حقوق وحريات

إضاءات سياسية (62)

هيثم المالح

عرض مقالات الكاتب

على هامش الانهيارات -2-  

رؤية لمستقبل الغرب بمناسبة ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

10/12/2007

سبق لي في عام 1990م أن كتبت مقالاً بعنوان -على هامش الانهيارات- حلّلت فيه الوضع في الاتحاد السوفييتي وخلصت إلى نتيجة هي : حتمية انهياره ومن ثم انهيار المنظومة الشيوعية .

وألخص ما قلت فيما يلي ، حتى يكون أساساً لما سوف أقدمه من رؤية حول انهيار الغرب الرأسمالي ثم انهيار الرأسمالية .

فلقد أشرت إلى تنبه الرئيس خروشوف إلى تخلف النظام الشيوعي حين زار الدول الاسكندنافية والولايات المتحدة الأمريكية ، ولاحظ البون الشاسع بين الحياة التي يعيشها المواطن في الاتحاد السوفييتي والحياة التي يعيشها مواطنو الدول الأخرى ، وطرح رؤياه بأنه ينبغي أن يتساوى مواطنوه في حقوقهم بالمواطنين في تلك البلاد ، وأشرت كيف تمّ إقصاء خروشوف بعد هذه التصريحات ، وحين جاء غورباتشوف إلى الحكم في الكرملين قدم وثيقة الإصلاح (البيروسترويكا) التي أحدثت صدمة كبيرة في الداخل ، وبدأ حينها التصدع في القيادة السوفييتية ، كما أشرت إلى هدم جدار برلين وكيف تدفق الألمان الشرقيون إلى الغرب هرباً من القمع أو شوقاً إلى الحرية .

وخلصت إلى نتيجة هي أن انهيار النظام الشيوعي لم يكن بفعل الغرب ، وإنما للتسوس الذي كان ينخره من الداخل ، وأشرت بالأمثلة إلى ما وقع في هنغاريا ، وتشيكوسلوفاكيا ، وبولندا وكيف كان التجويع والقتل والقمع غير المحدود الذي مارسه الجيش الأحمر ، والتي ساهمت مساهمة أساسية في تدمير بنية المنظومة من الداخل ، وبرغم أنه من الجدير أن أشير هنا إلى دور الاتحاد السوفييتي في مناصرة القضايا العربية في مواجهة الغرب الاستعماري ، إذ كان انهياره كارثة على التوازن العالمي وخسارة للعالم العربي بهذه المقاييس .

كما أشرت إلى الاسترخاء الذي حصل في العلاقات الدولية بعد انهيار المنظومة السوفييتية ، ثم الانحراف في التحيز إلى الدولة الصهيونية في فلسطين دون حدود ، والتشريعات التي أصدرها مجلسا النواب والشيوخ الأمريكيين لتكريس القدس عاصمة لدولة العدوان المغتصبة .

كما أشرت إلى عدم اتعاظ الأنظمة العربية مما وقع للسوفييت وللدول الدائرة في فلكهم ، وكيف حولت هذه الأنظمة شعوبها بفعل سياط جلاديها إلى نوع من قطعان الماشية ، بحيث أصبح همّ الإنسان على الأرض العربية هو الرغيف وتأمين الحد الأدنى من العيش لأسرته ولم يعد التحرير والحرية لهما أي معنى ، وغابت القيادات السياسية نتيجة هذا الواقع .

بينت بكلمتي السابقة إلى أن النظام الرأسمالي السائد في الولايات المتحدة إنما هو نظام الشركات الاحتكارية الكبرى والبنوك والتروستات العملاقة ، هذا النظام أدى لارتهان الشعب الأمريكي لهذه الجهات جميعاً ، ثم خلصت إلى أن انهيار هرم الرأسمالية البغيض لن يكون بعيداً .

أود الآن أن أوضح بعض الخطوات التي قام بها الغرب وعلى رأسه الدول الكبرى المكونة لمجلس الأمن الدولي ، ثم أخلص منها إلى النتائج التي تترتب على ذلك .

أدركت بريطانيا أن مصالحها ومصالح حلفائها تقتضي زرع كيان غريب في وسط العالم العربي ، بحيث يقسمه إلى مشرق ومغرب يصعب ربطه ، كما رغبت في كسب اليهود إلى صفها في العلاقات المستقبلية ، وفاوض بلفور الزعماء اليهود ، ووعدهم بإصدار وثيقة تتضمن إعطاءهم وطناً قومياً في فلسطين ! وهكذا كان .. ففي الوقت الذي كانت فيه بريطانيا مسؤولة عن فلسطين باعتبارها دولة انتداب ، وكانت لا تملك من الناحية القانونية أن تعطي وعداً كهذا ، إلا أن ما حصل في الواقع هو صدور الوعد الذي كان المحرك لمطالبة اللوبي الصهيوني بالضغط على الولايات المتحدة للدخول إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية .

لم تكد الحرب العالمية الثانية تشرف على الانتهاء ، والتي ذهب ضحيتها ملايين البشر مدنيين وعسكريين ومسحت مدناً كاملاً عن وجه الأرض ، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت قد انتهت من اختراع قنبلتها الذرية ، وأرادت تجربتها فألقت اثنتين منها ، إحداهما على ناغازاكي والأخرى على هيروشيما ، في الوقت الذي كانت اليابان على وشك الاستسلام ، فسويت المدينتان بالأرض ، وقتل مئات الآلاف من الناس أطفالاً ونساءً وشيوخاً ، الذين كانوا يقبعون في منازلهم آمنين دون أن يكون لهم أدنى مشاركة في حرب “قذرة” اقتتلت فيها دول أوروبية غربية وشرقية ، وأعقب ذلك ويلات على الدول الخاسرة التي احتلت واستبيحت بأكملها بما فيها من بشر وحجر وشجر . 

يظهر لنا من هذا العمل البشع الذي قامت به الولايات المتحدة الأمريكية من قتل للمدنيين وتدمير مدنهم ، حقيقة هذه الدولة التي تخفي مخالبها بقفازات الحرير بينما تظهر للعالم ملمساً ناعماً ، فتتحدث عن سيادة القانون وحقوق الإنسان .. الخ ، إلى ما هنالك من شعارات براقة ، وهكذا تنكرت الإدارة الأمريكية للمبادئ التي قامت عليها الدولة ابتداءً من جورج واشنطن إلى ولسن ومبادئه المعروفة .

أنشئت منظمة الأمم المتحدة ، وبرغم أن عدداً كبيراً من دول العالم ساهم في إنشائها ، إلا أن الحقيقة هي أن المنتصرين في الحرب كانوا هم المهيمنين على هذه المنظمة ، بينما كان الآخرون ومنهم الدول العربية تابعين وليسوا صانعين .

ومنظمة الأمم المتحدة هذه ، هي منظمة علمانية ، وليس لها طابع ديني ، كما يصفها ميثاق إنشائها ونظامها الداخلي ، ومع ذلك فقد ارتكبت هذه المنظمة أكبر جريمة في التاريخ الحديث ، إذ أصدرت قرارها (81) تاريخ 29/11/1947م المتضمن : (تقسيم فلسطين إلى دولة عربية ودولة يهودية) وبذلك ارتكبت أول مخالفة لميثاقها الأساسي فأوجدت دولة دينية كما خولت نفسها الحق باقتطاع أرض شعب لإعطائها لآخرين ، ثم التسبب في تشريد ملايين من البشر وهو ما لا تملكه بموجب الميثاق فضلاً عن أنه يتعارض معه معارضة كاملة .

أضحت الدولة الصهيونية خنجراً مسموماً في قلب العالم العربي ، وقطعت خط التواصل بين شطريه في شمال أفريقيا والمشرق ، وأثرت تأثيراً سلبياً في تنميته ، إذ أضحى الصراع والحروب تستنـزف قدرات الدول العربية مالياً ، بينما في الطرف الآخر نجد الولايات المتحدة الأمريكية تغدق على الدولة المغتصبة المليارات من المساعدات المالية ، وتمدها بأحدث أنواع الأسلحة الفتاكة بلا حساب ولا مقابل لقتل المدنيين وغيرهم في منطقتنا .

وبضغوط أمريكية واستخذاء عربي في المقابل تم إخراج أكبر دولة عربية ، وهي مصر ، من الصراع ، حين أقدم السادات على إبرام صلح مع العدو ، ودق أول إسفين في تفكيك الدول العربية ، وشجع الذين ينتظرون أن تسنح لهم مثل هذه الفرصة ليتخذوها حجة في هرولتهم نحو العدو .

دعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى مؤتمر في مدريد فهرولت الدول العربية إلى هناك وظنوا أنهم سيحصدون سلاماً . إلا أنهم لم يحصدوا سوى حنظلاً ، وولد من رحم مدريد اتفاق أوسلو الذي أبرمه قادة فلسطينيون مع العدو الإسرائيلي ، ومرت عشر سنين من الهدوء فماذا كانت النتيجة ؟ هدم للمنازل واقتلاع للأشجار وقتل للسكان واستخفاف بكرامة الأمة .. كل الأمة .

ثم وافق جمع من دول عربية وغيرها على عقد مؤتمر للسلام في مدينة “ديربن” جنوب أفريقيا ، إلا أن النتيجة كانت أن انسحبت الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل من المؤتمر حتى لا تدان الأخيرة بالعنصرية ، وينتقل هذا المشهد من مكان لآخر على طول وعرض خارطة العالم ويتكرر دون أن يتعظ أحد أو تتم المراجعة لهذا التاريخ الحافل بالجرائم الإسرائيلية بل أن ما يتم فعلاً هو استمرار الدعم الغربي اللامحدود للدولة الصهيونية المجرمة .

سنت برلمانات أوروبية قوانين لحماية ما سمي -فكرة المحرقة- واستهدفت الحرية استناداً لهذه القوانين ، وأحيل المفكر الفرنسي روجيه غارودي إلى المحكمة في فرنسا ، وجرت محاكمته من أجل كتابه (الخرافات المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) وحكم عليه بغرامة جزائية ، ومعلوم أن المحاكمة تمت بسبب رأي المفكر الفرنسي الذي قدمه في كتابه آنف الذكر ، وهو ما يتعارض مع مبادئ الثورة الفرنسية لجهة الحريات ، ولا أظن أنه يمكن أن يحتج أحد بقانون وضع لغايات سياسية معينة .

ثم أعقب ذلك إصدار تشريع يمنع على المحجبات دخول المدارس الفرنسية بحجة منافاة العلمانية ، وثانية تم الاعتداء على الحرية باسم العلمانية ، وانتشرت بدعة محاربة الحجاب إلى كثير من الدول الأوروبية .

وقد نسيت فرنسا أو تناست ما فعلته في الجزائر ، والجرائم التي ارتكبتها والقمع الذي مارسته هناك وسقوط أكثر من مليون شهيد الذين سقطوا دفاعاً عن حريتهم واستقلالهم ، كل هذا لم يذكر فرنسا بضرورة الاعتذار عما ارتكبته ، في الوقت الذي تعتذر فيه لليهود عما اقترفه النازيون الألمان بحقهم . 

حين كنت أكتب هذه الكلمات لفت نظري على التلفاز جلسة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة ما سموه (الكارثة الإنسانية في القرن الأفريقي) ، واستمعت إلى تحسر المتكلمين عما يجري في دارفور والصومال وغيرها هناك ، وشاهدت دموع التماسيح في عيونهم ، فقلت : لا بأس في ذلك ، ولكن هل أصاب هؤلاء العمى فلم يشاهدوا الكارثة الإنسانية التي حلت ولا تزال بالشعب الفلسطيني ؟! أولم يطلعوا أو يسمعوا عما يجري في غزة من حصار مضى عليه أكثر من عام ، وهو يتهدد مليون ونصف من البشر ؟ .

أولم يلمس هؤلاء الإرهاب الغربي الذي يقمع على أنظمة عربية محيطة بفلسطين ليكمم صوتها وليسكتها سكوت أهل القبور تجاه ما يجري هناك ؟! ، بينما يهرول الجميع تلبية لإصبع جورج بوش بوش حين دعاهم إلى (حفل أنابوليس) !! ، أم أن قتل الفلسطينيين من أجل سواد عيون الجوار الصهيوني ، هو أمر يندرج ضمن مفاهيم الحضارة الغربية ؟ .

عقب أزمة النفط وبدء ارتفاع أسعاره عام 1974م قدم مجموعة من الباحثين تقارير للكونجرس الأمريكي تتضمن مخططات لاحتلال منابع النفط في دول الأوبك ، وانفتحت شهية المارد الأمريكي الإمبريالي للاستيلاء على هذه المنابع بغية السيطرة عليها وإدارة الاقتصاد العالمي ، ذلك أن الإدارة الأمريكية وشركاتها الاحتكارية التي يعود لها الإدارة الفعلية ، تعرف حاجة معظم دول العالم للبترول ، الصين ، اليابان ، الهند ، أوروبا ، ولذا بدأت تخطط لما هو آت وتنتظر الفرصة المناسبة لتحقيق مبتغاها .

مع بداية انهيار المنظومة الاشتراكية المتمثلة بالاتحاد السوفييتي ، اجتاح الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الكويت ، ولم يتعظ ممن سبقه ، وفكر بفعل ما فعله غيره كعبد الكريم قاسم مثلاً ، وأراد صدام الانسحاب فعلياً بعد أيام ، إلا أن بعض القادة العرب شجعه على عدم الانسحاب بقصد تدمير العراق وتقديم المبرر للولايات المتحدة لاحتلال المنطقة ، ولسوف تكشف الأيام القادمة هذا القائد .

أن مسألة التغير الجغرافي في المنطقة العربية ، أو تغيير حدود سايكس-بيكو أمر ليس في متناول يد أهل المنطقة ، وإنما تحت سيطرة الدول التي أوجدت هذه الحدود في معاهدة سايكس-بيكو ، وقسمت الوطن العربي إلى دول وإمارات وغيرها ، ونصبت حكاماً ممن يدعو الوطنية لتكريس الحدود وتمزيق الأمة .

وجدت الإدارة الأمريكية أن الفرصة سانحة لحط رحالها في منطقة الخليج العربي بحجة تحرير الكويت ، وحطت جحافل جيوشها وأساطيلها وطائرتها وآلياتها العسكرية الضخمة في منطقتنا ، ووقع ما وقع بعد ذلك مما هو معروف وتحررت الكويت ، إلا أن المحتل بقي حيث هو إذ أن الوجود العسكري الأمريكي أضحى ضرورياً من أجل توسيع مخططات الاستيلاء على منابع النفط في الدول العربية ولكي تكون تلك المنطقة قاعدة للانطلاق إلى أماكن أخرى .

بدأت الإدارة الأمريكية بأكاذيب لها أول وليس لها آخر عن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل ، ومنها النووي ، وانساق معها الغرب وفرض حصاراً ظالماً على شعب العراق لإعادتها إلى العصر الحجري ، ومات مئات الآلاف من الأطفال والمرضى الذين لم يجدوا الغذاء والدواء الكافيين بفعل هذه الجريمة النكراء التي ارتكبها الغرب .

توّج كل ذلك أحداث الحادي عشر من أيلول المعروفة ، فاتخذتها الإدارة الأمريكية ذريعة لما سمي (الحرب على الإرهاب) بينما كانت في حقيقتها حرب على المنطقة العربية والإسلامية ، وتضامن الغرب مع الحليف الأمريكي في حربها على أفغانستان فدمرت ما كان مدمراً أصلاً ، وشاهدنا كيف حشر المعتقلون في حاويات وكيف ماتوا خنقاً أو قتلاً ، وتمخض الجمل فولد -سجن غوانتانامو- الذي غص بالمئات من المعتقلين دون محاكمة ، في ظروف غير إنسانية ودون أن تكون الإدارة الأمريكية مالكة لأي دليل جرمي ضدهم ، وكان من بين هؤلاء مصور قناة الجزيرة سامي الحاج ، كما تذرعت بمقولات كاذبة كما قلنا عن حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل ، ثم تحالفه مع تنظيم القاعدة ، وغزت العراق خارج القانون الدولي ودون أية موافقة من أي جهة دولية -الأمم المتحدة مثلاً أو مجلس الأمن الدولي- وطرحت مقولة (الحرب الوقائية) ، واستعملت الأسلحة المحرمة دولياً ، وقتلت مئات الآلاف من العراقيين ، ودمرت البنى التحتية للبلد ولاحقت العلماء بغرض تصفيتهم ، ونهبت المتاحف والكنوز واستنـزفت ولا تزال البترول العراقي حيث تحمله الناقلات دون عدادات ، وافتتحت سجوناً سرية ، وسجن أبو غريب السيئ الصيت ، وزج بآلاف العراقيين في هذا السجن ، ومارس مسؤولوها هناك بدءاً من وزير دفاعها رامسفيلد وقادة الجيش وضباطه أبشع صورة انتهاك لحقوق الإنسان العراقي ، وتسببت بتشريد الملايين منهم في سائر بقاع الأرض ، وعندما أدركت الإدارة الأمريكية أن كذبها قد انكشف في العراق تراجعت عن أقوالها حول أسلحة الدمار الشامل وقلبت المعادلة إلى مقولة “أنها اجتاحت العراق للإطاحة بالدكتاتور صدام حسين” ، وهكذا نصبت نفسها شرطياً أخلاقياً وتذرعت أنها تريد نشر الديمقراطية في العراق .

في خضم هذا المشهد اعترف جورج بوش بأن الإدارة الأمريكية دعمت الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي لمدة ستين عاماً مضت .

في مطلع القرن الماضي وبهدف تفكيك الدولة العثمانية ، التي كان الغرب -على ضعفها يخشاها- أقدم هذا الغرب على تحريض محيط هذه الدولة فقدم المغريات للشريف حسين ، عارضاً عليه أن يعطيه بلاد الشام وينصبه ملكاً عليها ، فثار المذكور على الدولة فيما سمي الثورة العربية الكبرى ، وما أن وضعت الحرب العالمية أوزارها حتى كان نصيب الشريف حسين النفي ، ثم انتهت مهزلة مملكته وفضح الغرب نفسه بنفاقه وكذبه .

في الأعوام القليلة الماضية وعلى أثر انهيار الاتحاد السوفييتي ، بدأ تفكك دولة يوغسلافيا ، وانقض الصربيون -هؤلاء الغربيون المتحضرون- فارتكبوا جرائم إبادة جماعية من قتل واغتصاب ضد مسلمي البوسنة ، بينما في الطرف المقابل ، لم يكن بشغل بال الرئيس الفرنسي ميتران إلا خوفهم من قيام دولة إسلامية في أوروبا فأطلق تصريحه المشهور بأنهم لن يسمحوا بقيام هكذا دولة في أوروبا ، وحينها كنت أتابع على التلفاز ووسائل الإعلام الأخرى المآسي التي تجري في البوسنة والهرسك ، وأشاهد المذابح التي ترتكب بحق المسلمين من قبل “متحضرين غربيين” !! .

وأخيراً وليس آخراً ، طالعنا البابا بنيدكت السادس عشر بكلمته التي ألقاها في جامعة رغينسبورغ تحت عنوان “الإيمان والعقل وذكريات من الجامعة وتأملات” حيث انخرط في كلمته في الحملة الغربية الشرسة ضد الإسلام والمسلمين ، هذه الحملة التي بدأت بتصريحات تاتشر وريغان ، والحروب التي أشرت إليها آنفاً وما أعقبها من فضائح طالت حقوق الإنسان بل طالت الإنسان نفسه .

تزامن كل ذلك مع الصور الكرتونية المسيئة لرسول الإسلام التي نشرتها إحدى الصحف الدانماركية ونقلتها عنها -دون استحياء وبكثير من الكبرياء والفحش- وسائل إعلام غربية أخرى في تحدٍّ واضح لمشاعر مليار ونصف مليار من المسلمين في العالم .

أريد أن أسأل هنا : هل ما ذكرته في السياق السابق ما يؤسس لحضارة أم لانهيار حضارة ؟! .

فإذا قلنا أن الحضارة هي عكس البداوة ، وتناقض الهمجية والوحشية ، وهي مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني ، وهي جملة مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي التي تنتقل من جيل إلى جيل في مجتمع أو مجتمعات متشابهة ، وهناك حضارات قديمة وأخرى حديثة ، شرقية وأخرى غربية ، والحضارات متفاوتة فيما بينها .

فإذا أسقطنا هذه المفاهيم على ما عرضته آنفاً ، فهل يدل ذلك على سمو بالحضارة أم على بداية الانتكاس والانهيار ؟! .

معروف أن لكل دولة مصالحها وهي تدافع عنها وهذا أمر مشروع ، ولكن هذا يجوز للدول أية دول أن تسحق الآخرين من أجل مصالحها ؟ وهل يمكن أن نعتبر إلقاء القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي ، وقتل المدنيين الأبرياء مبرراً لحماية مصالح الدول .

أم هل يجوز سوق الناس من أفريقيا إلى القارة الأمريكية لاسترقاقهم وانتهاك حقوقهم هو مبرر لحماية مصالح الدول ؟ أم هل يجوز اعتبار انتهاك حريات الأفراد المشروعة وحقوق الإنسان في الحياة والحرية والعدالة والمساواة مبرراً للدول لحماية مصالحها ؟

أم هل يجوز اعتبار ما قامت به الولايات المتحدة ولا تزال من انتهاك حقوق دولة عربية ، وقيامها بتدمير دولة بكاملها تحت ذريعة نشر الديمقراطية ، أنه دفاع عن مصالحها ؟

وهل أن ما يسمى المجتمع الدولي إذا غطى جرائم دول أخرى كأن أعطى المارد الأمريكي الحق بفعل ما فعل ، وعدم سعي هذا المجتمع أن يأخذ على يد الجاني ويسوقه إلى العدالة لينال عقابه ، فهل هذا يؤدي إلى بناء حضارة أم إلى ضرب أول معول في خرابها ؟

أن تنكر الغرب للمعاني السامية التي هي أساس بناء أي تقدم حضاري إنما يعني التخلي عن بناء الحضارة وترك هذا البناء يتداعى .

سبق أن قرأت كتاباً لمؤلفين أمريكيين هما “هاري فيجي وجرالد سوانسن” تحت عنوان”الإفلاس” 1995م ، وقد توقع الكاتبان انهيار الاقتصاد الأمريكي وسقوط الدولار باعتباره عملة عالمية ، إلا أن استدعاء بعض الحكومات العربية للجيوش الأمريكية كي تحط رحالها في الخليج تحت ذريعة ما سمي (تحرير الكويت) ، كان الحقنة المقوية لهذا الاقتصاد ، ذلك أن الجيوش الأمريكية دمرت في (حربها على العراق) أسلحتها القديمة المخزونة في قواعدها في أوروبا ، وهو ما كان من أهم العوامل لتشغيل شركات الأسلحة العملاقة التي لها الدور الأساسي في توجيه السياسة الأمريكية الخارجية ، كما عقدت صفقات كبيرة لبيع السلاح إلى دول الخليج ، وهي تعلم مسبقاً أن مصير هذا السلاح هو التلف في المخازن . سأدرج فيما يلي إحدى فقرات كتاب (الإفلاس) من الصفحة 199 ، والتي تقول : {والحقيقة التي لا مفر منها هي أن الدمار لا بد وأن يحل بأي دولة تتراكم عليها الديون والعجز ، وبمعنى آخر ، فإن قوانين ومبادئ علم الاقتصاد تؤكد مثل هذه الحقيقة . وكما يحصل المدخرون على فوائد على مدخراتهم ، فإن الدائنين يحصلون هم أيضاً على الفوائد على الأموال التي يقرضونها . لذا ، فإن مشكلة الديون ترافقها مشكلة أخرى تتمثل في فوائد الديون . وتبلغ ديوننا حوالي (4) ترليون دولاراً في عام 1992م . وبسبب الفوائد المترتبة على هذا المبلغ ، فإنه سيبلغ (56,6) ترليون دولاراً في عام 1995م ، و(13) ترليون دولار في عام 2000م -هذا على افتراض أننا لن نقترض أي مبلغ إضافي- ، ولا يمكن لأي عاقل إلا وأن يدرك أن هذا الوضع لن يستمر بهذه الصورة ، وأن نهايته لا بد أن تكون مأساوية} .

مما تقدم يتضح لنا حجم التسوس الذي ينخر في هذا الغرب الذي تنكر للعدالة ولسائر المعاني الإنسانية والذي مارس ولا يزال يمارس نفاقاً وكذباً سيؤدي به في النتيجة إلى نفق مسدود بغض النظر عن العلوم والمخترعات والتكنولوجيا التي كان يملكها مثيله الاتحاد السوفييتي إلا أنها لم تحمه من الانهيار .

إنني أدق ناقوس الخطر قبل فوات الأوان ، وعندها لات ساعة مندم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى