بحوث ودراسات

كيف انتقلت رموز الوثنيَّة إلى ملَّة أهل الكتاب؟ – 4 من 6

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

ج. الحيَّة

لم يرد في القرآن الكريم تشبيه لله تعالى بالحيَّة؛ بل إنَّها لم تُذكر إلَّا في قصَّة موسى عند قدومه إلى مصر. وعلى أيِّ حال، كانت الحيَّة ترمز في عقائد الأمم الوثنية إلى الرب، فهي رمز للقوَّة والتجدُّد، وكانت تقترن بالبيضة (مصدر كلِّ حيٍّ). ينطبق هذا على الإلهة أل، وبعل، وآشور، ومولوخ (إله الفينيقيين). البيضة أيضًا من الرموز العقائدية السائدة في الديانات الوثنية؛ فكما ذكر العالم الفيسيولوجي الشهير هولر “Omne vivum ex ovo،” أو كلُّ كائنٍ حيٍّ خرج من بيضة، انتبه البيولوجيُّون القدماء إلى حقيقة أنَّ العضو التناسلي الذكري المكوَّن من ثلاثة أجزاء هو في الأصل عبارة عن عنصرين. من هنا، أصبحت الحيَّة والبيضة معًا يشكِّلان رمزًا للأب: إل، أب، أتش، بعل، آشر، ميليخ، أدوناي، يهوه، وغيرها. ويتَّضح ذلك في الشكل التالي:

2.16-رمز الذَّكر

توضح هذه الصورة تقديس الحيَّة لدى الهندوس، حيث يظهر الرب سيفا-الذي يجسِّده كريشنا-وحول رقبته ثعبان كبير يرمز إلى عناصر الذكورة في الرجل، بينما ترمز العقود حول رقبته إلى عناصر الأنوثة. ويظهر في الصورة كذلك رمح من ثلاثة سنون-يرمز إلى ثالوث الرجل-حوله شريط أحمر-يرمز إلى وحدة الأنثى، في إشارة جديدة إلى خنثويَّة الرب، الذي يعتمد على اندماج صفات الذكورة والأنوثة في عملية الخلق. من المثير للانتباه ظهور هالة من نور حول رأسه، أشبه ما تكون بالشمس الساطعة.

2.17-خنثويَّة الرب في الهندوسيَّة

وتشير هذه الصورة إلى تقديس الحيَّة في البوذية:

2.18-تقديس الحيَّة في البوذية

أمَّا الصورة التالية، فهي من نماذج تقديس الحيَّة لدى الفراعنة. تظهر في الصورة الحيَّة-هي تمثِّل سفينة الشمس-لها رأسان، في إشارة إلى خنثويَّة الرب. على رأس من الاثنتين، يوجد تاج مخروطي الشكل له رأس صغير، بينما يوجد على الأخرى تاج آخر مجوَّف، ويرمز التاجان معًا باندماجهما إلى اجتماع صفات الذكورة والأنوثة. ولعلَّ وجود مفتاح النصر إلى جانب التاج المجوَّف ما يُثبت ذلك، فقد أشرنا من قبل إلى أنَّ ذلك الرمز هو لثالوث الرجل في جزئه السفلي ووحدة الأنثى في الجزء العلوي.

2.19-التحام ثالوث الذَّكر ووَحدة الأنثى

تجدر الإشارة إلى أنَّ بني إسرائيل قد أقاموا الشعائر لحيَّة من النحاس ترمز إلى الحيَّة التي تحوَّلت إليها عصا موسى، وقد سحقها حزقيا ملك إسرائيل، كما جاء في سفر الملوك الثاني (إصحاح 18: آية 4): “وَسَحَقَ (حزقيا) حَيَّةَ النُّحَاسِ الَّتِي عَمِلَهَا مُوسَى لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِلَى تِلْكَ الأَيَّامِ يُوقِدُونَ لَهَا وَدَعَوْهَا «نَحُشْتَانَ».”

3.في سفر دانيال

ورد في سفر دانيال (إصحاح 10: آيتان 5-6) وصف لظهور الرب للنبي دانيال: “رَفَعْتُ وَنَظَرْتُ فَإِذَا بِرَجُل لاَبِسٍ كَتَّانًا، وَحَقْوَاهُ مُتَنَطِّقَانِ بِذَهَبِ أُوفَازَ. وَجِسْمُهُ كَالزَّبَرْجَدِ، وَوَجْهُهُ كَمَنْظَرِ الْبَرْقِ، وَعَيْنَاهُ كَمِصْبَاحَيْ نَارٍ، وَذِرَاعَاهُ وَرِجْلاَهُ كَعَيْنِ النُّحَاسِ الْمَصْقُولِ.” وقد ذُكر شكل الرب كذلك في “كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ وُضِعَتْ عُرُوشٌ، وَجَلَسَ الْقَدِيمُ الأَيَّامِ. لِبَاسُهُ أَبْيَضُ كَالثَّلْجِ، وَشَعْرُ رَأْسِهِ كَالصُّوفِ النَّقِيِّ، وَعَرْشُهُ لَهِيبُ نَارٍ، وَبَكَرَاتُهُ نَارٌ مُتَّقِدَةٌ” (إصحاح 7: آية 9). يتَّفق هذا الوصف مع ما ذُكر من قبل عن شكل الرب الذي ظهر أمام نبي الله موسى. يتَّصف الرب بمظهر ناري يغلب عليه اللون النحاسي الرامز للنار.

4.في سفر الرؤيا

ورد وصف ظهور الرب في سفر الرؤيا: ” ثُمَّ رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِينًا وَصَادِقًا، وَبِالْعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ. وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِّلاَ هُوَ. وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ «كَلِمَةَ اللهِ»”(إصحاح 19: آيات 11-13). في هذا الوصف ما يتَّفق كذلك مع الأوصاف المذكورة في السابق.

5.في سفر حزقيال

كان وصف ظهور الرب في سفر حزقيال هو الأدق والأشمل، مقارنةً بغيره من الحالات السابقة. فالظهور لا يشمل الرب وحده، إنَّما يتضمَّن كذلك مجموعة من الكائنات المصاحبة، والتي تتميز بأوصاف تنطبق على أوصاف آلهة الوثنيين من عُبَّاد الشمس المتجسِّدة في آلهة مختلفة، وبخاصة الربين بعل وعشيرة، اللذين عُبدا في بابل. وكان الوصف في الإصحاح 1 من سفر حزقيال كالآتي:

سفر حزقيال “صَارَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى حِزْقِيَالَ الْكَاهِنِ ابْنِ بُوزِي فِي أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ عِنْدَ نَهْرِ خَابُورَ. وَكَانَتْ عَلَيْهِ هُنَاكَ يَدُ الرَّبِّ. فَنَظَرْتُ وَإِذَا بِرِيحٍ عَاصِفَةٍ جَاءَتْ مِنَ الشِّمَالِ. سَحَابَةٌ عَظِيمَةٌ وَنَارٌ مُتَوَاصِلَةٌ وَحَوْلَهَا لَمَعَانٌ، وَمِنْ وَسْطِهَا كَمَنْظَرِ النُّحَاسِ اللاَّمِعِ مِنْ وَسْطِ النَّارِ. وَمِنْ وَسْطِهَا شِبْهُ أَرْبَعَةِ حَيَوَانَاتٍ. وَهذَا مَنْظَرُهَا: لَهَا شِبْهُ إِنْسَانٍ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ. وَأَرْجُلُهَا أَرْجُلٌ قَائِمَةٌ، وَأَقْدَامُ أَرْجُلِهَا كَقَدَمِ رِجْلِ الْعِجْلِ، وَبَارِقَةٌ كَمَنْظَرِ النُّحَاسِ الْمَصْقُولِ. وَأَيْدِي إِنْسَانٍ تَحْتَ أَجْنِحَتِهَا عَلَى جَوَانِبِهَا الأَرْبَعَةِ. وَوُجُوهُهَا وَأَجْنِحَتُهَا لِجَوَانِبِهَا الأَرْبَعَةِ. وَأَجْنِحَتُهَا مُتَّصِلَةٌ الْوَاحِدُ بِأَخِيهِ. لَمْ تَدُرْ عِنْدَ سَيْرِهَا. كُلُّ وَاحِدٍ يَسِيرُ إِلَى جِهَةِ وَجْهِهِ. أَمَّا شِبْهُ وُجُوهِهَا فَوَجْهُ إِنْسَانٍ وَوَجْهُ أَسَدٍ لِلْيَمِينِ لأَرْبَعَتِهَا، وَوَجْهُ ثَوْرٍ مِنَ الشِّمَالِ لأَرْبَعَتِهَا، وَوَجْهُ نَسْرٍ لأَرْبَعَتِهَا”(إصحاح 1: آيات 3 -10).

جاء كذلك في سفر حزقيال “وَعَلَى رُؤُوسِ الْحَيَوَانَاتِ شِبْهُ مُقَبَّبٍ كَمَنْظَرِ الْبِلَّوْرِ الْهَائِلِ مُنْتَشِرًا عَلَى رُؤُوسِهَا مِنْ فَوْقُ. وَتَحْتَ الْمُقَبَّبِ أَجْنِحَتُهَا مُسْتَقِيمَةٌ الْوَاحِدُ نَحْوَ أَخِيهِ. لِكُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ يُغَطِّيَانِ مِنْ هُنَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ يُغَطِّيَانِ مِنْ هُنَاكَ أَجْسَامَهَا. فَلَمَّا سَارَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ أَجْنِحَتِهَا كَخَرِيرِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ، كَصَوْتِ الْقَدِيرِ. صَوْتَ ضَجَّةٍ، كَصَوْتِ جَيْشٍ. وَلَمَّا وَقَفَتْ أَرْخَتْ أَجْنِحَتَهَا. فَكَانَ صَوْتٌ مِنْ فَوْقِ الْمُقَبَّبِ الَّذِي عَلَى رُؤُوسِهَا. إِذَا وَقَفَتْ أَرْخَتْ أَجْنِحَتَهَا. وَفَوْقَ الْمُقَبَّبِ الَّذِي عَلَى رُؤُوسِهَا شِبْهُ عَرْشٍ كَمَنْظَرِ حَجَرِ الْعَقِيقِ الأَزْرَقِ، وَعَلَى شِبْهِ الْعَرْشِ شِبْهٌ كَمَنْظَرِ إِنْسَانٍ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقُ” (إصحاح 1: آيات 22-26).

2.20-أقرب تصوُّر لهيئة الربِّ في سفر حزقيال: اجتماع اللون النحاسي مع الأزرق

أول ما يلفت النظر في هذا الوصف التركيز على عنصر النار في ملامح الرب والموكب الذي أتى فيه، كما جاء في “وَنَارٌ مُتَوَاصِلَةٌ وَحَوْلَهَا لَمَعَانٌ، وَمِنْ وَسْطِهَا كَمَنْظَرِ النُّحَاسِ اللاَّمِعِ مِنْ وَسْطِ النَّارِ“، وفي هذا ما يتفق مع وصف ظهور الرب المشار إليه في السابق. التركيز على البريق واللمعان في مظهر الرب وموكبه، وتمييزه باللون النحاسي، من أبرز سمات النار ولونها. الجديد في الظهور هذه المرَّة أنَّ الرب جاء في موكب من مجموعة من الكائنات غريبة الشكل، تجمع بين وجوه الإنسان والنسر والثور والأسد، ولها أرجل عجل، وهذا وصف لا ينطبق إلا على الكائنات في القصص الخيالية. هناك تركيز على العدد “أَرْبَعَةُ“، وهو عدد الحيوانات، وعدد جوانبها ووجوهها، وهو يرمز إلى الرباعي المقدَّس-رمز خنثوية الرب وجمعه بين الذكورة والأنوثة. يشير وصف ظهور الرب على عرش يعلو قبَّة بلورية، كما جاء في “َوعَلَى رُؤُوسِ الْحَيَوَانَاتِ شِبْهُ مُقَبَّبٍ كَمَنْظَرِ الْبِلَّوْرِ الْهَائِلِ مُنْتَشِرًا عَلَى رُؤُوسِهَا مِنْ فَوْقُ”، إلى اندماج عناصر الذكورة والأنوثة؛ فقد سبقت الإشارة إلى أنَّ القبَّة ترمز إلى وحدة الأنثى، على اعتبار أنَّ معناها الأصلي هو التجويف.

نأتي لأهم ما يثير الانتباه في وصف الكائنات المصاحبة للإله؛ لأنَّ شكلها لا يتَّفق إلا مع نقوش رموز آلهة الشمس في بابل-إلى حيث سُبي بنو إسرائيل-ومصر الفرعونية-حيث عاشوا قرونًا حتى أخرجهم منها رسول الله موسى.

1.الأسد

كان الأسد مقدَّسًا في الديانات الشرقية القديمة التي عبدت الشمس، وبخاصة في بلاد فارس، حتى أنَّ الأسد والشمس ظلَّا الرمز الأساسي للدولة الفارسية في عهد الدولة الصفويَّة، إلى أن أصبح مختلطًا بالعقيدة الشيعية المحسوبة على الإسلام. وقد بقي شعار الأسد والشمس رمزًا أساسيًّا لإيران منذ عام 1576 وحتَّى سقوط الشاه رضا بهلوي عام 1979. وبرغم أنَّ الأسد كان في الأصل رمزًا لإله الشمس، اتَّخذه الصفويون رمزًا للإمام علي بن أبي طالب-كرَّم الله وجهه-وكان الشكل التالي هو علم الدولة الصفوية ورمز دولة إيران، مع اختلاف النظام الحاكم:

2.21-تقديس الأسد عند الفُرس

ويمثِّل برج الأسد في الأبراج الفلكية الفترة ما بين 22 يوليو/تمُّوز و22 أغسطس/آب، وهي أكثر فترة تشتد فيها أشعة الشمس على مستوى العام، وكانت عادة الأسود في القِدم أن تهجر الصحاري الحارَّة في تلك الفترة. على أيِّ حالٍ، كان الصليب والنسر والأسد والثور والنار والذهب من بين رموز إله الشمس في الأمم الوثنيَّة، ليس الشرقيَّة وحدها، إنَّما الرومانيَّة كذلك. وتوضح الصورة التالية كيف صوَّر عُبَّاد بعل في بابل إلههم وكأنَّه أسد له أجنحة طائر ورأس إنسان:

2.22-الأسد رمزًا للإله بعل

وتجدر الإشارة كذلك إلى أنَّ الميثرائيَّة في بلاد فارس قديمًا قد صوَّرت تجسيمًا لميثرا-إله الشمس-على شكل رجل عاري الجسد يبرز عضوه الذكري-ثالوث الرجل-وحول رقبته ثعبان كبير، ورأسه رأس أسد. وهناك مجسَّم آخر للإله في جسم رجل عاري الجسد يُظهر سوءته كذلك، لكنَّ الثعبان يمتد من قدميه وحتى صدره، وله جناحان، ورأسه رأس أسد، ويمسك في إحدى يديه البشرية عصا غليظة. وتجدر الإشارة أيضًا إلى نحت قدماء المصريين مجسَّمًا عبارة عن جسم أسد ورأس إنسان، يُعرف بـ “أبو الهول”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى