مقالات

أنظمة التطبيع والخذلان.. وفرضية “اللاوصول” إلى فلسطين

الكاتبة

كيف ضاعت فلسطين؟ سؤال طرحته أجيال ومضت.. أما اليوم, فلم يعد هذا السؤال مجدياً لو استعرضنا صفحات الخذلان العربي لفلسطين. لم يعد مجدياً في زمن صارت فيه الخيانة -حتى الوصول لتصفية القضية- وجهة نظر معتمدة لدى الأنظمة التي توارثت ذاك التخاذل. إنه الزمن الذي صارت فيه الخيانة” أن تكون” دون خيار ثالث, فكأنّنا في زمن ” الشجب والتنديد” كنا بخير.. أما الزّمن الحالم الذي سبق عهود الشجب, فإن أنصاره كانوا يردّدون دوماً, بأنّ العرب بما لديهم من إمكانيات بشرية واقتصادية ومالية كانوا قادرين على تحقيق ما يريدون لو أرادوا، لكنهم تخاذلوا بإصرار. فلسطين تلك التي لا يمكن حجبها, ولا يمكن أن نراها إلا من زاوية واحدة رغم كل ذاك التآمر الفادح. كان سهلاً جداً أن تمر صفقة القرن في زمن بلغت درجة انحطاط بعض الأنظمة العربية مبلغاً لاحد له. مرت مثل كل خيانة بدأت خيوطها تُنسَج في أروقة القرار الأمريكي أولاً, ولمحنا بعضها بافتعال الأزمة الخليجية وزيارة” آل ترامب” إلى السعودية عام 2017. فالخيانة الأخيرة التي حصلت برعاية صهر ترامب اليهودي “كوشنر” وزوجته “إيفانكا” تستحضر في الأذهان أسماء كثيرة مرت عبرها الخيانات, فليس لورانس العرب وحده, بل أسماء كثر, ويلمع  بين هذه الأسماء,مثلاَ, اسم تسرّب في ذلك الزمن من بين صفحات الجرائد, هو الجاسوسة الصهيونية الملقبة ب” كاميليا” التي أُبرِمَتْ بجهودها صفقة الأسلحة الفاسدة عام 1948.

كل تلك التفاصيل مرهقة ومؤلمة, ساهمت بشكل أو بآخر إتمام صفقات التآمر لأنظمة لم تستطع حتى اللحظة أن تبرهن لشعوبها ” منطق اللاوصول” الذي رسمته. لكن بين الوهم والمنطق هناك من يستطيع أن يرسم الحلم بجدارة متقنة ولو اغتالوا منافذه. ولازلنا-على الأقل- نحاول أن نرسمه كما رسمه ناجي العلي ذاك الفلسطيني الذي اغتاله الموساد ليسكت صوته. وهو الذي قال يوماً : ” أرسم لأصل فلسطين”. مات ناجي العلي وانقضى زمنه, وبقي حنظلة ذلك التائه في الوجدان العربي يلملم خطاياه التي لم تحترق, ومنذ ذلك الوقت وحتى اللحظة كل الطرق التي رُسِمتْ لم تصل فلسطين, لكننا نلمحها في كل ثورة تقتل من الاستبداد شيئاً, فناجي هو ذاته الذي قال أيضاً: “الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة إنها بمسافة الثورة”. لكنَّ زمن الثورات الذي فيه بقايا من حبر ناجي العلي عاد ليجد مرة أخرى من يسرقه.

فمن يسرق زمن الفجيعة منا؟ فنحن مصابون بها, مصابون بإدمان قراءة التاريخ بأحداثه المخضبة بالخُذلان والضياع, لكننا لا نأخذ العبرة, بكل أسف. نعم, نحن أضعنا الطريق إلى القدس منذ زمن بعيد, ليس في تلك اللحظة التي جلس فيها عبد الله بن زايد يبحث في الورقة عن المكان المخصص لتوقيع ” اتفاقية التطبيع”. القصة لم تبدأ بصفقة القرن وإعلان القدس عاصمة لإسرائيل على خطى وعد بلفور. فهو زمن ترامب الذي لعب الدور واختصر أدواراً. ترامب الذي يقال بأنّ الإمارات ساهمت بصعوده وتمويل حملته الانتخابية عام 2017.وذاك ليس بغريب, فإن لها سوابق  في تمويل المتطرفين وأحزابهم في الغرب.                                                        إسرائيل اليوم تعيش أوج نشوتها بوجود أنظمة تتسابق مجاناً وبأرخص الأثمان لطلب رضاها, إسرائيل لم تحلم يوماً بأنظمة حكم عربية تكون أقرب إليها من هذه الأنظمة التي فاقت الحدود في الارتماء في أحضانها. ليجد ذلك الارتماء مرحلته الأخيرة في اتفاقيات التطبيع المعلنة.  وهل التطبيع إلا تلك الخيانة التي ما فتئت “تنخر” النظام العربي السياسي..! ثم إن ألغينا التطبيع كمفهموم مرتبط بخيانة الأمة, أفليس هو التساوي بين ندين متكافئين, وليس بين العبد وسيده..! ليس لأنّنا نضع الإمارات بموضع العبد, بل لأنهم هم من وضعوا أنفسهم بذاك الحال عندما ساروا إليه بخطوات مدروسة.  بدأ بحبر على ورق وانتهى بالتطبيق, ففي العام المنصرم على سبيل المثال, قام السفير الإماراتي لدى واشنطن يوسف العتيبة بتدشين الفعل ببضع كلمات, بنشر مقالٍ بصحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، “يصف فيه علاقات حكومة أبوظبي مع إسرائيل بالحميمة. وأن بإمكانهما خلق تعاون أمني مشترك وأكثر فعالية”.  فلم يكن إعلان الإمارات وإسرائيل عن اتفاق التطبيع بينهما سوى تتويج لمقدمات علنية وسرية متتالية في السنوات الماضية، كالتعاون والتنسيق بين أبو ظبي وتل أبيب في المجال السياسي والعسكري، فضلاً عن مختلف أشكال التطبيع الرياضي والثقافي وغيرهما.                                                                              الإمارات التي دمرت بمالها مدناً عربية, ومولت خرابها لأنها ثارت على جلاديها, حرصت في الوقت ذاته على إعمار إسرائيل, فهل نتفاجأ الآن بخيانتها, ومنذ متى كانت على وفاء.!؟

الإمارات التي أعادت اليمن قروناً إلى الوراء, مع البقاء على العامل الحوثي كسبب مباشر طبعاً. اليمن الذي كان  يوماً سعيداً, صار بين جوع وخراب. كانت البداية, كما العادة, عندما تآمرت السعودية والامارات على ثورته ومكاسبها. فالتصابي الذي انتهجه الثنائي الخليجي ضيَّع على الأمة الكثير من قضاياها العادلة. تجويع لليمن وتدمير لبلدان الثورات, وعبث بها, مقابل ضخ الأموال في جيب الغرباء الذين أيضاً أحسنوا استثمار الأزمة الخليجية بذكاء. حتى في سوق أوروبا استطاعت الإمارات أن تستثمر. كما عملت عبر أذرعها في الغرب على التحريض ضد المسلمين وتمويل الأحزاب اليمينية المتطرفة خاصة في النمسا وألمانيا..

مال يذهب لتدمير المجتمعات العربية والمسلمة, ومقابله مال في جيب العدا. وهاهي “هآرتس” الإسرائيلية قد كشفت وقبل اتفاق التطبيع المعلن, عن عرض شركة أمنية إماراتية على ضباط سابقين في الاستخبارات الإسرائيلية العمل لديها برواتب فلكية تصل إلى مليون دولار سنوياً.. كل هذا المال مقابل عبث وافقار مدروس للبلدان العربية..

الإمارات بإعلامها ومرتزقتها عملت على تهيئة النفس العربية لامتصاص الصدمة التي سبقتها خطوات كثيرة.. لكن العبور أو القفز فوق عقول تلك الأجيال وعواطفها بات مستحيلاً, حتى تلك الأجيال التي عاشت زمن الهزائم الكبرى, من النكبة مروراً بالنكسة, وشهدت ذلك كله, ليمر أمامها ما تبقى من خراب أخير, يبلغ ذروته في خيانة علنية تحت مسمى التطبيع. لكن هذا الجيل عاش حلماً آخر, إنه جيل  يحلم ألا يرى شيئاً من بقايا تلك الأنظمة التي باعت فلسطين, وبقي لديه الأمل الأخير بالعودة يوماً ما, وهو حق غاب أصلاً من المفهوم العام للسياسة العربية. فكيف نعلّق المفاتيح على باب الخذلان العربي المهترئ.؟!  جيل عاش شاهداً على المرارات والانطفاء والألم, ألم  أعمق من جذور الإمارات وعمرها السياسي. وشيء من ذاك القبيل عبَّرت عنه تلك السيدة الفلسطينية العتيقة التي رفعت مفاتيح بيتها لتقول:” هذا المفتاح أقدم من الإمارات نفسها”.  ماذا سيحكي ساسة الإمارات لأولئك اللاجئين الذين انتثروا في الأصقاع سنيناً, على أمل العودة يوماً ماً, ويصرون ألا ينطفئ أملهم  بعدما شاهدوا فصول الحكاية الأخيرة من حكايتهم التي بدأت بصفقة القرن حتى إعلان التطبيع.. حكاية ما انتهت فصولها يوماً, فالدور المتخاذل الذي لعبه العرب تجاه فلسطين هو ذاته الذي لعبوه تجاه سورية, وتركوها رهينة نظام مارس كل أنواع الاجرام..

وعندما كسرت الشعوب حاجز الخوف من جلاديها, أعادها لصوص الثورات عصوراً إلى الوراء. فكيف يمكن للعدو أن يخاف من أنظمة تخاف من” هاشتاغ” افتراضي يدعو إلى “خفض الأسعار”. أي ضعف ذاك الذي فينا, ليس كأنظمة بل كشعوب تجاهلت أو خافت أن تعبّر عن غضبها, بأنْ تجوب شوارع بلادها العربية رفضاً للتطبيع. ولطالما كان الضعف في الموقف العربي نقطة انطلاق العدو. يوماً ما قال حاييم وايزمان: ” لا داعي للخوف من العرب, فهم ضعفاء بطريقة بائسة”. هذا ما قاله وايزمان الذي لعب الدور الأكبر باستصدار وعد بلفور.

لكن ماذا نقول في هذه اللحظة التاريخية الحالية للعرب, حيث صارت الخيانة منهجاً ووجهة نظر, وكل الأسباب كانت كافية لتمويل الخراب والانقلاب على الربيع العربي -مثلاً- من أنظمة تورطت في دم شعوبها لتصنع وهم التطبيع.                                 إن تاريخ فلسطين وقضيتها يبين لنا لماذا لا يمكن أبداً تحقيق الحرية بالاعتماد على الدبلوماسية وهذه الأنظمة. إن الربط بين النضال من أجل تحرير فلسطين بالنضال ضد الأنظمة التي خانتها حقيقة لا يمكن الاستغناء عنها أو تجاهلها, بل هي الطريق الصحيح تماماً لتحريرها. كما يقول ابن فلسطين, الشاعر مريد البرغوثي الذي يلخص الحالة تماماً: “كلما سقط ديكتاتور.. كلما اقتربت فلسطين أكثر”.

فالتآمر على الربيع العربي هو بحد ذاته مؤامرة على فلسطين, فتلك الأنظمة وبقاياها وموروثاتها السياسية إنما هي من ذاك الزمن الذي باع فلسطين وتوغل بالتخاذل.. فهناك للضياع قصص..                                                                 وهل كان مفاجئاً بالنسبة لنا ما خطته الامارات, وهي التي قامت بخطوات تدميرية كارثية, لا تقل خطورة عن اتفاق التطبيع, وهل الخيانة تتجزأ, وهل ذاك “دور المخرّب” الذي لعبته الإمارت يقل عن فعل التطبيع؟!                                    فالخيانة لا تعني التطبيع فقط. فالانقلاب على الثورات وربيعها خيانة, والتحريض على المسلمين بضخ المال وتوظيف المرتزقة خيانة, وحصار اليمن وتدميرها خيانة, وما يحدث  في سورية على مرأى العرب خيانة, وترك العراق في مخالب القهر والظلم والاستعمار والميليشيات الطائفية خيانة.. وتقسيمات ليبيا خيانة, والسيطرة وسرقة الأوطان وتجويع الشعوب خيانة. فكيف لكل هؤلاء الخونة المجرمين أن يحرروا فلسطين..؟!

إن العلاقات العربية مع إسرائيل والتي يُرَوَّجُ لها على أنها -سياسياً- تخدم قضيتهم, وهذا استخفاف بالعقل, لا تفضي سوى إلى مكاسب دنيئة لها, لأنَّ العلاقات مع إسرائيل كطرف قوي بفعل ضعف العرب لن تكون كذلك, وفي ظل مجتمع دولي لم يستطع أن يطالب إسرائيل يوماً إلا بضبط النفس.

إن تلك العلاقات القائمة على مبدأ العبد وسيده لن ولم تحكمها إلا مصالح تلك الأنظمة التي تبرر فعلها على أنه مصالح قومية للأمة, لذلك غالباً ما كان يصاغ الخطاب على أن نقطة الانطلاق في العلاقات, هي المصلحة القومية, وحتى في مفهوم الصراع فإنه يبدو صراعاً بين القوميين وإسرائيل. لكن الأنظمة التي تسمي نفسها قومية, وتحت هذا المفهوم استخدمت الفلسطينيين كأدوات أو أوراق لتحقيق مكاسب تعود عليها لا على القضية الفلسطينية, كما فعل ولازال يفعل النظام السوري من الأب حافظ حتى بشار الابن. فهذا النظام الذي انبثق أصلاً واستمر من نقطة “أمن إسرائيل” وحراستها, وبيع الشعوب شعارات مهترئة زائفة لتعبئة الجماهير ونفخها -إن صح التعبير- بالعداء لإسرائيل, ليس كرهاً بإسرائيل, بل لصرفها عن مطلب الحرية ضد هذه الأنظمة, وامتصاص كل احتقان ضدها  عن طريق ” التنفيس” بالعداء لإسرائيل. فالممانع حافظ الأسد الذي سلم القنيطرة لإسرائيل في حرب 1967 عندما كان وزيراً للدفاع, ثم وفق “صفقة” باع هضبة الجولان للعدو الإسرائيلي, وكان ذلك ثمناً لوصوله سدة الحكم. ثم  ما فتئ يتغنى بالمقاومة والممانعة, مقاومة لا يمكن أن تمر إلا من فرع فلسطين, وقتل الفلسطينيين وإخفائهم قسراً كما السوريين. وهو جزار مجزرة تل الزعتر الذي أطلق عليه   ياسر عرفات حينها لقب: شارون العرب عندما قال ” شارون العرب يحاصرنا من البرّ وشارون اليهود يحاصرنا من البر”.

 لذلك فإن كل ثورة في بلد عربي تقرِّب المسافة من  فلسطين أكثر, فلا يمكن الفصل بين فلسطين وحريتها عن سورية وحريتها مثلاً. ولايمكن بناء جدار بين الحريتين, فكلاهما يؤدي إلى الآخر, فالتحرر من الأنظمة يفضي بالضرورة إلى تحرير فلسطين. فتلك الأنظمة التي تقف بانتظام لتتسول دعم ترامب وبيته الأبيض, وتتقرب من إسرائيل لكي تبقى على عروشها التي وصلت درجة التمسك بها حد الإدمان بعد موجة الثورات، ستظل العائق الأهم أمام تحرير فلسطين, ولهذا كانت المؤامرة على الثورات، حتى لا تتحرر تلك الشعوب وتبقى تحت سلطة القمع والترهييب فإبصار الطريق أو الوصول إلى آخره, يعني نهاية حتمية لها, وبداية لتحرير فلسطين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى