مختارات

المحارب الفيلسوف.. كيف نظر بيغوفيتش للدين والحياة؟

سامح عودة

“إذا صحّ منهج عباس محمود العقاد في دراسته للعبقريات، بأن لكل شخصية عبقرية مفتاح ندخل به إليها، فإنني أقترح بالنسبة لعلي عزت عشقه للحرية وتقديسه للمسئولية في آن واحد”

(محمد يوسف عدس – مقدمة الإسلام بين الشرق والغرب).

لم يكن القمر هو ما يُنير سماء “سراييفو” في هذه الليلة، وإنما أنبأت أضواؤها المصاحبة للقصف عن طائرات الصـرب المجتهدة في تجريف “البوسنة” من كل ما هو إسلامي. في أربع سنوات لم تهدأ فيها عين هذا الرجل الذي يقود أبناءه للمخبأ الآن، ثم يتركهم آمنين أسفل المنزل، ويعود إلى مكتبِه ليصافح مُصحفَه في سكون لا تقطعه إلا احتجاجات القصف وتلاوة السيد “بيغوفيتش” رئيس تلك الجمهورية القابعة تحت النار[1].

تنتهي الغارة، ويتنفّس الصبح حاملًا الرئيس البوسني على رأس قواته؛ لتستمر رحلة الكفاح التي انتهت بمدينة “دايتون” واتفاقيتها للسلام بين الطرفين، بعدما “استطاع المقهورون بالأمس أن يردوا العدوان الصـربي الغاشم، وأن ينتزعوا الأرض من تحت أقدامه في مواضع عديدة”[2]، لتنتهي مهمة “بيغوفيتش” الكبرى، نسبيًا، ولو باتفاقية سلام مُرّ -على حد وصفه- وتهدأ وتيرة الأحداث التي كانت، ومنذ بدأت، درامية وحافلة.

المفكر الإسلامي “علي غزت بيغوفيتش” (مواقع التواصل)

البذور والثمار.. هكذا كانت الرحلة

“إنها شذرات لا تمثل حياتي كلها، ذلك لأن أجزاء كاملة من حياتي إما نسيت تفاصيلها، وإما أنها تخصني وحدي ولا تهم غيري”

(بيغوفيتش – المذكرات)

في ساحة نزاع أوروبية، وتحديدًا في مملكة يوغسلافيا، ينشأ الصبي “علي عزت” يافعًا تحت أجراس الحرب العالمية الثانية، وفي أرض تتنازع أطرافها على بسط النفوذ، فما بين “الشتنك/الصـرب” الداعمين للملكة و”الأوستاشا/الكروات” المنحازين للألمان يظهر “جوزيف تيتو” وجماعته “البارتيزان” الداعمين لنفوذ السوفييت الشيوعي، ليرتفع إنذار التقسيم، وتتعالى صيحات الصراع الذي لا يكتفي بالحرب الخارجية ضد دول المحور.

وبين هذا الضباب الكثيف من الخبرات الأليمة، يُخبر”بيغوفيتش”[3] عن بقعة الضوء الساكنة في داخله، هناك، في الثانية عشـرة من عمره، حينما كانت توقظه أمه فجرًا ليرافقها إلى المسجد، ثم يعودا معًا بفاصل من الراحة والسعادة إزاء هذه الخبرة المثيرة، والتي كانت تبلغ ذروتها في فصل الربيع مع نسمات الصباح وتأملات سورة الرحمن، التي يختتم بها الإمام صلاته، فتبقى ساكنة حتى مطلع الشمس في ذهنه الصغير.

ثم هو الفتى نفسه، ورغم بساطة مستواه الدراسي، تراه يجتاز الأعمال الفلسفية الكبرى قبل أن يبلغ التاسعة عشر من عمره، ليخوض بعدها أولى معتركاته الفكرية حينما حلّت الشيوعية كضيف طالت إقامته على يوغسلافيا خلال الحرب العالمية الثانية. فيجد الشاب الصغير نفسه أمام خيارين، يخبره أولهما أن عليه الالتحاق بالشيوعية الآخذة في الانتشار، بينما ينصحه الثاني بالبقاء في الجبهة المواجهة لهذا الفكر، “اعتمادًا على ما استقر عنده من قيم ومبادئ دينية إسلامية استلهمها من قراءته للدين والفكر الإسلامي”، لتنتصر -حسب ما قاله في مذكراته- الفطرة في النهاية، ويعود مرة أخرى “إلى ينابيع الإيمان الصافي الذي يغمر عقله وقلبه”.

وهو ما ترجمه فعليًا بانضمامه، مع رفقة مجموعة من زملائه، لجمعية “الشبان المسلمين” الخيرية، والتي تأسست على أيدي مجموعه من علماء “البوسنة” المسلمين، ممن تلقوا تعليمهم في الأزهر، ليعبر “بيغوفيتش” عن طريقها إلى ممارسة أفكاره حول الإسلام الذي كان ينطوي عنده على حقيقتين متكاملتين: “عبادة برانية ظاهرة، ومحتوى داخلي روحي[4]. لكن، وبطبيعة الحال وكونه فتى شجاعًا واسع الحراك، ألقى نشاط “بيغوفيتش” داخل الجمعية به خلف أسوار السجن البعيدة لثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة، كعقاب له على أفكاره التي لم تتوافق مع توجهات السلطة الحاكمة آنذاك[5]، ليخرج بعدها إلى جمعيته التي باتت محظورة، ومقالاته التي كانت توزّع سرًا ضمن مجلّتها، وكذلك إلى رفيقة كفاحه السيدة “خالدة” التي أجزل في الثناء عليها فيما كتبه من المُذكّرات.

ويروي “عدس”، نقلًا عن هذه الورقات، أن “بيغوفيتش” لم يطق العمل كثيرًا كمحامي في إحدى الشـركات عقب انقضاء فترة سجنه الأولى، فاستقال منها، مؤثرًا عليها الكتابة والتأليف اللذان انتهيا به في نهاية المطاف إلى محاكمة هزلية اُتِهم فيها -مع آخرين- بمحاولة الانقلاب على الحكم وإنشاء دولة للمسلمين في “البوسنة” على خلفية كتابه “الإعلان الإسلامي”، والذي كان تجميعًا لمقالاته التي نُشـِرت أًصلًا في الصحيفة الرسمية للمسلمين، ولم يكن ذكر “يوغسلافيا” في أي منها، فضلًا عن أن يُذكر ما يدعو للانقلاب على نظامها. وهو ما أكده الكاتب البريطاني “نويل مالكوم” بقوله: أن التفسير القومي الصربي للإعلان هو دعاية كاذبة، وإن الإعلان مثل أطروحة عامة عن السياسة والإسلام الموجهة نحو العالم الإسلامي بأسره، وليس عن البوسنة ،ولم يذكر حتى البوسنة”[6].
 

وفي ست سنوات تجددت بالسجن، عاصر الفيلسوف نماذجًا بشـرية شديدة الدراما والتركيب، فبين القاتل والسارق، والمدفوع بالقهر للجريمة والمُختار لها عن عمد، عرف “بيغوفيتش” ألوانًا من الفلسفة الإنسانية، وامتزج مع أفكاره وتأملاته بخمس مجلدات من الورق الكبير، تم نشرها فيما بعد في كتاب أسماه “هروبي إلى الحرية”، مُخرِجًا للعالم نتاج هذه السنوات العجاف، التي تمنّى خلالها لو أنه كان رسّامًا ليُحكم التعبير عمّا زاره في ليله الساكن في أسر الجدران[7].

بين تفسيرين.. كيف رأى بيغوفيتش الإنسان؟

“يرى على عزت بيغوفيتش أن ثمة شيء ما حدث للإنسان جعله لا يقنع بجانبه الطبيعي المادي الحيواني ودفعه إلى أن يبحث دائمًا عن شىء آخر غير السطح المادى الذى تدركه الأسماع والأبصار، إلى ما لا تدركه الأسماع والأبصار، ولنسمه المُقدَّس”.

(عبد الوهاب المسيري – مقدمة لفكر بيغوفيتش)

من خلف الجدران، أيضًا، عرف “بيغوفيتش” الإنسان على فطرته بلا تزيين، ناظرًا إلى ثنائيته المتفاعلة بين الخير والشـر، وراصدًا للدراما التي تستعصي على التفسير المادي، ولا يفهمها إلا قلب الفنان، فتراه يعلق على حديث زملائه المجرمين وأسرارهم التي بثّوها إليه -كمحامي يكتب الالتماسات- بأنها كانت خبرة مثيرة دفعته للتأمّل والسؤال حول تعقيدات هذه النفس، ومدى إمكانية أن يكون بعض القتلة -بالفعل- أناس طيبين[8]. وعلى خلاف المحاولات النقدية الدراجة، يرى “المسيري” أن “بيغوفيتش” توجّه رأسًا إلى نقد التفسيرات المادية/الداروينية لأصل الإنسان، بعيدًا عن النقد العلمي، من خلال حقيقة الروح وليس الجسد، فاتضح بهذا تمييزه عن غيره؛ لأنه كان “يصوغ السؤال المعرفي (ما هو الإنسان؟) بطريقة خاصة”[9].

كذلك، ولأن “قضية أصل الإنسان كانت حجر الزاوية لكل أفكار العالم”[10]، فقد رأى “بيغوفيتش” أنها لا يمكن أن تنفصل عن الدين، باعتباره المصدر الأول لتفسير الوجود الإنساني، وكذلك عن العلم، الذي يفسر النشأة البشرية حسب النموذج الدارويني في فهم الأشياء. فهذا الأخير، حسب ما رأى “بيغوفيتش”، قد نظر إلى أصل الإنسان كنتيجة لعملية طويلة من “التطور”، حيث لا يوجد تميز واضح بين الإنسان والحيوان، ابتداءً من أدنى أشكال الحياة، كتطور المشـي قائمًا وتطور صناعة الأدوات، وحتى تتطور تواصله بلغة منطوقة مفصلة. أي أن الإنسان هنا ابن الطبيعة ويبقى دائمًا جزءًا منها.

وهي النظرة الخارجية التي أغفلت تفسير النفس الإنسانية، حسب “بيغوفيتش”، وكيف أن أشياءً كالتضحية والخوف والقلق بقيت ثابتة منذ الإنسان الأول وحتى لحظتنا الحالية؟ لذا فهو ينطلق إلى التفسير الآخر النابع عن الدين، متحدّثًا عن فكرة “الخلق” بأنها “ليست عملية، وإنما فعل إلهي.. وكذا ليست شيئًا مستمرًا وإنما فعل مفاجئ”[11]. فهو لا يرى في التفسير المادي للإنسان إلا اختزالًا له، وتفكيكًا يتبعه تلاشي هذا الإنسان في النهاية داخل معادلة طبيعية لا تُفسر “ما يملكه من عقل وغرائز وتصورات أخلاقية ودينية” إلا بكونها “نتاجًا لتغيرات بيولوجية حسب ما ذكره “دارون” في نظريته”[12].

https://www.youtube.com/watch?v=dPWPhcrtbKg

بينما يرى في قضية الخلق بُعدًا إنسانيًا لا يشرحه العلم، يتعلق بحرية الإنسان وقدرته على اختيار أفكاره وممارساته، فيقول أن: “قضية الخلق هي، في الحقيقة، قضية الحرية الإنسانية، فإذا سلمنا بحرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله، فإننا بذلك نعترف بوجود الله إما ضمنًا وإما صراحة. فالله وحده هو القادر على أن يخلق مخلوقًا حُرًا؛ لأن الحرية لا يمكن أن توجد إلا بفعل الخلق”[13]. فوجود الروح، لا المادة -وفق طرحه- هو ما يكسب الإنسان إنسانيته، ويصنع تمايزه عن الحيوان، كما أوضح “ألبير كامو” في موضعٍ آخر، بأن الإنسان هو حيوان يرفض أن يكون حيوانًا[14]، فيتسامى بحريته، ويصبح بين اختيارين، أحدهما بتقبل فكرة الخلق التي تفسر كيانه الداخلي وتجعله كائنًا مسؤولًا عن حريته. والآخر بالتنازل عن هذه الإنسانية وقبول تطوره الخارجي/المادي بلا أي أبعاد إنسانية تُميزه عن الحيوان.

فمنذ تلك اللحظة المشهودة، لم يعد ممكنًا لإنسان أن يختار بين أن يكون حيوانًا أو إنسانًا، إنما اختياره الوحيد أن يكون إنسانًا أو لا إنسان. “وبذلك ربط على عزت بيغوفيتش بين الإنسان وبين الله، بمعنى أن الإنسان لا يمكن أن يكون إنسانًا إلا بوجود الله، فإن مات الله (كما يزعمون في الحضارة الغربية) مات الإنسان، أو إن نسينا الله (كما نقول نحن) فإننا ننسى أنفسنا”[15]. فالكائن الإنساني الذي رفع نظره إلى السماء، باحثًا عن تفسير للأرض، حسب تعبير الطيب بوعزة، هو إذ يفعل ذلك يؤكد أن ثمة “ظاهرة ملازمة للإنسان غريبة على الحيوان، هذه الظاهرة تظل مستعصية على أي تفسير منطقي، ويبدو أنها نزلت من السماء نزولًا حرفيًا. ولأنها ليست نتاجًا للتطور، فإنها تقف متعالية عنه، ومفارقة له” كما قرر بيغوفيتش[16].الثنائيات بين الوجود والعدم

“إن الإنسان باعتباره إنسانا فإن الدين جوهري بالنسبة له وليس شعورا خارجيًا عن طبيعته”

(بيغوفيتش – الإسلام بين الشرق والغرب)

في تسلسل منتظم، يؤسس “بيغوفيتش” بناءه الفلسفي على قاعدة “الخلق الإلهي”، متنقلًا بين ثنائيته الأولى حول أصل الإنسان، إلى ثنائياته الباقية حول ممارسة هذا الإنسان لفعل الحياة، فهو يرى “أن ثنائية الروح والمادة في التكوين البشري جديرة بأن توضع في الموضع الصحيح والسياق المنطقي، دون أن يكون لأحدهما السطوة والحضور على حساب الآخر”[17].

فيستدعي “أفكار الفلاسفة السابقين والمتأخرين ورؤاهم كشواهد تعضد آراءه واستنتاجاته، ويضعها على طاولة البحث والدراسة”[18]، راسمًا في كتابه العمدة “الإسلام بين الشرق والغرب” خطّي التاريخ البشري أمام قارئه، ليضع على أولهما فلاسفة الإنسانية وفنانيها، ويرسم فوق الثاني العلماء ومفكري التفسير البراني للحياة، وبينما أطلق على المسار الثاني لقب التقدم المادي، نعت الأول بالمسار الإنساني/الروحي خلال التاريخ.

فإذا هو يربط الأول بالفن والثقافة والدراما الإنسانية، واضعًا الدين على نقطة التلاقي معهم، ويقرن بالثاني العلم والحضارة والطوبيا[*] في مقارنة بين الروحي والمادي، ليستخلص أن الإنسان يمكنه استيعاب ذلك كله بشكل متزامن، ولكن في الوقت نفسه يستحيل لأحد الخطين أن يستأثر بالتفسيرات وحده؛ لأننا، وعلى سبيل المثال، سنرى الثقافة التي هي تأثير السماء على الإنسان، تقف في الجانب الموازي للحضارة التي يؤثّر بها الإنسان على الطبيعة[19].

من هنا ينطلق “بيغوفيتش” للسؤال حول الدين وحاجة الإنسان له، كتفسير معنوي لوجوده وإشباع روحي لنفسه الثنائية، متسائلًا عن أسباب امتلاء حياة الإنسان البدائي بالعبادات والأسرار والمحظورات، ومستنكرًا على الإنسان الحديث محاولة اختزال كل شيء فيما هو مادي وآلي. وهو في ذلك يستشهد على فعالية الروح في تكوين الإنسان بملاحظة “بلوتارخ” القائلة بأننا” قد نجد مُدنًا بلا أسوار، أو بدون ملوك أو حضارة أو مسرح، ولكن لم يَر إنسان أو مدينة بدون أماكن للعبادة والعُبّاد”[20].


الحياة في الإسلام -وفق ما يرى بيغوفيتش- يحكمها عاملان متكاملان، أحدهما الرغبة الطبيعية في السعادة والقوة، والثاني الكمال الأخلاقي

فبيغوفيتش هنا لا يكتفي فقط بنقد الإلحاد فلسفيًا، أو باستقدام التاريخ كدليل على ما يطرحه، وإنما يتجه أيضًا إلى “العدمية” كوجه آخر للإلحاد، أو كما يعبر عنها بالإلحاد اليائس، ليبيّن عجز مذهبها عن استيعاب الحياة. فالعدمية عنده “ليست إنكارًا للألوهية ولكنها احتجاج على غيابها”، بمعنى أن العدمي هو باحث عن الإله لم يهتدِ إليه، وهذا الموقف ينطوي -حسب بيغوفيتش- على فكرة دينية عن الإنسان وعن العالم، لأن من يرى ذلك هو إنسان خائب الرجاء في تحقيق وجوده الإنساني، وفاقد لحقيقة وجوده الروحي في الوقت الذي يقرّ فيه العلم بحقيقة وجوده كجسد.

كما أن عبارة “سارتر” التي يصف فيها الإنسان بأنه “عاطفة تافهة لا جدوى منها” هي عبارة دينية بمنطقها وبروحها معا كما يرى “بيغوفيتش”؛ لأن المادية ليس فيها عاطفة أو تفاهة، والعالم المادي إذ يرفض الغائية (وجود غاية عليا)، يسعى بذلك للخلاص من مخاطر العبثية والتفاهة. فالجوهر الذي تنطوي عليه أفكار العدمية والوجودية يتلخص في فشل البحث عن هدف ومعنى، “وهذا البحث يصنفه بيغوفيتش على أنه بحث ديني، لأنه يرتبط برفض الهدف الدنيوي للحياة الإنسانية، أو رفض الغاية منها، لكنه يختلف عن البحث الديني في كونه ينتهي بالفشل”. وهو ما يخلص “بيغوفيتش” منه إلى أن “هذا الموقف المتطرف تجاه العالم كان هو بداية جميع الأديان”[21].الثنائية والأديان

“إن الدين الذي يريد أن يستبدل التفكير الحر بأسرار صوفية، والحقيقة العلمية بعقائد جامدة، والفاعلية الاجتماعية بطقوس، لا بد أن يصطدم بالعلم”

(بيغوفيتش – الإسلام بين الشرق والغرب).

في استعراضه لفلسفة الدين، يتطرق “بيغوفيتش” في طرحه للمقارنة الثلاثية بين الأديان السماوية الثلاثة، وعلى ميزان الروحي والمادي يتعامل مع التجربتين: المسيحية واليهودية على الترتيب. ولكنه ينبّه على التمييز بين الفكرة المجردة أو البداية المثالية من جهة، والتجربة التاريخية من جهة ثانية، وكذلك يوضّح أن مقارنة الروح والمادة هنا خاصة بأتباع الديانتين وتجربتهما التاريخية، وليس الأصل الحقيقي الذي أُرسلا به النبيان.

ثم يذهب إلى أن اليهودية، أو تجربة اليهود، هي الممثل الفعلي للمادية بين الأديان، فجميع أفكار العقل اليهودي معنية بإقامة جنة أرضية، وفي التاريخ ما يشير إلى أن اليهود “الصدوقيين” ظلوا يرفضون فكرة الخلود حتى ظهور المسيح عيسى، ومن الناحية الفكرية الفلسفية يقرر “موسى بن ميمون”، وهو أبرز فيلسوف يهودي في العصور الوسطى، أن الخلود فكرة غير ذات موضوع؛ لأنها تنقض نفسها بنفسها[22].

 وفي السياق ذاته يقول “هيجل” في “فلسفة التاريخ ” أننا “لا نجد لدى اليهود أي إيمان بخلود النفس”، وبما أن فكرة الخلود تقود للاعتقاد أن ثمة ما يمكن تحقيقه في العالم الآخر، فإن نقيضها يقطع أي أمل أو إيمان بعالم آخر غير هذا العالم؛ لأنهم يعتقدون أن مملكة “الرب” ستتحقق على الأرض، وليس في السماء كما يؤمن المسيحيون، أو كما يقول “أرنست رينان” أن “اليهود لم يستطيعوا أن يتقبلوا فكرة الخلود؛ لأنها لا تنسجم مع فكرتهم عن العالم الذي لا يرون فيه سوى هذا الجانب الدنيوي[23]. وعلى قول العرب: “بضدّها تتميز الأشياء”، يرى الباحث اليمني “فؤاد مسعد” أن فلسفة “بيغوفيتش” تعرّف المسيحية بكل ما يضاد تعريفها لليهودية[24]، فهو يرى أن المسيحية تقضي باستحالة خدمة سيدين  في الوقت نفسه، أو السير في اتجاهين متضادين: اتجاه الأرض واتجاه السماء.

فكما كانت اليهودية في أقصى اليسار المادي، فإن المسيحية أتت كذلك في أقصى اليمين، مغاليةً في الانتصار لقيم الروح على حساب المادة، “وفي هذا تكمن المشكلة التي يعرضها بيغوفيتش ويعدها مشكلة العالم اليوم، وهي انشطاره إلى قوتين لكل منهما مقوماتها وأسسها وعوامل استمراراها، عالم مادي يعيش في قطيعة مع الروح، وعالم روحي يحيا معتزلًا المادة”[25]. أو كما قال “برتراند راسل”: بأن “المسيحي نظر إلى الحياة الأرضية على أنها مرحلة إعداد لحياة آتية أعظم شأنًا، ونظر إلى تعاسة الحياة البشرية على أنها امتحان فرض عليه لكي يطهره من وزر الخطيئة الذي ورثه منذ مولده”[26].الإسلام.. الوحدة ثنائية القطب

“يمكن للدين أن يؤثر في العالم الدنيوي إذا هو نفسه أصبح دنيويًا”

(بيغوفيتش – الإسلام بين الشرق والغرب)

يرى “المسيري” فيما يتعلق بفلسفة “بيغوفيتش” أن الأخير قد لخص التفسيرات الكونية في ثلاث نظريات، كانت الأولى في الرؤية المادية التي ترى العالم باعتباره مادة محضة، أو ما قابلها من اليهودية بفكرة النعيم الأرضي. والثانية هي الرؤية الدينية المجردة التي ترى الحياة كتجربة روحية خاصة، لا تذهب أبعد من العلاقة الشخصية بالله، وهو التفسير الذي ينكر الاحتياجات المادية للإنسان، بما توازيه المسيحية في التطبيق الواقعي[27].

الصلاة الإسلامية، حسب تفسير بيغوفيتش: “انعكاس للطريقة التي يريد بها الإسلام تنظيم هذا العالم، حيث إنه لا صلاة بدون طهارة ولا جهود روحية بدون جهود مادية واجتماعية تصاحبها”

لكن ثمة رؤية ثالثه عند “بيغوفيتش” تعترف بالثنائية الإنسانية، وتحاول تجاوزها عن طريق توحيد الروح والمادة، وهذه هي الرؤية الإسلامية التي تخاطب كل ما في الإنسان وتقبله. فهو يرى أن الإسلام وجد قبل الإنسان، وهو -كما قرر القرآن- المبدأ الذي خلق الإنسان بمقتضاه، ومن ثم نجد انسجامًا وتطابقًا فطريًا بين الإنسان والإسلام.  فالإنسان هو وحدة الروح والجسد، وكذلك الإسلام وحدة بين الاتجاه الروحي والنظام الاجتماعي، وكما أن الجسم في الصلاة يمكن أن يخضع لحركة الروح، فإن النظام الاجتماعي يمكن بدوره أن يخدم المثل العليا للدين والأخلاق، وكذا في مصادر الإسلام نفسه، إذ يرى “بيغوفيتش” أن القرآن حين مثّل الجانب الفكري، فإن السُنّة النبوية مثّلت جانب الممارسة التي كان سيصعب تفسير القرآن بدونها[28].

وانطلاقًا من تلك الثنائية المتفاعلة، يضع “بيغوفيتش” تعريفه للإسلام كـوحدة ثنائية القطب، أو كمنهج يحقق الوجود المتزامن بين حقيقتي المادي والمعنوي، فالصلاة الإسلامية، حسب تفسيره، “انعكاس للطريقة التي يريد بها الإسلام تنظيم هذا العالم، حيث إنه لا صلاة بدون طهارة ولا جهود روحية بدون جهود مادية واجتماعية تصاحبها”، كما يرى أن الاهتمام الجغرافي والفلكي الذي صاحب الحركة الإسلامية خلال التاريخ ظهر بالأساس لتحقيق هذه العبادة على الوجه الأمثل لتحديد القبلة والمواقيت.

كما يرى في إعلان الزكاة دلالة على هذه الثنائية؛ لأن الفقر ليس قضية اجتماعية (خارجية/مادية) بحتة، وإنما أيضًا يحتوي على بُعد (داخلي/معنوي) يكمن في الشر الذي تنطوي عليه النفوس بالجشع وحرمان المحتاجين، وهو ما يهذبه الإسلام خارجيًا بالتكافل الاجتماعي، وداخليًا بتزكية النفوس {خذ من أموالهم صدقة تزكيهم بهاخُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103]. فالإسلام يدافع عن الحياة الطبيعية ولا يكرس الزهد، ويدافع عن الثراء ضد الفقر، وعن قدرة الإنسان على الطبيعة، والحياة في الإسلام -وفق ما يرى بيغوفيتش- يحكمها عاملان متكاملان، أحدهما الرغبة الطبيعية في السعادة والقوة، والثاني الكمال الأخلاقي. هذان العاملان يتعارضان، ويطرد أحدهما الآخر في إطار المنطق النظري فقط، لكنهما يتآزران بطرق عديدة في الحياة، وهذه إمكانية مُنِحت فقط للإنسان ومن خلالها يتم الحكم عليه[29].من الفلسفة إلى الحكم والعكس

“إنما أنا رئيس انتخبه الشعب”.

(بيغوفيتش – المذكرات)

وعلى الرغم من مرض “بيغوفيتش” الذي كان قد اشتد، فإن الدافع الفعلي لتخليه عن منصبه في المجلس الرئاسي كان بسبب الضغوط الدولية التي تعرض لها لمواقفه الدينية المحافظة. (مواقع التواصل)

في مقابلة مع مجلة “داني” الأسبوعية، وتحديدًا في (ديسمبر/كانون الأول) عام 1994م، جلس الرئيس الأول لجمهورية البوسنة والهرسك “علي عزت بيغوفيتش” أمام المحاور الصحفي، بعدما كانت كفّة بلاده في طريقها لأن ترجح على قوات الصرب، ليسأله الأخير: “سيدي الرئيس، قيادتك العبقرية للشعب البشناقي لا جدال فيها، فلست رئيسًا لحزب ولا رئيسًا للجمهورية فقط، ولكنّك أصبحت رمزًا للشعب البشناقي، ومع ذلك أغامر وأسألك: ماذا بعد علي عزت بيغوفيتش؟”

وبهدوء المفكر وتواضعه الملموس في كل ما كتبه عن نفسه، يجيب الرئيس الذي يقطن مع أبنائه في شقة متواضعة بسراييفو: “أظن أنك تبالغ كثيرًا فأنا مجرد رئيس انتخبه الشعب في انتخاب حر، وأعرف بالضبط ما يعنيه هذا الاختيار ومسئولياته”[30]. فبيغوفيتش الذي اختاره الشعب رئيسًا ليقود الصراع، وحضر التفاوض في “دايتون” والتقسيم الذي ألغى رئاسة الجهورية واستبدلها بالمجلس الرئاسي، كان قد قرر في عام 2000م أن يعتزل كل هذا، وأن يعود للفكر الذي خرج منه للرئاسة. وعلى الرغم من مرضه الذي كان قد اشتد، فإن الدافع الفعلي لتخليه عن منصبه في المجلس الرئاسي كان بسبب الضغوط الدولية التي تعرض لها لمواقفه الدينية المحافظة.

وفي ظهر التاسع عشر من (أكتوبر/تشرين الأول) 2003م أعلنت مستشفى “سراييفو” نبأ رحيل الرئيس الفيلسوف، الذي صرّح قبل تلك اللحظة بثلاث سنوات تصريحه السياسي الأخير: “صحتي ليست على ما يرام، فبعد 75 عاماً جاء الوقت لأصبح مريضًا”، ويختتم طريقه الذي أعلن منهجيته من قبل بأنه “إذا كان من الممكن استلام السلطة بالوعود، فإن الحفاظ عليها لا يكون إلا بالنتائج”[31].

 _______________________________________________

الهوامش:

[*]: الطوبيا: المثالية المجتمعية الحالمة، وهو هنا يقصد بها المجتمعات الاشتراكية التي كانت تحلم بمجتمع مثالي مكون من آلات بشرية وليس من بشر يحملون من الدراما والتداخل الإنساني ما هو كائن طوال التاريخ.

المصدر : الجزيرة
https://www.aljazeera.net/midan/intellect/sociology/2017/11/12/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%A7%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%81-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D9%86%D8%B8%D8%B1-%D8%A8%D9%8A%D8%BA%D9%88%D9%81%D9%8A%D8%AA%D8%B4

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى