بحوث ودراسات

الخليفة المظلوم – عبد الله بن الزبير المفترى عليه – 6 من 11

د. هاني السباعي

مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن.
عرض مقالات الكاتب

الشبهة الثالثة

لم يكن منتهزاً للفرص ولم يكن ذا نظر في العواقب

 حيث دعاه الحصين بن نمير لمبايعته أهل الشام فرفض

نلاحظ أنه لا يكاد يخلو كتاب أو مقال عن ذكر هذه العبارة، لدرجة أن محققي كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير ذكروها في الهامش: “أن ابن الزبير لم يكن نهازاً للفرص ولا ببعيد النظر فقد سنحت له هذه الفرصة في أن يلي الخلافة لما جاء الخبر بموت يزيد بن معاوية وأراده الحصين بن نمير السكوني على البيعة له وإهدار ما بينهما من الدماء فأبى وضيع الفرصة”[1]

يعتبر  كثير من الكتاب أن هذا أهم سبب فوّته ابن الزبير على نفسه، وبنوا نتائجهم على رفض ابن الزبير لهذا العرض المغري من ابن نمير أنه لم يكن داهية ولم يكن ذا نظر في عواقب الأمور! كما يزعمون.

وتعليقنا على هذه القضية يتلخص في التالي:

هل أخطأ ابن الزبير رضي الله عنه في رفضه دعوة الحصين بن نمير قائد جيوش الشام ـ على افتراض صحة الخبر ـ أم أصاب؟

أقول: هذه الرواية تدل على حنكة وبعد نظر عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وليس كما زعموا فهي له لا عليه. فرواية الطبري: “بينما الحصين بن نمير يقاتل ابن الزبير، إذا جاء موت يزيد؛ فصاح بهم ابن الزبير فقال: إن طاغيتكم قد هلك، فمن شاء منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل؟ ومن كره فليلحق بشأمه، فغدوا عليه يقاتلونه. قال: فقال ابن الزبيرللحصين بن نمير: ادن مني أحدثك، فدنا منه فحدثه، فجعل فرس أحدهما يجفل ـ الجفل: الروث ـ فجاء حمام الحرم يلتقط من الجفل، فكف الحصين فرسه عنهن. فقال له ابن الزبير: مالك؟ قال: أخاف أن يقتل فرسي حمام الحرم؛ فقال له ابن الزبير: أتتحرج من هذا وتريد أن تقتل المسلمين؟! فقال له: لا أقاتلك؛ فأذن لنا نطف؛ وننصرف عنك، ففعل فانصرفوا”[2]

أقول: نلاحظ أن هذه الرواية لم تذكر الحوار الذي دار بين الرجلين، كما أن هذه الرواية تبين أن ابن الزبير رضي الله عنه هو الذي دعا ابن الحصين للتحاور! لكن الطبري ذكر رواية أخرى تتضمن الحوار الذي دار بين الرجلين: “فبعث الحصين بن نمير إلى عبد الله بن الزبير: موعد ما بيننا وبينك الليلة الأبطح، فالتقيا، فقال له الحصين إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر؛ هلم فنبايعك، ثم اخرج معي إلى الشأم، فإن هذا الجند الذين معي هم وجوه أهل الشأم وفرسانهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمّن الناس وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك، والتي كانت بيننا وبين أهل الحرة (..) وزعم بعض قريش أنه قال: أنا أهدر تلك الدماء! أما والله لا أرضى أن أقتل بكل رجل منهم عشرا، وأخذ الحصين يكلمه سراً، وهو يجهر جهراً، وأخذ يقول: لا والله لا أفعل؛ فقال له الحصين بن نمير قبّح اللهُ من يعدك بعد هذه داهياً قط أو أديباً! قد كنت أظن أن لك رأياً، ألا أراني أكلمك سراً وتكلمني جهراً، وأدعوك إلى الخلافة وتعدني القتل والهلكة!”[3]

أقول: نلاحظ أن هذه الرواية ذكرت أن الحصين بن نمير هو الذي بعث إلى ابن الزبير للتفاوض. عكس الرواية السابقة. وتعتبر هذه الرواية تكأة الطعن في شخصية أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير! كيف يضيّع مثل هذه الفرصة الذهبية ولا يذهب إلى الشام؟! فلو أنه ذهب إلى الشام لاستقر ملكه!! وطفق المحللون يستنبطون العبر والعظات من خلال هذه الرواية. لكن لنا عليها عدة ملاحظات:

الملاحظة الأولى: على افتراض صحة هذه الرواية ـ لا نسلم بصحتها ولها مبحث آخر ـ نناقش قضية رفض ابن الزبير تلبية هذه الدعوة: لماذا لم يذهب مع الحصين إلى الشام؟! ولماذا كان يجهر ابن الزبير بما يسره له الحصين بن نمير أمام الناس؟!

الملاحظة الثانية: مما لا شك فيه أن عبد الله بن الزبير كان على دراية كافية بما حدث لمن سبقوه من تلبية مثل هذه الدعوات! فماذا حدث للحسين بن علي رضي الله عنهما عندما جاءته كتب أهل العراق ليبايعوه؟! النتيجة أنهم خذلوه وقتل في كربلاء سنة 61 هـ ، نفس المأساة كانت مع الحسن بن علي رضي الله عنه؛ إذ خذله أهل العراق، فتنازل عن الخلافة سنة 41 هـ وحقن دماء المسلمين..

الملاحظة الثالثة: وإذا كان الحصين صادقاً في دعواه فلماذا لم يبايع ويأتي هو بوجوه أهل الشام طالما هو سيد قومه بغية إثبات حسن النوايا.

الملاحظة الرابعة: إن المزيات التي كان ابن الزبير قد تخلق بها أنه كان لا يعمل شيئاً إلا بمشورة أصحابه، بل لا يكاد يقطع أمراً دونهم، كما ذكر أهل السير والتاريخ ويوضح لنا هذه الحقيقة البلاذري في “أنساب الأشراف”: “إن لي أمراء لست أقطع أمراً دونهم فأناظرهم ثم يأتيك رأي، فرجع ابن صفوان (إلى) ذويه فقالوا: أتخرج من بلد نصرك الله فيه وتفارق حرمَ الله وأمنَه، وتستعين بقوم رموا بيت الله، لا خلاق لهم، فأرسل إلى الحصين إن أصحابي قد أبوا أن يتحولوا إلى الشام”[4]

الملاحظة الخامسة: كيف يتسنى لابن الزبير أن يطمئن إلى رجل مثل الحصين بن نمير الذي شارك في معركة كربلاء، وكان قائداً في الجيش الذي انتهك مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة الحرة سنة 63 هـ ! واشترك في الاعتداء على الكعبة، وحرقها ورميها بالمنجنيق، وكان جيشه لا يزال محاصراً أهل مكة وأيديهم ملطخة بدماء الصحابة؟!! أي قائد هذا أو أي أمير هذا الذي يستجيب لمثل هذه الدعوة وينتقل من مركز ثقله الاستراتيجي وحضّانته الشعبية ويترك أتباعه ومحبيه إلى مكان قد يخدع فيه ويعرّض نفسَه وأصحابَه للهلكة؟! أليست الحرب خدعة كما في الحديث الصحيح؟! فما الذي يمنع الحصين أن يكون في نيته أن يمكر بابن الزبير ويخدعه؟!.

ومما يؤيد وجهة نظرنا أن بعض الباحثين يرون أن ابن الزبير لم يكن يريد مرافقة الحصين بن نمير للأساب التالية:

(ا) حرص ابن الزبير على مشاعر ومحبة أهل الحجاز له: فهو حسب رأي البلاذري كان يستشيرهم ويحرص على رأيهم (..) ولعل تعمد ابن الزبير رفع صوته عند مخاطبة الحصين كان يقصد منه أن يسمع أنصاره الذين كانوا يرافقونه ما يدور بينهما وذلك للاحتفاظ بمحبتهم وتقديرهم ونصرتهم.

(2) عدم وجود أنصار ـ حتى ذلك الحين ـ له في بلاد الشام يمكن أن يعتمد عليهم وينصرونه كما هو الحال في بلاد الحجاز، فأهل الشام كانوا يدينون بالولاء والمحبة والتقدير للأمويين.

(3) عدم ارتياح ابن الزبير للحصين الذي اشترك في كربلاء، كما اشترك وجيشه في واقعة الحرة التي نكل فيها بأهل المدينة بحيث لم يبق بدري بعدها، ثم جاء غازياً مكة، فضربها بالمنجنيق، ولعل ابن الزبير اعتقد أنها خدعة”[5]

الملاحظة السادسة: أما ما ورد في الرواية السابقة من قول الحصين لابن نمير “قبح الله من يعدك بعد هذه داهيا قط أو أديباً”.. أقول: فهل بعقل أن يتفوه الحصين بهذه العبارة وبهذه الغلظة لعبد الله بن الزبير وأمام أتباعه وجيوشه وهو من هو؟!! هذه العبارة لا تستقيم وطبيعة الحوار القائم بين الرجلين إن صحت أصلاً الرواية!.

أقول: هكذا استبان لنا بُعد نظر أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير في الأمور،  ولو أنه استجاب لهذه الدعوة في ظل هذه الظروف وهذه الأجواء والخلفيات السياسية والتاريخية، وحدث أن انقلب عليه أهل الشام؛ لردد هؤلاء الباحثون نفس مقولتهم وقالوا عنه إنه لم يكن داهية ولم يكن ذا نظر في عواقب الأمور!!


[1] ابن الأثير: عز الدين الجزري: الكامل في التاريخ ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ ج4 ص 20.

[2] الطبري: تاريخ الطبري ـ ج5 ص 502.

[3] الطبري: تاريخ الطبري ـ ج1 ص 244.

[4] البلاذري: أنساب الأشراف ـ ج4 ـ القسم الثاني ص 57 ، ص 58 .. نقلاً عن من كتاب  عبد الله بن الزبير والانتفاضة الثورية في عهد بني أمية ص 107 ..  ج5 ص 502.

[5] الناطور: عبد الله بن الزبير والانتفاضة الثورية في عهد بني أمية ص 109.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى