دين ودنيا

تأملات قرآنية مع شيخ الإسلام ابن تيمية (18)

الدكتور حسين القحطاني

عرض مقالات الكاتب

{أعلى مراتب العبودية في كمال الإخلاص}

قال الله تبارك وتعالى : (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) “يوسف” . قوله : (المخلصين) ورد في القراءات العشر بكسر اللام وفتحها ، فقرأ ابن كثير المكي وأبو عمرو البصري وابن عامر الشامي ويعقوب الحضرمي البصري بكسر اللام ، وقرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتحها في كل القرآن ، وهي قراءة ثابتة صحيحة متواترة على الوجهين . والمخلِص : بكسر اللام هو الذي يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا ، فالإخلاص أصل كل خير ، وهو يعني : أن يعمل العبد العمل لله وحده ، لا يبتغي به إلا وجهه سبحانه وتعالى ، لا ينازعه فيه أحد ، فالإخلاص إذن هو حقيقة التوحيد ، وهو بمنزلة الرأس من الجسد ، فإذا قطع الرأس فلا قيمة للجسد ، وفي الآية الكريمة بشارة للمخلص بأن الله معه ، كما أن الله كان مع نبيه وصفيه يوسف عليه السلام ، فصرف عنه السوء والفحشاء بإخلاصه له ، ولقد قويت دواعي السوء والفحشاء عليه من كل جانب ، من تسلط واغراء ، وخلوة وغربة ، وحبس وتهديد ، وقلّت الموانع الظاهرة الدافعة للفحشاء ، ولكن وعد الله للمخلصين من أعظم العواصم من الفتن ، تحقيقا لقوله : (إنه من عبادنا المخلصين) . فمن أخلص الدين لله ، كتب الله له الخَلاص من الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولهذا قال : (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) ، فالسوء : هو مقدمات الفاحشة ، والفحشاء : ركوب الزنا ، فدلت الآية على عظم معية الله في أدق ألطافه ، وواسع رحماته ، وما حفظ الله لنبيه الكريم بن الكرماء ، وصرف الضرر حقيقة عنه في كل واقعة وقعت له منّا ببعيد ، كما قصها علينا ربنا بأحسن القصص وأجملها وأدقها وأعمقها وأجلها ، وذلك لأن القلب إذا انجذب إلى الله بالإخلاص والمحبة ، فلا تسل عن شرف العبودية وحلاوتها ، ولا تسل عن كيفية عناية الله ورعايته للمخلصين . ثم إن الشيطان يحرص كل الحرص على أن لا يكون العبد مخلصا لله تعالى ، ولهذا أقسم في أكثر من موضع في القرآن بقوله : (فبعزتك لأغوينهم أجمعين • إلا عبادك منهم المخلصين) “ص” . وهنا أيضا قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بكسر اللام ، وقرأ الباقون بفتحها . فمن لم يكن مخلصا لله عوقب بتسلط الشيطان عليه ، حتى يوقعه في الفواحش والمنكرات ، وهذه العقوبة بلا شك على كونه لم يخلص لله تعالى ، ولذا تجد الإخلاص أعظم سلاح يتقي به العبد سهام الشيطان المسمومة ، ولهذا أقرّ فقال : (إلا عبادك منهم المخلصين) . كلما قلّ الإخلاص في القلب قوي تسلط الشيطان على العبد ، وكلما قوي الإخلاص ضعف الشيطان . ومن أعظم آثار الإخلاص وفوائده في الدنيا ، نزول الفرج بعد الكرب ، واليسر بعد العسر ، والرخاء بعد الشدة ، حتى أن المشرك حين يخلص لله تعالى في حال كربته وشدته ، فإن الله يستجيب له ، قال الله عز وجل : (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور) “لقمان” . والمخلص أيضا موعود بنفي أسباب العقوبة عنه في الآخرة ، كما في قوله تعالى : (إنكم لذائقوا العذاب الأليم • وما تجزون إلا ما كنتم تعملون • إلا عباد الله المخلصين) “الصافات” . وهنا أيضا قرأ في قوله “المخلصين” بكسر اللام وفتحها ، فصاحب الإخلاص والخشية ما دام صادقا في إخلاصه ، فإنه يعصم من أسباب العقوبة في الدنيا والآخرة ، وذلك لشرف مقام العبودية لله تعالى ، لأن أعلى مراتب العبودية في كمال الإخلاص لله ، كما في قوله سبحانه : (إنه من عبادنا المخلصين) . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “معلوم أن الزاني حين يزني إنما يزني لحب في نفسه لذلك الفعل ، فلو قام بقلبه خشية الله التي تقهر الشهوة ، أو حب الله الذي يغلبها ، لم يزن ، ولهذا قال تعالى عن يوسف عليه السلام : (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) ، فمن كان مخلصا لله حق الإخلاص لم يزن ، وإنما يزني لخلوه عن ذلك ، وهذا هو الإيمان الذي ينزع منه ، لم ينزع منه نفس التصديق ، ولهذا قيل : هو مسلم وليس بمؤمن ، فإن المسلم المستحق للثواب لا بد أن يكون مصدقا ، وإلا كان منافقا ، لكن ليس كل صدق قام بقلبه من الأحوال الإيمانية الواجبة مثل كمال محبة الله ورسوله ، ومثل خشية الله والإخلاص له في الأعمال والتوكل عليه ، بل يكون الرجل مصدقا بما جاء به الرسول ، وهو مع ذلك يرائي بأعماله ، ويكون أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله … ومعلوم أن كثيرا من المسلمين أو أكثرهم بهذه الصفة . وقد ثبت أنه لا يكون الرجل مؤمنا حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وإنما المؤمن من لم يرتب ، وجاهد بماله ونفسه في سبيل الله ، فمن لم تقم بقلبه الأحوال الواجبة في الإيمان ، فهو الذي نفى عنه الرسول الإيمان وإن كان معه التصديق ، والتصديق من الإيمان ، ولا بد أن يكون مع التصديق شيء من حب الله وخشية الله ، وإلا فالتصديق الذي لا يكون معه شيء من ذلك ليس إيمانا البتة ، بل هو كتصديق فرعون واليهود وإبليس” . “كتاب الإيمان” بقلم الدكتور/ حسين القحطاني(دكتوراه في الشريعة الإسلامية والمجاز بالقراءات العشر الصغرى والكبرى) الدوحة قطر .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى