بحوث ودراسات

الخليفة المظلوم – عبد الله بن الزبير المفترى عليه – 1 من 11

د. هاني السباعي

مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن.
عرض مقالات الكاتب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كتبت هذا المقال في مجلة المنهاج جمادى الثانية 1418هـ الموافق أكتوبر   1997 رداً على تطاول بعض الباحثين المعاصرين على هذا الصحابي الشهيد المظلوم؛ عبد الله بن الزبير العوم رضي الله عنهما، وقد حفزني بعض الأفاضل لإعادة نشره بغية أن يستفيد منه الشبيبة وطلبة العلم! وها أنا ذا أعيده كما كتبته أول مرة؛ سائلاً الله تعالى أن ينفع به، وأن يستخدمنا لنصرة أصحاب رسول الله صلى الله عيه وسلم، ورضي الله عنهم أجميعن.  

تقدمة:

يطل عليها من وقت لآخر كويتب مغمور، لفظه القلم لسوء أدبه، ومجه لخبث طويته؛ يعيش هذا المجهول النكرة بين ثنايا النسيان فلم يجد إلا الطعن في الإسلام وأعلامه الميامين، فاحتضنه الشيطان وربّاه على عينه، فلما استوى عودُ زيفه، واشتد ساعدُ حقده؛ خاض حرباً لا هوادة فيها على الإسلام وأهله، ومرغ تاريخهم في الرغام، فلم يترك لهم منقبة ولا محمدة إلا طمسها أو طعنها، ولا نصراً إلا شوهه، ولا مقدساً إلا خدشه؛ بغية أن تخطفه أضواء الشهرة وحديث الناس؛ فينشر قيؤه عبر صحيفة حاقدة، أو مجلة عاقر، أو كتاب مسموم فرّ عنه قراؤه، أو إذاعة مأجورة، أو تلفاز يحركه الباطل.

ونظراً لغياب شريعة الرحمن نرى هذه النكرات تخرج من جحور الباطل طاعنةَ في الإسلام ومقدساته وقادته. فالطعن في الإسلام على قدم وساق، وإن كان مستتراً كمؤلفات رفاعة الطهطاوي الذي افتتن بالفرنسيس، وانبرى علماء الأزهر يفضحون هؤلاء المعممين الجدد، حتى ظهر قاسم أمين في بداية هذا القرن؛ فاحتضنه سعد زغلول والشيخ محمد عبده، ولفيف من أدوات الاستعمار، فظهر من ينادي يجعل الطلاق بيد المرأة، والطعن في تعدد الزوجات، وصار الإسلام مرتعاً لهؤلاء النكرات! وصرنا نعيش في زمن الطعون والنيل من عقيدة الإسلام ومقدساته! فلم يسلم من سمومهم نبيٌ مرسلٌ، ولا ملك مقرب، ولا حتى رب العزة سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيرًا! فلا تكاد تفتح كتاباً أو تتصفح مقالاً إلا تجد الفتنة الكبرى ـ مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ الفتنة بين أصحاب الجمل ـ يوم صفين ـ قصة التحكيم ـ والطعن في أبي موسى الأشعري ـ المدح في صورة القدح لعمرو بن العاص وخالد بن الوليد ـ وحكاية مقتل مالك بن نويرة ـ وعبد الله بن الزبير وطلبه الخلافة لنفسه رضي الله عن الصحابة أجمعين. فإذا قلت لهم (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة:134)

قالوا: هذا حجر ٌعلى العقول! وعجزٌ عن الرد! والإسلام لا يعرف الطلاسم ولا الكهنوت! واتخذوا ذلك تكأة لنشر سمومهم!.

وهكذا كلما ظهر موقفُ عزٍ للمسلمين طمسوه وحاربوه! وكلما بدت في الأفق تباشيرُ نصر للمسلمين حتى وإن كانت على الأمد البعيد عز عليهم علو الإسلام!؛ فطفقوا يعربدون بتاريخهم وأخرجوا أضغانهم بالتعريض تارة وبالتصريح تارات! فهارون الرشيد رحمه الله صاحب ملذات ويعاقر الخمر!، وصلاح الدين الأيوبي قتل السهروردي والشاعر عمارة اليمني؛ أي أنه كان عدواً للعلم والأدب! ولا يستجيب لهذه الدعاوى الزائفة إلا أصحاب القلوب المريضة والأهواء الزائغة.

ورغم أن هذه المحاولات بدت منذ الصدر الأول وبالتحديد منذ فتنة عبد الله بن سبأ اليهودي الصنعاني المولد الذي كان أول من حرض على كره ومقتل الخليفة الراشد أمير المؤمنين الشهيد المظلوم عثمان بن عفان سنة 35هـ إلى وقتنا الحاضر؛ فإن الإسلام باق والحمد لله؛ نظراً لطبيعته العقدية المرنة ولصلابته في نفس الوقت التي أبت الأنفس التي اعتنقته وفهمته ولامس الإيمان شغاف قلوبها الخضوع لغير سلطان الله، فكلما انكسر جيل ظهر آخر. فلا يوجد دين على وجه البسيطة منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى قيام الساعة تعرض لمثل هذه الإحن والدسائس التي تعرض لها الإسلام، فقد سقطت حضارات وأديان ولم تصمد أمام كيد أعدائها! أما الإسلام فإنه أنموذج آخر فريد حباه الله بمقومات عقائدية وحفظٍ رباني، مقوماتِ البقاء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولن أطيل في هذا المقام فكتب التاريخ والسير مفعمة بالعبر والعظات.

عود إلى موضوعنا:

قبل أن نشرع في الذب عن خلافة ابن الزبير المفترى عليه وعليها فإن الذي حفزني على كتابة هذا المقال أنني منذ سنوات قد ابتليت بمشاهدة رئيس تحرير حزب الوفد المصري العلماني (جمال بدوي) وكان يقدم حلقات عن التاريخ الإسلامي ولم يجد هذا الرجل في التاريخ الإسلامي إلا الفتنة الكبرى، والخوارج، ونكبة البرامكة، ثورة الزنج، والقرامطة وقتل الخلفاء، ودولة الصعاليك يقصد دولة المماليك!! وفي إحدى الحلقات كان يتكلم عن الفرق التي كانت تخرج على الحكومات الإسلامية كالخوارج والشيعة.. وذكر أن من هؤلاء الخوارج والحشاشين الباطنيين الذين كانوا يخرجون على الحكومة الشرعية؛ كنافع بن الأزرق وعبد الله بن الزبير!! فاسترجعت وحوقلت! مما أثار حفيظتي ودفعني لأذب عن هذه الصحابي (عبد الله بن الزبير) المظلوم حياً وميتاً وأن أميط اللثام حول دولته المفترى عليها تاريخياً! فهل يصل التزلف والزيف إلى هذه الدرجة بحيث يساوى عبد الله بن الزبير الصحابي الفقيه الزاهد الشجاع المقدام الأسد الهزبر خليفة المسلمين مع نافع بن الأزرق وطوائف المبتدعة؟!

وللأسف الشديد فإن “جمال بدوي” ومن على شاكلته لم يتكلم من فراغ! فكتب التاريخ القديم منها والحديث قد تعرضت لهذا الموضوع ومحشوة بأغاليط وأكاذيب! واستنتاجات في غير موضعها وغير بل غير صحيحة! وأضحت هذه القناعات التي بنيت على أخبار القصاصين والوضاعين مسلمات تاريخية يتناقلها كتاب كثيرون ينتسبون إلى العمل في الكتابة التاريخية!. وسيكون طرحنا لمناقشة قضية الصحابي عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ودولته عبر النقاط التالية:

المبحث الأول: بعض الكتاب المعاصرين الذين تناولوا بالكتابة والتحليل لشخصية عبد الله بن الزبير ودولته.

المبحث الثاني: العوامل التي ساعدت على مبايعة المسلمين لابن الزبير.

المبحث الثالث: الرد على أبرز ما ذكره الكتاب من شبهات حول شخصية ابن الزبير وأسباب فشله في الاحتفاظ بدولته.

المبحث الرابع: بطاقة تعريف (ترجمة مختصرة لشخصية عبد الله بن الزبير).

المبحث الخامس: صفوة القول: هل يعد ابن الزبير من الخلفاء الراشدين؟وهل خلافته خلافة راشدة؟

المبحث الأول

بعض الكتاب المعاصرين الذين تناولوا بالكتابة

والتحليل لشخصية عبد الله بن الزبير ودولته

لقد اخترت عينة من الكتاب المعاصرين من أبرزهم:

الأول: الدكتور حسن إبراهيم حسن: صاحب كتاب (تاريخ الإسلام السياسي والثقافي والاجتماعي) يقول في كتاب المذكور:”نشأة حزب الزبيريين: يرى كثير من المؤرخين أن نشأة هذا الحزب ترجع إلى الوقت الذي دعا فيه عبد الله بن الزبير إلى نفسه بمكة سنة 63 هـ، على أننا نرى أن نواة هذا الحزب قد ظهرت بعد الفتنة التي أدت إلى قتل عثمان وخروج طلحة والزبير وعائشة على علي بن أبي طالب”[1]

التعليق على الفقرة السابقة:

قبل الرد الموضوعي لنا ملاحظات شكلية نصوغها في النقاط التالية:

(1) نلاحظ أن الدكتور حسن إبراهيم تعمد ذكر (حزب الزبيريين) نسبة إلى الصحابي الجليل الزبير بن العوام (ت 36 هـ) حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، والكاتب يقصد أن الزبير وطلحة بن عبيد الله (ت 36 هـ) وكان طلحة أيضاً أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة أهل الشورى، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (ت58 هـ) وعنهم جميعاً؛ قد شكلوا حزب معارضة ضد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما نجم عن ذلك من قتال في موقعة الجمل (36 هـ).


[1]    حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي والثقافي والاجتماعي/دار الجيل/ بيروت/ط13/ج1 ص333.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى