دين ودنيا

تأملات قرآنية مع شيخ الإسلام ابن تيمية (20)

الدكتور حسين القحطاني

عرض مقالات الكاتب

{دار السّعادة للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا}

قال الله تبارك وتعالى : (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين) “القصص” . جاءت هذه الآية الكريمة في نهاية سورة القصص لإثبات النعيم الأخروي للصالحين ونفيه عن المفسدين وعن كلّ من كان حاله كحال فرعون الذي قال الله عز وجل عنه : (إن فرعون علا في الأرض) . “القصص” وكحال قارون الذي قيل له : (ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) . “القصص” ومن المعلوم أنّ فرعون كان صاحب رياسة ، وكان قارون صاحب مال ، وفي الغالب أن أهل الرياسة يقعون في العلوّ والتكبّر والتجبّر ، ويقع أهل المال في الفساد والبغي والشهوات ، والرياسة والمال من أقوى وأشدّ الدّوافع للإثم والعدوان من غيرهما ، ولذا جاءت الآية عقب ذكر حال فرعون وقارون . وقوله تعالى : “تلك الدّار الآخرة” فيه إشارة لطيفة إلى دار السّعادة التي لا فناء ولا وصب ولا نصب ، وهذه الدّار الموصوفة بالحسن والجمال ليس كأيّ دار يشار إليها ، إنها دار السّعادة الأبدية ، وهذه الإشارة للدلالة على شرف المشار إليه ، وعظمته وعلوّ مكانته ، وفيها حياة منعّمة لا يزول نعيمها ، ولا تنقطع سعادتها ، جعلها الله للمتقين . ولهذا قال : “نجعلها” ، وهذا من كمال عدله وانصافه مع عبيده ، وقوله : “نجعلها” فيه وعد منه سبحانه بدخول الصّالحين دار السّعادة ، لأنهم لم يسعوا في الأرض فسادا ، والجزاء في الآية من جنس العمل ، فمن لم يدخل في قلبه إرادة العلوّ والفساد فضلاً عن جوارحه ، فإنه لا محالة سيدخل نعيم الآخرة ، والله لا يخلف الميعاد ، ودار النّعيم لا تنال بإرادة الشرّ والوقوع فيه ، وخصّ العلوّ المذموم بالذكر أولاً مع أنه من الفساد ، لبيان عظم شرّه العريض المتعدّي على الآخرين ، وخصّ أيضا ذكر الإرادة دون العمل ، لبيان حال القلوب ، لأن الإرادات محلها القلب ، فمن أراد العلوّ بقلبه ، فإنه يسعى للفساد في الأرض بجوارحه . وقوله سبحانه : (والعاقبة للمتقين) حيث جعل العواقب الحسنة لأهل التقوى ، لأنهم لا إرادة لهم في العلوّ والفساد حقيقة ، ولزم من ذلك أن تكون إرادتهم مصروفة للحق والتواضع والعمل الصالح ، وقصدهم منصب لنيل دار السّعادة ، وإذا كان أهل التقوى ليس لهم مجرد إرادة في العلوّ والفساد ، فإن أهل الفجور قد أشربت قلوبهم بالعلوّ ، وتلطّخت أعمالهم بالفساد ، ولذا جعل الله دار السعادة مخصوصة لمن اتقى عذابه ، وعمل بطاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ” قال تعالى : (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين) . الناس أربعة أقسام : قوم يريدون العلوّ على الناس والفساد في الأرض ، وهو معصية الله تعالى ، وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون ، كفرعون وحزبه ، وهؤلاء شرّ الخلق ، قال الله تعالى : (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحي نسآءهم إنه كان من المفسدين) … فهذه حال من يريد العلوّ في الأرض والفساد . والقسم الثاني : الذين يريدون الفساد بلا علوّ ، كالسّراق والمجرمين من سَفِلَة الناس ونحوهم . والثالث : يريدون العلوَّ بلا فساد ، كالذين عندهم دين يريدون أن يعلوا به على غيرهم من الناس ، وهو أكثر في المتعلقة بنوع من العلم أو نوع من الورع . وأما القسم الرابع : فهم أهل الجنة ، الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً ، مع أنهم قد يكونون أعلى من غيرهم ، كما قال تعالى : (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) “آل عمران” ، وقال تعالى : فلا تهنوا وتدعوا إلى السّلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) “محمد” ، وقال : (ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين) “المنافقون” . فكم ممن يريد العلوّ ولا يزيده ذلك إلا سفولاً ، وكم ممن جُعل من الأعلين وهو لا يريد العلوّ ولا الفساد ، وذلك لأن إرادة العلو على الخلق ظلم ؛ لأن الناس من جنس واحد ، فإرادة الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته ظلم له . ثم مع أنه ظلم فالناس يبغضون من يكون كذلك ويعادونه ؛ لأن العادل منهم ما يحب أن يكون مقهوراً لنظيره ، وغير العادل منهم يُؤثر أن يكون هو القاهر . فمريد العلوّ فسد عليه دينه ودنياه بظلم الناس ومعاداتهم لذلك ، فيحتاج لذلك إلى أعوان يدفعون أعداءه ، والأعوان في الحقيقة أعداء له ، إنما يعينونه لما ينالونه من أهوائهم ، فلهذا كان من طلب الرياسة إليه أحمق جاهلاً ، وإنما المطلوب منها ما يدفع به الإنسان عنه الضرر في دينه ودنياه ، وهو في الحقيقة دفع علوّ غيره عنه بالباطل ، لا إرادة منه علوّا على غيره” . “السّياسة الشّرعية في إصلاح الرّاعي والرّعيّة”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى