تأملات قرآنية مع شيخ الإسلام ابن تيمية (19)

(السيف البتّار على شانئ النّبي المختار) • قال الله عز وجل مدافعاً عن رسوله وصفيه : (إنّ شانئك هو الأبتر) “الكوثر” أي : إن مبغضك هو الأبتر المقطوع النّسل الذي لا خير فيه ، ولا يولد له خير ، ولا يصدر منه عمل صالح ، فهو مقطوع الخير من كل الجهات ، من جهة أقواله ومن جهة أفعاله ومن جهة مآله . فالذين قالوا عن الرسول الكريم إنه أبتر ، وقصدوا بذلك أنه يموت فينقطع ذكره ، لأنه لا ولد له ، عوقبوا بانبتارهم ، تقديراً وتشريعاً ، ولهذا قال : (إن شانئك هو الأبتر) . ومن شانئ الرسول أو بعض ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- فإن الله تعالى يبترهم ، فيموتون ويموت ذكرهم ، فلا يوجد من شنأ الرسول وشنأ ما جاء به من الهدى والنور ، إلا بتره الله ، حتى أهل البدع والفجور المخالفون لسنّته ، يكون لهم نصيب من قوله تعالى : (إن شانئك هو الأبتر) . ومن الأمور الشهيرة المعروفة في كتب الأصول ، أن فتح الحصون ، والنّيل من الكفار ، والانتصار في المعارك ، قد يطول أمده ويتأخر النصر ، ولكن العدوّ إذا سبّ الرسول أو طعن في عرضه ، فحينئذ تتيسر كل الصعوبات ، فتفتح الحصون للمسلمين ، ويسهل النّيل من الكفار ، وتقترب ساعات الانتصار تحقيقاً لقوله : (إن شانئك هو الأبتر) . ووقع وعيد الله في قوله : (إن شانئك هو الأبتر) ، جلياً عندما مزّق كسرى عظيم الفرس كتاب الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- فمزّق الله ملك الأكاسرة كل ممزّق ، وانبتر سلطانهم من على وجه الأرض إلى يوم القيامة ، فعن ابن شهاب الزهري قال : أخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- “بعث بكتابه إلى كسرى مع عبدالله بن حذافة السهمي ، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين ، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى ، فلما قرأه مزّقه ، فحسبت أن ابن المسيب ، قال : “فدعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يُمزّقوا كل ممزّق” . أخرجه البخاري في صحيحه . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “قال سبحانه وتعالى : (إن شانئك هو الأبتر) . فأخبر سبحانه أن شانئه هو الأبتر ، البَتر : القطع ، يقال : بترَ يبترُ بتراً ، وسيف بتّار ، إذا كان قاطعاً ماضياً ، ومنه في الاشتقاق الأكبر تبّره تتبيراً إذا أهلكه ، والتّبَار : الهلاك والخسران ، وبيّن سبحانه أنه هو الأبتر بصيغة الحصر والتوكيد لأنهم قالوا : إن محمداً ينقطع ذكره لأنه لا ولد له ، فبيّن الله أن الذي يشنأه هو الأبتر لا هو ، والشنآن منه ماهو باطن في القلب لم يظهر ، ومنه ما يظهر على اللسان وهو أعظم والشنآن وأشدّه ، وكل جُرم استحق فاعله عقوبة من الله إذا أظهر ذلك الجُرم عندنا وجب أن نعاقبه ونقيم عليه حدّ الله ، فيجب أن نبتر من أظهر شنآنه وأبدى عداوته ، وإذا كان ذلك واجباً وجب قتله ، وإن أظهر التوبة بعد القدرة ، وإلا لما انبتر له شانئ بأيدينا في غالب الأمر ، لأنه لا يشاء شانئ أن يُظهر شنآنه ثم يُظهر المتاب بعد رؤية السيف إلا فعل ، فإن ذلك سهل على من يخاف السيف . تحقيق ذلك أنه سبحانه رتّب الانبتار على شنآنه ، والاسم المشتق المناسب إذا عُلق به حكم كان ذلك دليلاً على أن المشتق منه علّة لذلك الحكم ، فيجب أن يكون شنآنه هو الموجب لانبتاره ، وذلك أخصّ مما تضمنه الشنآن من الكفر المحض أو نقض العهد ، والانبتار يقتضي وجوب قتله ، بل يقتضي انقطاع العين والأثر ، فلو جاز استحياؤه بعد إظهار الشنآن قطع عينه وأثره كان كسائر الأسباب الموجبة لقتل الشخص ، وليس شيء يوجب قتل الذمي إلا وهو موجب لقتله بعد الإسلام ، إذ الكفر المحض مجوّز للقتل لا موجب له على الإطلاق ، وهذا لأن الله سبحانه لما رفع ذكر محمد عليه الصلاة والسلام فلا يُذكر إلا ذكر معه ، ورفع ذكر من اتبعه إلى يوم القيامة ، حتى إنه يبقى ذكر من بلّغ عنه ولو حديثاً ، وإن كان غير فقيه ، وقطع أثر من شنأه من المنافقين وإخوانهم من أهل الكتاب وغيرهم ، فلا يبقى له ذكر حميد ، وإن بقيت أعيانهم وقتاً ما إذا لم يُظهروا الشنآن ، فإذا أظهروه مُحقت أعيانهم وآثارهم تقديراً وتشريعاً ، فلو استبقي من أظهر شنآنه بوجه ما لم يكن مبتوراً ، إذ البتر يقتضي قطعه ومحقه من جميع الجوانب والجهات ، فلو كان له وجه إلى البقاء لم يكن مبتورا . يوضح ذلك أن العقوبات التي شرعها الله نكالاً مثل قطع السارق ونحوه لا تسقط بإظهار التوبة ، إذ النّكال لا يحصل بذلك ، فما شرع لقطع صاحبه وبتره ومحقه كيف يسقط بعد الأخذ ، فإن هذا اللفظ يشعر بأن المقصود اصطلام صاحبه ، واستئصاله واجتاحه وقطع شأفته ، وما كان بهذه المثابة كان عما يُسقط عقوبته أبعد من كل أحد ، وهذا بيّن لمن تأمّله ، والله أعلم” . “الصارم المسلول على شاتم الرسول”