مقالات

بين التطويع واكتمال شروط التطبيع والتطبيل – 2 من 2

محمد صالح عويد

أديب وشاعر سوري
عرض مقالات الكاتب

نحن مهزومون لأننا ارتضينا الطعن في ثقافتنا وتعايشنا وتضامننا الأزلي الذي عبر عنه فارس الخوري في خطبته المفاجئة على منبر المسجد الأموي يوم تسرّب أن فرنسا جاءت محتلّة لسورية لتحمي مسيحيي الشرق من المسلمين …
هو فهم التاريخ واحترم انتسابه واختزل المسألة ، ولكن لنرى مَن مِن أنصاره (اللي عامليلوا صفحات فيسبوك ويتغنّوا بمواقفه الوطنية العميقة ، كالحمير التي تحمل أسفارا !؟) فهم ويحترم رؤيته ومشروعه وفهموا بأن ثقافة الجغرافيا هي المستهدفة لتحطيم أي حافز ولبّ جمعي يلتفّ حوله الناس ، وإن كان الاقتصاد والثروات والموقع أسبابًا رئيسة لكنها تُخفي الهدف الأساس،وهو اجتثاث وتحطيم الثقافة العربية الإسلامية الجامعة والتي يطعنها الجميع لنيل نياشين الوهم من الغرب الاستعماري …

تطوّعنا وطبّعنا حين وثق أغلبنا بمشيخات الخليج ،وتوهمنا برغبتها الوقوف معنا لإنهاء الاستبداد وإنشاء دولة مؤسساتيّة مدنية عادلة !
مع معرفتنا أن هذه المشيخات هي جزء من منظومة الاستهداف والتفتيت والتمزيق والنهب والإفساد العالمي .
غسلوا أدمغتنا بمساحيق ناجزة لا تترك خليّة حيّة متمرّدة ، ولم نعد نصدّق :
أنّ فلسطين جنوبنا السليب ، ولبنان خاصرتنا الناعمة بزغبها االمدلل : شلختها عن أرواحنا و سرطنتها فرنسا بالطائفيّة ،ثم سلّموها للأسد ،فحوّلها لوكرٍ فارسيّ وضيع ، وأن الأردن بعمامته الهاشميّة :
حارسٌ خائنٌ لأهلهِ ، مخلصٌ فقط لإنجاز مشاريع الأعداء.
حين لم نع أن مشايخ وأموال الخليج اندلقت علينا من غائب علمه لتلوّثنا أجمعين ، فهم من صنع لنا فصائل متشددة وأخرى تحمي دمشق ،وتعاونوا عبر استخباراتهم لحجز ضباطنا وعسكريينا المحترفين في معسكرات مغلقة في الجوار وأطلقوا الأراذل ليكونوا قادة فصائل والمتحكمين بالإغاثة و الإعلام الغبي والإدارات المدنية العرجاء ، ثم أسسوا لنا مراكز دكاكين تافهة تحت مسمى مراكز دراسات ،واشتروا ولاءات وذمم الكَتَبة المتهافتين للضوء والظهور وفتات الأجور : فصنعوا لنا كل هذا الفساد والخراب والوباء .
حين سلبونا ثورتنا وجيّروها لخدمتهم كنادلةٍ في أفضل الأحوال أو داشرة بلا أهل ، وتهافت كَتَبَتنا المتثاقفون للسمسرة عليها والترزّق تسولًا ونهبًا ونهشًا من دمها وجسدها الفاتن في الجهر والخفاء ، رغم أن معاركنا المستمرة من عشر سنينٍ هي حرب الدفاع عن بلادهم وشعوبهم بدمائنا نحن .
الآن وغدًا وبعد ألف عام :
ما ترتكبه الحكومات التي سلبت دفّة الحكم لا يمكن اعتباره مقدسًا ، ولا يمكن وضع شعوب الخليج في سلّة واحدة مع حكوماتها العميلة المُنتعلة و المصنّعة وفق مقاييس أقدام الغرب الاستعماري ، وبالتالي وبالضرورة ضدّ اي نهضة لشعوبهم وحرية اختيارها لأساليب الحكم والإدارة والعيش .
هذه الشعوب مغلوبة على أمرها ، صامتة ، تركن للتأمل والحكمة في اختيار وسائل المواجهة الناعمة بصبر البدوي وحكمته التي تخرج الأفعى من جحرها دون ضجيج وزعبرة
هذه الشعوب وأعتقد أن هذا ينطبق على غالبيتهم العظمى :
يدخل البدوي الَنفَور إلى الحمّام يشمِّر ويسترخي على كرسي الخلاء ، ويصفن طويلا ويقلّب أمر حكامه بكل اتجاه ويدرس كل الاحتمالات بذكائه الفطري وبصفاء البداوة ، يقرأ تفاصيل ما حدث ويسترجع ، ويفهم أن حكامه وأسيادهم في الغرب و عبر استباحة سورية والعراق واليمن وليبيا ومصر لتأديبه هو ولجم أي فكرة أو طموح ، فيتنهّد متحسّرًا ويضمّ قبضته على جمر الصبر ، ويفجُّ جرحه العميق ويدحيه بالملح ، ويئنّ وحيدا حتى لا يسمع أولاده وحليلته ، ثم حين يتشطّف يتناول كل اتفاقات التطبيع والخيانة كمناديل فيمسح مؤخِّرته بها ، ثم يتناول آليات الحكم القبلي القذرة ويتجمّر بها من البول : يسحب السيفون ويغادر الخلاء ونُصبَ عينيه هدفًا يغزله ويحيكه وينسجه بهدوء وحكمة عجوز لم يبق لها الكثير الذي تخشى ضياعه .
أشمئزُّ من حملات الجعجعة والشتائم التي يروّج لها ويقترفها السوريون – على اساس أفهم وأذكى شعب في الوطن العربي – وغيرهم من الحمقى تجاه شعوب تفهم وتعي وتحترم وتنتسب لذات الإرث والثقافة ، ولكن البدوي له رؤية مختلفة وقرارات متأنيّة ، ثارت حميّته ونخوته وأغضبه كثيرًا ما جرى لنا ولكن العين الآن لا تقاوم مخارز الفولاذ المتربّصة من كل اتجاه ، هو وقع دون أن ننتبه أو يختار في فخّ التفكير والنخوة العربيّة والإنسانيّة ، في أتون التطهير من مثالب ومخالب الحداثة والتغريب يحاول من خلال حكمته الحفاظ على ما هو متوفّر وممكن ، حتى تأتي اللحظة المناسبة ، ويكتمل التراكم الكافي ليقضّ جدران الطغيان العالمي ويقتلع مخالبهم المحليّة من لحمه ومن أعناق أولاده القادمين .
وما الصمت والركون للحكمة إلّا نذيرُ عواصفٍ تلوذ في قعر نفوسهم ، يرتسم الإعصار وراء ابتسامة لا يمكن لعلماء النفس فهمها وقراءتها وتحديد ميولها ، ينتظرون أوان القلوع لينصبوا أشرعتهم ويلكزوا خيول مراكبهم بلا التفات لوراء .
منذ متى طبّعنا وارتضينا الهوان وذل الخنوع ؟!
منذ بدأ أول انقلاب عسكري برعاية أمريكا على يد حسني الزعيم ثم عبد الناصر وعبد الكريم قاسم والقذافي والسلّال وبومدين ، منذ أسس غلوب باشا الجيش الهاشمي ككتيبة تابعة للقيادة البريطانية ، منذ البعث السوري الذي صار مطيّة للطائفيين وسماسرة العهد الجديد ، يوم باع الأسد الجولان ليسلب الحكم برعاية المحتلين ، ثم كرسّوه حاكمًا بالحديد والنار ، منذ زيارة السادات للقدس وخطبته العصماء تحت شمعدان الكنيست ،
منذ مؤتمر مدريد 1991 ، اتفاقية أوسلو 1993 ،كامب ديفيد 2000 ، طابا 2001 ، خطة السلام العربية 2002 ، خارطة الطريق 2003 ، اتفاق جنيف 2003، انابوليس 2007 ، تعديل خطة السلام العربية 2013 ….
منذ تسوّل عرفات الاعتراف بنضال الشعب الفلسطيني وحقّوقه التاريخية ، عبر شرعنة المحتل الإسرائيلي واختزال التمثيل بمنظمة التحرير حين وقع في أوسلو 1993 ( على بند ينصّ إلتزام منظمة التحرير بمقتضيات أمن اسرائيل مقابل اعتراف الاخيرة بالمنظمة ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني) يا ويلنا من مقتضيات أمن إسرائيل العائمة لا حدود لهيولاها الرجراجة !؟
وهنا استشهد بما قاله ثائر وصديق فلسطيني مصطفى والي ، كردٍّ وتعليق على هذا البند :
(( حيث ترك مفهوم أمن إسرائيل دون تحديد لآلياته ومعانيه وظروفه ، فهنا يصبح من حق الزعامة الاسرائيلية اعتبار أغنياتنا ورقصاتنا وقصائدنا ولوحات فنانينا تهديدات لأمن دولتهم ..!؟)))
تذكّرت أننا ونحن في منتصف طريق ثورتنا قد تطوعنا وطبّعنا باللاوعي :
فكل من يزعمون أنهم ثائرون وأبناء أبرار لهذا الثورة العظيمة يستشهدون ببراعةِ فهمهم وتنفيذهم الحيادي لديمقراطيتهم وحرصهم على العمل المؤسساتي لإنقاذ البلاد من آثار انقلابات الطُغم الحاكمة ، ولكن لنتأمل ونرى أن جميع من عمل في مؤسسات الثورة بلا استثناء كانوا إنقلابيين وانتهازيين وطغم بإمتياز . كيف ذلك ؟
كلما انبثقت من غدران الدم والمصير منظمة أو تحالف أو تجمع لإنجاز خدمة ما للمشردين ، او لإدارة المناطق المحررة ، دفش مشايخ الخليج وأجهزة استخبارات الغرب والمحيط : أنفارها فاعترضوا لأن فلان قائد منتخب وفق اليات مؤسساتية وهو كذا وكذا ، ثم انشقّ لفيف بسعي هؤلاء الأنفار وأسسو بإنقلاب مؤسساتي ، مؤسسة أخرى ونالوا تمويلا مجزيا حتى صار العمل الجماعي سبّة وعار ومن خامس المستحيلات في حالتنا الثورية !؟ لننظر لعدد وكم وسوء نتائج انقلاباتنا المرعبة خلال عشر سنين !؟
يروي لي صديقٌ ثائرٌ أثق به تماما ما يلي :
قبل عام ااتفق أعضاء الائتلاف بعجرهم وبجرهم ، بلصوصهم ، وشرفائهم – القلّة – قرروا :
حجب الثقة وطرد أحد أعضائه ممن فاحت روائحه من الائتلاف ورتبوا بينهم ووقعوا وتقدموا بالطلب للهيئة السياسية للائتلاف ، حدث هرج ومرج وانفض الاجتماع ليجتمعوا في اليوم التالي وقد سحب الجميع تواقيعهم ومطالبتهم بطرد اللص الوضيع فبعد اجتماع الأمس ومطالبتهم بدأت اتصالات الخارجيّة بمخابرات الدول الراعية للإئتلاف من الإقليمية حتى الأمريكية – السعودية – القطرية والإماراتية وأكيد في (حدا يتبع المخابرات الإيرانية والأسدية وووو، كلا بأنفاره وعملائه في الائتلاف وتم التهديد بما يلي : مطالبتكم وإصراركم على طرد هذا الوطني الصالح ستكون نتيجته: تدميرالائتلاف !
وهكذا يا سادتي :
دون أن يجد أحد ما حلّاً لمعضلة استبداد ثوري يأخذنا لمنزلقات أشدّ هولا وخرابًا ممن ثرنا لإقتلاعه أصلاً !
لنفهم ان هؤلاء تم اختيارهم بعناية وفرضهم لحرف الثورة عن مقاصدها ودفنها في مستنقع فاسد ونتن
وتركنا نتعفن وراء حليب الأطفال ومستلزماتهم والدواء واللقمة والخيمة والتعليم ، وننشغل عن الهدف الأساس ، وهؤلاء بقيوا العبيد المخلصين الأوفياء لمن جاء بهم …
كم من المشانق والفؤوس والمقاصل نحتاج لنطهر صفوفنا من الانقلابيين المنتشرين كالوباء والسرطان بين ظهرانينا وكله باسم الثورة والتثوير والحرص ونداء الواجب ؟!

الثورة السورية اجترحت المستحيل ، لن يستطيعوا إعادة عقارب الوقت للوراء ، لن يستمر المشروع الاستعماري والذي يتهافت ويتهاوى بتناقضاته الكامنة ، ويتخبّط في كل مكان للملمة عثراته وفضائحه .
أفهمت ثورتنا كل العالم اأن استمرار الوضع الإنساني المأساوي المزري صار من المستحيلات ، كما ايقظت هواجس البشرية وحرّكت مستنقع العلاقات الدولية الآسن بأحجارها المتطايرة في الفضاء، ترجم وتحاجر زجاج واجهات المجتمع.
ليس من الحصافة أن أسال كيف نعيش ؟ ولكن علينا أن نتساءل دائما : لماذا نعيش ؟ ما العيش إن لم يكن محاولات الاكتفاء الكريم ،والتحرر من الألم وتجاوز العثرات البشرية التي تكتنفنا وتتربّصُ من كل جهة .
وكيف يجب أن نواجهة معضلة البقاء بكثير من الحكمة والإنجاز دون ابتذالٍ للعيش أو إساءة لبقية أطراف معادلة الحياة؟.
إن حقل الحياة الممكن مليءٌ بالعذابات والألم والعثرات والنكبات ، وبعض الفرح والإنجازات ،رغم أن هذا مفتوح الاحتمالات على شقاءٍ بلا حدود .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى