مقالات

انتخابات بوطن افتراضي

يونس العيسى

إعلامي وكاتب
عرض مقالات الكاتب

في ثالث انتخابات من نوعها منذ انطلاق الثورة السورية، أجرى نظام الأسد انتخابات لاختيار أعضاء مجلس الشعب، وذلك بنفس العقلية الأمنية التي تدير هذه الانتخابات، حيث شراء المقاعد، والأصوات من قبل المرشحين، واختيار مجموعة منهم أميين وبعيدين عن تمثيل حقيقي لمن اختارهم، وصوت لهم، بالمقابل أطلقت مجموعة من المعارضة السورية حملة على الفيس بوك لإجراء انتخابات برلمانية افتراضية تجريبية تحت اسم – برلمان سوريا الحرة –  تتزامن هذه الانتخابات الافتراضية في نفس تاريخ انتخابات نظام الأسد.

ومنذ بداية الثورة السورية هناك ما يشبه الاستنفار على الفيس بوك الذي لم يعد مجرد موقع تواصل اجتماعي يتواصل عبره الشباب السوريون، بل صار أشبه بساحة معركة يستنفد كل طرف سواء من المعارضة، أو النظام كامل قدراته لجذب الآخرين إلى موقعه في الثورة الدائرة بين الشعب الثائر ونظام الأسد، حيث اتخذت تسميات أيام الجمعة طابعًا عاطفيًا صرفًا وابتعدت عن الأهداف الأساسية للثورة بالحرية، والكرامة ووحدة الشعب السوري.

الانتخابات الافتراضية التي جرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي “الفيس بوك” تأتي بنتيجة نجاح، أو رسوب، ولكن لا تأتي بنتيجة على الأرض، ولا تغيّر في موازين القوى، ولا تعوّض عن العمل الجماعي السياسي التوافقي، إلا أنّه يصلح أن يكون ما يشبه “البروفا” للتدرب على سماع الرأي الآخر مهما كان مخالفًا

وبعد أكثر من ثمانية أعوام على فقدان الوطن، هل هذه الانتخابات الافتراضية مراهنة على تأصيل الشتات في نفوس أصحاب الوطن الأصليين؟ ومحاولات ترسيخ الوطن البديل حتى تؤمن به أجيالنا بعد أن أصبحت “سوريا الجميلة” بيد نظام الأسد، وروسيا، وإيران، و”سوريا المفيدة” بيد أمريكا، وميليشيات قسد، والشعب الثائر المهجر يسكن الخيام في “واد غير ذي زرع”، حتى شخوص معارضتهم هم وأبناؤهم لا يسكنون به، هل هذه الانتخابات التي جرت تحاول محو الملامح المبعثرة لما تبقى من الوطن؟، بعد كل  المؤامرات التي حيكت ضد ثورتنا على أرض الواقع لتبقى كالأساطير تذكر فقط في انتخابات افتراضية وقصص يرويها الأجداد للأحفاد، باتت فكرة الوطن الافتراضي تكتسح منصات التواصل الاجتماعي، وأصبحنا نقرأ اسم سوريا لمجموعات، وصفحات كل منها يحاكي جانبًا من ذلك الوطن المسلوبة حريته، فتارة نقرأ اسم أبناء دولة الجزيرة، وتارة أخرى نقرأ اسم التغريبة السورية، وتارة تراث سوريا، وأخرى ملتقى سوريا، وغيرها الكثير، فهل سيكون هذا الوطن الافتراضي هو الوطن البديل يا ترى؟

الانتخابات الافتراضية في وطن افتراضي عبر مواقع التواصل جعلت من بشار الأسد حمامة سلام، وليس مجرم حرب، وهكذا أجاب البعض في التصويت الافتراضي على الصفحة الخاصة بالانتخابات، وأغلب المرشحين مع احترامي للجميع يعيشون في الخارج وكل منهم برنامجه الانتخابي الافتراضي، ونحن في سوريا تعودنا على الافتراضية في الشعارات التي لا نراها في الواقع، كل هذه التساؤلات من باب الحذر وليس طعنًا وتشكيك بأحد.

المواطن بالداخل السوري، وفي المناطق المحررة أصبح همه رغيف الخبز، ويخشى الموت جوعًا، ويخشى من تحول المناطق المحررة من نظام الأسد مقبرة للحرية، والكرامة وحتف الإنسان، وتتحول إلى تابوت ملعون لأبنائها الفقراء المعوزون، ومرتع خصب للعملاء وتجار الحروب، والأزمات، وسماسرة الدين، والدم، والمنظمات، والشركات التجارية، ووحدهم هؤلاء المهجرون، والفقراء يعانون على هذه الأرض، وجع الفقر وجوع صغارهم يجعلهم يكفرون بالانتماء المُتغنى به على تخوم الوطن الافتراضي في هذا الزمان اللامعقول، حيث يتحول كل شيء فيه إلى افتراضي، بدءًا من الحب الافتراضي، والقرب الافتراضي، والحزن الافتراضي، والتعاطف الافتراضي.. أخشى أن يتحول فيه الوطن إلى وطن افتراضي!

الافتراضية في الزمن الخطأ لا تخدم قضايا شعب بقدر الإكثار من الأخطاء السياسية، وهذه لم تخلقه ثورة المعلومات فقط من خلقت هذا الواقع الافتراضي، بل طغيان نظام الأسد، وعدوانه على الشعب الثائر دفع السوريين للهروب من واقعهم الكارثي إلى بناء وطن افتراضي يلملم أرواحهم المتناثرة في أكثر من بلد بعد ضياع وطنهم،   وأضحت حياة أبناء سوريا افتراضية أكثر مما توقع أغلبنا بداية الثورة السورية.

تحول السوريين بالواقع إلى مجرد “طشار” وهي

مفردة شعبية عراقية تشير إلى مالا يمكن جمعه

عبرت عنها الروائية العراقية إنعام كجه جي في روايتها “طشارى”، وشابه حالنا حال العراقيين بصراع نفعي مغطى ببريق عقائدي، ومنهجي وصل بنا إلى درجة تمزيق المجتمع، والعزف على أوتار المناطقية والطائفية والعشائرية، بعد أن خرجنا بثورة نادت الشعب السوري واحد، في حين تقدمت التكنولوجيا لدرجة أنه أصبح عندنا بمواقعها أكثر من رئيس افتراضي.في الواقع و الافتراضي في عالم السياسة هناك مفارقة واضحة إذ تعددت الرؤى، والمنصات، والمؤتمرات وبقيت في الواقع الافتراضي، ولم نشاهد أي أثر لها في الواقع، ولم تمارس السياسة أيضًا على أرض الواقع، وبقيت حبيسة العالم الافتراضي، ومازالت تتسع يومًا بعد آخر، وتمثل واقعًا يحتاج إلى التعامل معه لدى أي صانع قرار، وهو يفكر في تنشيط، أو استعادة الحياة السياسية على أرض الواقع حتى يمكنها ملء الفراغ القائم، ربما تكون قادرة على نقل الجدل السياسي من الافتراضية إلى أرض الواقع، أو على الأقل دمج العالمين الافتراضي والواقعي.

الذين يحددون رؤيتهم، ومواقفهم السياسية، وتناقضاتهم مع بعض من خلال الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي بعيدًا عن أصحاب الثورة الحقيقيين، وكأن كل واحد منهم على حدة يشرب من كأس فاض، متوهمًا أنه ملآن أصبحتم بالنسبة للشعب الثائر المقهور شكل بلا مضمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى