مقالات

يحيى الصيني

م. خالد المحيميد

كاتب سوري
عرض مقالات الكاتب

هو نفسه أحد رؤسائي في العمل ، أقول أحدهم لأنهم كثر ، فقطاع النفط يسيل له لعاب عمالقة الاقتصاد والسياسة في العالم ومن أجله تُحرك الأساطيل البحرية والقوات البرية والجوية ، فكيف باللصوص الذين ابتليت سوريا بهم حين كان النفط سورياً ؟
لم يتركوا فيه خرم إبرة إلا دخلوه ، وقد اعتادوا أن يدخلوا كرؤساء ، فهم رؤساء الورش والشعب والأقسام والدوائر والمديريات والشركات ، من أجل ذلك برعنا – نحن الدراويش- في عملنا وما مردّ ذلك إلا لسببين : الأول أننا نحن من يعمل وبالتالي نحن من يمتلك الخبرة ، والثاني أن إتقاننا لعملنا كان هو المكافئ الموضوعي لما يتمتعون به من امتيازات على كافة الصعد ، بشكل أوضح أقول إن ما نبذله من جهد في العمل هو سندنا الوحيد في وجه أولئك الممتلئة هواتفهم بأرقام أقاربهم من ضباط المخابرات والجيش والشرطة .
رئيسي المباشر كان واحداً من أولئك المتسلطين الطفيليين ، كمية الجهل والغباء التي كان يحملها تجعلك تتقيأ معدتك عندما يقف ويملي عليك ما يجب أن تفعله مع أنه كان موشكاً على تقبيل قدميك في اليوم السابق ليحصل على هذه المعلومات منك ليلقيها اليوم تعليمات وأوامر وبلهجة صارمة .
أما أنا فقدكنت أشفي غليلي منه في حالات ثلاث:
الحالة الأولى : عند وضع برامج العمل والدخول في العمل الهندسي الجاد ، ومعظم ذلك العمل يتم على الحاسوب ، فهذا ليس ميدانه – لا العمل الهندسي ولا الحاسوب – مع أنه يحمل شهادة في الهندسة ..
الحالة الثانية : وهي حالة أصعب من الأولى ، وذلك عند العمل على دراسة العروض والعطاءات باللغة الانكليزية ، هنا تصبح الأمور بالنسبة إليه بحاجة لمدد من كل أصحاب المقامات والمزارات في جبال الساحل .
الحالة الثالثة : عندما أعود من التحقيق الأمني سالماً ويراني صباحاً في مكتبي ، هنا يكمن مقتله لأنه يظن أن التقرير الذي رفعه بحقي البارحة سوف يأخذني إلى قبو خامس ، ففشله في ميدانه وملعبه كان أشد صفعة توجه إليه..
ما علاقة هذا الكلام كله بيحيى الصيني ؟!
ومن هو يحيى الصيني ؟!
وهل هناك يحيى صيني فعلاً ؟!
يا سيدي ، رئيسي في العمل كان سعيداً في تلك الفترة ، وهو عادةً يعبر عن سعادته بتقليل كمية التقارير التي يرفعها لمفرزة الأمن العسكري ، ولطالما تساءلت في سري ، عن علاقة الأمن العسكري والمخابرات الجوية بالنفط دون أن أصل لإجابة ..
لماذا كان سعيداً ؟
لأن زوجته ولدت له مولوداً ذكراً وأسماه يحيى ..
كان عمر يحيى أياماً قليلة حين زارنا وفد صيني لمراقبة عمل رؤوس حفر مصنعة لديهم ولتسجيل الملاحظات على كفاءتها ومناسبتها لظروف العمل في حقولنا بعد أن تم استيرادها من قبل شركتنا .
من عادته أن ينزوي جانباً وأن يدفع بنا إلى الأمام في جلسات كهذه..
تعمدتُ مراقبته كلما سنحت لي الفرصة أثناء تباحثنا ومناقشاتنا مع أعضاء الوفد الصيني طيلة ساعتين تقريباً .
بدأ بقضم أظافره الواحد تلو الآخر حتى أتى على العشرة ، كان يقضم الظفر بنهم وعصبية واضعاً يده أمام وجهه بين الحين والآخر ليراقب ما أنجز ، ثم يغير عليها للقضم بنهم أكبر مما كان عليه مطلقاً همهمات وأصوات مبهمة ، كانت تترافق مع تقطيب حاجبيه حيث كان من عادته إجراء ( بروفات )لمشاجرات ينوي افتعالها قريباً ، كان يجري تلك التدريبات في مكتبه ثم صرنا نشاهدها في الممر الممتد أمام أبواب مكاتبنا حين كان يقطع ذلك الممر جيئة وذهاباً بعصبية وتوتر رافعاً قبضته في الهواء تارةً ومطلقاً عبارات نابية تارةً أخرى ..وكنا ننجح غالباً في معرفة الغريم التالي من خلال كلماته وشتائمه حين كان يتدرب حتى على الشتائم التي سيصبها على خصمه الجديد ..
اقترب من الجدار وحك ثلاث أظافر يبدو أن أسنانه ومفتاح السيارة لم يسعفاه في تنعيمها ، عاد إلى جلسته ، استرق نظرات خبيثة إلى المرأة الصينية التي قدمت نفسها بأنها مهندسة في مراقبة الجودة في شركتها ، والتي لم يكن بادياً عليها أيٌ من مظاهر الأنوثة عدا صوتها .
مد يده إلى جيبه ، أخرج سبحة حباتها صفراء كبيرة ، لوح بها في الهواء واستطعت تمييز لحن أغنية شعبية هابطة كان يدندن بها وخبطة قدم خفيفة على أرض القاعة، كان الصوت أكثر وضوحاً عندما سكتنا جميعاً فجأة بعد نقاشٍ محتدم وبقي صوته في أرجاء القاعة وحيداً ، التفت مبتسماً ابتسامةً تحمل الغباء والوقاحةً معاً وهذا المزيج لم أره في شخص غيره .
تابعنا نقاشنا محاولين إلقاء اللوم على الشركة المصنعة مستغلين بعض الملاحظات التي سجلناها على أداء معداتهم بينما بدأ هو بنكش أذنيه بمفتاح السيارة ، ماسحاً ما يخرجه المفتاح على مسند الكرسي ، ثم ألصق السبابة والوسطى من يده اليمنى ببعضهما وشرع يمسح خلف أذنه اليمنى ويشم أصابعه ، ثم يعيد المسح والشم ، لم يكتفِ بذلك بل بدأ بالمسح براحة يده اليمنى وشمها ، ثم كرر ما فعله بيده اليسرى على أذنه اليسرى حتى ظننته سيفقد وعيه من الشم ..
يداه براحتيهما وأصابعهما تجولان في رأسه ووجهه ، وكما توقعت بدأ بالسبابة بأنفه ثم بالإبهام وفجأة أدخل إصبعه ليحك أذنه من الداخل ..
لا ، لم يدخل يده في فمه ..وليته فعل بدلاً من أن ينطق لكان أهون .
كنا على وشك الانتهاء ، التفتُّ إليه : هل تريد أن تسأل الضيوف عن أي شيء أستاذ ؟
استدار بجذعه إلينا قائلاً : نعم .
قلت تفضل اسألهم ، قال : لا ابن العم أنت اسألهم ، قلت تفضل سأترجم ، ما هو سؤالك ؟
قال : اسألهم ما معنى يحيى بالصيني؟
وقفت ، استدرت ومشيت خطوتين أو ثلاثة ثم توقفت ، أخرجت من علبة التبغ سيجارة ، أشعلتها وأنا أتقدم نحو الباب ضارباً عرض الحائط بمرسوم منع التدخين في الأماكن المغلقة ..
اي نعم..

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى