منوعات

في كراج الانطلاق (البولمان)

محمد الفضلي

كاتب وأديب سوري
عرض مقالات الكاتب

كنت أقضي إجازتي في دمشق بأن أركب الحافلة، وأدع السائق يوصل السيارة في الذهاب وعند العودة.

قادني حظي في أحد تلك المرات وعند عودتي، لأن أجلس في الحافلة إلى جوار رجل عجوز، توحي هيئته أن زمانه كزماني الذي جار عليّ.

كان يتفحص الساعة قبل انطلاق الحافلة، ثم يستغفر، ويسترجع ، ويحوقل أحياناً، ويقوم بترتيب لباسه حيناً آخر، فجأة توجه لي قائلا:
عم… متى ينطلق الباص؟
أجبته: دقائق قليلة يا عم.
فقال: وﻻ كأنه عندهم حس بالمسؤولية .. نحن متأخرون عشر دقائق
قلت: عم.. باقي دقيقتين لينطلقوا.. لم يتأخروا.
أها… كم الساعة؟ -الساعة العاشرة مساء تقريبا. ساعتي غلط …هذه الساعة مثلي هرمت!! خيراً إن شاء الله ..أنت من أين عمي؟
أنا من ريف دمشق. وأنا دمشقي…تشرفنا
انطلق الباص من دمشق إلى اللاذقية بعد تأخير لمدة سبع دقائق كالعادة.
سألته: ماالذي ستفعله باللاذقية حاج؟
أجاب: والله ياعم لدي شغل، وأنت ما الذي ستفعل هناك؟
خجلت أن اقول له عملي…فقلت له:
عندي محل لبيع الفلافل.
فقال: الله يرزقك.
خلال مدة الطريق الطويلة، والحاج يتحدث عن مصائب الدنيا، وعن الحاجة أم المعتز زوجه، وكيف ألبسته بزة رسمية، وهو لا يريد، وأنهم أنهكوه لكثرة مراجعة مشكلته في اللاذقية.
قاطعته فسألته:
خيرا يا حاج.. ما القصة؟ أخبرني ربما أساعدك، صار لي باللاذقية خمس سنوات، ربما أعرف أحدا يساعدك.
أجاب: والله يا بني.. في أحدالأيام، ومنذ وقت طويل، كنت موظفا بشركة عامة، وضحكوا علينا، وقالوا لنا تعالوا واكتتبوا على شاليهات بالرمل الجنوبي، وطمعنا كون الشاليهات رخيصة، والله عمك -أبو المعتز- ماقصر، فدفع عدة دفعات، ثم سلمونا إياها بعد عشرين عاما…من حوالي سنتين يعني..أما تسليم الله يكسر أياديهمﻻخدمات، ولا إكساء، وهات يدك والحقني، فضلاً عن سوء الكسوة.
شاليهات لا تستطيع أن تصطاف فيها، وﻻ تعزم أحدا عليها، ويسكنها القرباط (النّوَر) الذين احتلوا تلك الشاليهات.
ولمن نعترض ياعم؟! لا يوجد
فكلهم أكلوها سوية، وضحكوا علينا
قلنا: أمرنا لله، لنبيعها
لكن تبين أن لا أحد يستطيع أن يسكن هناك، بسبب وجود القرباط الذين لايهتموا بالنظافة، والآن الشاليه العائدة لي مُحتلة من قبل بعض القرباط، ولا أعرف كيف سأخرجهم؟! أو كيف استعيد الشاليه من يدهم؟!!
قلت له: بسيطة يا عمي!! بإذن الله محلولة.
قال: كيف هي محلولة؟ وكيف بسيطة؟
قلت له: غداً اذهب للنائب العام، وقدّم معروض شكوى، فيُحيلها لقسم الشرطة، وهم سيساعدوك لاسترجاع الشاليه.
قال: ماذا؟! ماذا؟! شرطة!!! ..
يا سلام…ضاعت الشاليه.
ضحكت وقلت: ولما يا حاج؟
قال لي: كلهم لصوص، وفاسدين، والله سيجعلوني أحضر، وأذهب ألف مرة، ويجعلوني أكره نفسي، ويرتشوا مني، وبالآخر لن يتغير شيء.
أجبته: أنت توكل على الله، واعمل ماقلته لك، والله سيوقف لك أوﻻد الحلال، ﻻتخاف، خلي عينك بعين الله.
وصل الباص إلى اللاذقية، وودعنا بعض البعض، وفي زحمة المسافرين …انسللت، وكان السائق ينتظرني خارج الكراج.
في اليوم التالي كنت موجوداً في عملي كمعاون رئيس القسم، ومرتدياً البزة العسكرية، فشاهدت أبا المعتز من نافذتي المطلة على الشارع، فأرسلت المساعد، وطلبت منه أن يكرمه، ويقوم بمساعدته، وتنفيذ معروض الشكوى، وأﻻ يخبره عني شيء.
بالفعل قام المساعد بخدمته خدمة كاملة، وأخرج القرباط من الشاليه، وسلمها له، وأعاده إلى القسم.
أمام القسم أخرج من جيبه مبلغ 500 ليرة سورية، وحاول إعطائها للمساعد كرشوة، إلا أن المساعد رفض، وسط ذهول أبي المعتز، الذي لم يعتد على ذلك، ولما أصرّ وأنها خارجة عن طيبة نفسه، قال له المساعد:
والله لو عرف النقيب سيعاقبني، ويضعني في السجن، وهو من أوصاني بك.
قال: من هذا النقيب؟
قال له: النقيب محمد .
قال له: وكيف يعرفني؟!
قال له: لا أعرف.
قال: أوصلني إليه حتى أشكره.
ولما دخلا إلى المكتب…وقف مشدوهاً ولسان حاله يقول:”هو أو ليس هو” ثم تجرأ، وقال:
شكراً سيادة النقيب للمساعدة، والله لا أعرف كيف أجازيكم؟! حللت لي مشكلة عويصة، وأزلت عني أزمةً كبيرة.
ضحكت، وقلت له: ألم أقل لك:
خلي عينك بعين الله، وسيفرجها عليك
قال: أنت!!
قال: من تقصد يا حاج؟
قال: أنت بالباص.
قلت: أي باص؟!
قال: محل الفلافل، أنت والله أنت.
بالله ألست أنت؟!!
فابتسمت، وقلت له: وتريد أكتر من هكذا فلافل؟!!
والله يا حاج أنا أكره الشرطة مثلك، وأكثر، وأعرف معاناتك وغيرك معهم، ولكن ليس بالإمكان أكثر ماكان،
الله يعطينا الشجاعة لتغيير مايمكن تغييره، والصبر على ما لا يمكن تغييره، والحكمة على التفريق بينهما.
فضحك، وقال لي: لكن …افتح محل فلافل أحسن لك.

وهكذا يا سادة:
فالقصة والله حقيقية، والعمل الشرطوي اراده النظام أن يكون: من أحد أقذر الوظائف لديه، وإن لم يكن لك أحد في الشرطة، فحقك سيضيع إضافة إلى أن الشرطة: هي أحد أدوات النظام لإذلال الشعب، وتنفيذ سياساته، وهي أضعف الأجهزة الأمنية في هذه السلسلة، ولا تخلو الشرطة من ضباط، وعناصر شرفاء، كانوا يحاولون استغلال الثغرات، وماتسمح به المنظومة.. لمساعدة الناس، وأعلم أنهم تحدّوا هذه المنظومة في أكثر من مناسبة، ولحق بهم مالحق، وأغلبهم اليوم منشق، وبقي كثير من القذرين.

الشريف اليوم:
منشقٌ، وملحوش، ومنبوذ بفضل توجيهات المخابرات العالمية، والنظام العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى