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي ـ ج1 ص 447 ، ص 448.

[7] ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات  تحقيق د. محمد يوسف نجم دار صادر بيروت ص156:

[8] ماهر حمادة: دراسات وثقية ص 47.

[9] ترجمة الحطيئة: في البداية والنهاية لابن كثير  تحقيق الدكتور تركي بن عبد الله المحسن ـ ج10 من ص 401 ـ 402 ـ كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة دار إحياء العلوم ـ بيروت ـ طبعة رابعة 1412هـ ـ 1992م ـ ص من ص 203 ـ ص208. ذكره ابن الأثير في أسد الغابة وقال: “ليس في هذا ما يدل على أنه صحابي، وإن كان قد أسلم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتد بعده، ثم أسلم. ويؤيد أنه لم يكن له صحبة أنه عبسي، والذين وفدوا من عبس على النبي صلى الله عليه وسلم كانوا تسعة، وأسماؤهم معروفة. وليس منهم، لأن الوفود من القبائل كانوا أعيانها ورؤساءها، وأما الحطيئة فما زال مهيناً خسيساً، لم يبلغ محله أن يكون في الوفد”أهـ أسد الغابة ـ ابن الأثير ـ تحقيق خيري سعيد ـ المكتبة التوفيقية ـ القاهرة ـ ج2 ص4. 

[10] ابن كثير: البداية والنهاية ج12 ص198.

[11] المنهاج: العدد الأول ص 68.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى