حقوق وحريات

شهادتي على فض إعتصام رابعة (7) – رفعت الأقلام و جفّت الصحف

د. ممدوح المنير

كاتب وسياسي مصري.
عرض مقالات الكاتب

لقد تعمدت في هذه الشهادة ألا أحلل المواقف و الأحداث بعقلية الباحث ،وآثرت أن يكون الجانب الإنساني فقط هو الحاضر في تفصيلاتها حتى لا أشتت القارئ بين المعلومة و التحليل .

و تعمدت كذلك ألا أذكر أسماء الشخصيات التي شاركتني التجربة ،لأني لم استأذنهم في نشر أسمائهم كما أن ذلك قد يعرضهم لضغوط أمنية داخل مصر هم في غنى عنها ، لكني أسأل الله ان يتقبل جهدهم و بذلهم و تضحياتهم و أن يجمعني بهم في الدنيا على خير و في الآخرة في جنات النعيم .

بكل تأكيد هناك آلاف الشهادات التي يمكن أن تروى عمّا حدث في فض الإعتصامين في رابعة و النهضة و هناك آلاف القصص الإنسانية التي يجب أن توثّق حتى تستفيد الأجيال القادمة من هذه التجارب ، لذلك أدعو من تتاح له الظروف أن يوثق شهادته حتى تكتمل الصورة.

فمهما كتبت فأنا أكتب فقط من زاوية التجربة التي عشتها و هناك زوايا أخرى عديدة لم تغطها الشهادة يملك كل من شارك في الاعتصام نصيبا منها ، بل إنّ شهادتي نفسها لم أتحدث فيها عن كل ما حدث ، فهناك تفاصيل و أحداث لم أروها حتى لا تطول الشهادة فقد بدأتها من ليلة الفض و لم أتحدث عن الاعتصام نفسه و الذي استمر نحو شهرين .

كما أني كتبتها لقارئ منصات التواصل الإجتماعي الذي طبيعته التعجل و قليل الصبر في الغالب لذلك أوجزت قدر ما استطعت دون إخلال بالأحداث الرئيسية ،و ربما بعض ما كتبته قد يكون حدث عندي التباس غير مقصود في بعض تفاصيل الأحداث نظرا لظروفي الصحية وقتها.

أخيرا لقد ذكرت بعض المواقف التي تعرضت فيها لرحمات الله و حفظه و رعايته، ويهمني أن أذكر عدة أمور حول هذه الرعاية الربانية :

أولا : أن حدوثها لا يعني تميزاً لصاحبها في علاقته بالله ، فو الله لو كان للذنوب رائحة كما قال أحد السلف رضوان الله عليهم لجرى الناس من أمامي ، فنحن نعيش بستر الله و نصيب و نخطئ و نسأل الله القبول و المغفرة.

كما ان هذه الرعاية الربانية قد تحدث لغير المسلم بل حتى للملحد الذي لا يؤمن بالله ، لسبب واحد فقط ، هو أنّ من سنن الله في كونه التي لا تتغير و لا تتبدل أن العدل أساس الملك و أن الله ينتصر للمظلوم و يشمله برعايته حتى لو غير مسلم حتى يقتص له، فبالعدل قامت السماوات و الأرض.

ثانيا : أهم درس ممكن أن يتعلمه أحد و يجعله نبراسًا له من هذه الشهادة بل يعلقها أمامه دائما هو أنّ فريضة نصرة الحق و الدفاع عن المظلومين و التمسك بالدين لا تقدم أجلا و لا تؤخر رزقًا .

من لا يزال يظن بعد هذه الشهادة أن النفع و الضر بيد أحد غير الله ، فهو لم يستفد شيئًا مما قرأ و أضاعه وقته ، لقد اجتمعت كل أسباب الدنيا لكي أموت يومها لكنّ تقدير الله كان النجاة لا الموت لي و لغيري ، و هناك من أستشهد منذ اللحظة الأولى ، إنه الله و لا شيء سواه من يقرر متى و كيف و أين .

حين أتأمل التجربة التي عشتها ، لا يأتي في عقلي و وجداني سوى معنى واحد ، هذه الحياة ما هي الا مسرحية كبيرة و نحن جميعا ” كومبارس ” نؤدي أدوار محدودة خير أو شر ثم نختفي من المشهد و يأتي غيرنا و هكذا ، أما البطل و المخرج و المنتج و كاتب السيناريو فهو الله جل شأنه و عز سلطانه و له المثل الأعلى .

لقد جاءني خاطر منه سبحانه انني سأصاب الآن و قد حدث ، ثم خلعني من عالم الأسباب فسخر لي إثنين حملاني على دراجة نارية ، و عندما جلست وحيدًا خارج الميدان بعد أن تركوني سخر لي من أعرف و يعرفني ليبقى معي ثم سخر لي السيارة التي توقفت و فيها شابان لا أعرفهما ثم مررنا بكمائن الموت ،فأعمى أبصارهم و طاشت رصاصتهم ثم سخر لي الطبيبة الفاضلة ثم المركز الطبي ثم من يحملني خارج القاهرة ثم من يكمل علاجي ثم من يعطيني مفتاح بيته دون أن أطلبه !!

حين تتأمل كل هذه المحطات تجد أنني لم أفعل أي شيء و لم أبادر لشيء أو اسعى اليه للنجاة بنفسي !
لقد أراد هو وحده أن أعيش و ألا يصيبني منهم أذى أكثر مما قدره هو في السيناريو المكتوب في اللوح المحفوظ من قديم الازل ، فقال كن فكان بلا حول مني و لا قوة ، و هناك من اصطفاه الله شهيدا أو أسيرا لأن هذه أيضًا أرادته و ليس إرادتهم هو فعلهم نعم المجرمون و لكنها إرادة الله التي لا يغيرها بشر.

” واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) الحديث ، فلماذا نخاف إذا من سلطان أو ظالم ؟! ، و لماذا نسكت عن نصرة الحق و المستضعفين في عالمنا الإسلامي ؟

لقد كان هناك أناس لم يكونوا معتصمين بل كانوا رافضين للاعتصام و ضد الرئيس مرسي و اعتقلوا ،وبعضهم قتل بالخطأ على أيدي الشرطة ، فلا الإقدام يقصّر الأعمار و لا الجبن يدفع الأقدار.

فإلى المعتقلين الذين يقرأ بعضهم كلامي هذا الآن و إلى أسرهم و أسر الشهداء و المطاردين ، لا يسخطن أحدكم على أقدار الله فهو وحده الضار و النافع و لا يصير في ملكه إلا ما يريده ، فالرضا و التسليم بما أمر هو عين راحة القلوب و الأبدان .

إنّ كثيرًا ممن يسخطون على أمر الله فيهم ، الدنيا في نظرهم متاع كبير فيحزنون على ما فاتهم منها و يقارنون أنفسهم بغيرهم ،ولو علموا حقيقتها و أنها ظلّ شجر لا محالة زائل ، لأستراحوا و تحول بلاؤهم إلى نعمة بالرضا، و الصبر الجميل.

فلا تحزنوا على ما فاتكم من أمر الدنيا ، خذوا بالأسباب لدفع الضرّ عنكم كما أمرنا الله لكن دون تنازل في دين أو خلق ، ولا تتعلقوا بها فهي وهم ،وكل ما سوى الله لا شيء ، فالأسباب لا تضر و لا تنفع و لا تقدم و لا تأخر ، هو الله وحده مالك الأمر و النهي و الضرّ و النفع .

إلى الثائر أو المجاهد أو الأخ الذي باع قضيته أو تزاحمت عليه الهموم و الغموم…
إلى الذي -ربما -انقلب على عقبيه فلم يبع القضية فحسب بل انتقل إلى الجانب الآخر مع الظالمين،يبحث لنفسه عن الأمان والاستقرار بينهم كما يظن …..

إلى الأخت التي تنازلت في أخلاقها و حجابها حتى تتوائم مع العهد الجديد …..
إلى الذي سافر و أصبح كل همه حياته و زوجته و أولاده أو إقامته في دولة ما ، فآثر الصمت و الذبول طلبا للعيش الرغيد الآمن و هو يستطيع أن يتحرك دفاعًا عن دينه ،و يبذل و لكنه آثر الراحة.

إلى الذي خدعوا أنفسهم و زينوا لأنفسهم القيام بنوافل الأعمال إرضاءً لضمائرهم،و تركوا فرائض نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف و إقامة الدين و تعبيد الأرض كل الأرض لله رب العالمين ، إيثارًا للسلامة و بحثًا عن الجهاد اللذيذ الذي لا تعب فيه و لا مشقة ولا مخاطرة ولا منغصات ،ولا كدر و لا تعكر في المزاج !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى