مقالات

“الاردوغانية”.. شروط الإصلاح السياسي وأبجدياته – 13 من 13

جمال سلطان

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

الدرس الرابع في التجربة “الاردوغانية” يتصل بأهمية التدرج في عمليات الإصلاح السياسي والاجتماعي ، وخطورة أن تخوض كل معاركك في وقت واحد ، أو تهيج كل خصومك في لحظة واحدة ، ووضع الأولويات للمخاطر التي تهدد الدولة ومسارات الإصلاح فيها ضرورة ، وهنا يكون للعقل السياسي الناضج والخبير بالدولة ومراكز القرار والنفوذ فيها أهمية كبيرة في ضبط هذه الأولويات .

الدرس الخامس ، يتصل بفكرة القدرة على تحدي الظروف الصعبة ، والجسارة في مواجهتها ، وعدم الاستسلام لمشاعر المظلوميات واستدرار عطف الآخرين ، فالعطف يفيدك نفسيا لكنه معطل لطاقات العمل والتصويب والتطوير ويضعف قيمة تراكم الخبرات ، كما أنه لا يفيد في تغيير الواقع ولا دعم مشروع الإصلاح بكل تضحياته ، كل ما عليك أن تنهض كلما أسقطوك ، وأن تقوم بعد كل كبورة يضطرونك إليها ، وأن تصر على إكمال طريقك بعد كل حفرة أوقعوك فيها ، بصبر ودأب ويقين بأنك ستصل إلى تحقيق أهدافك في النهاية ، ليس ببشرى غيبية أو أحلام أو أشعار وأغاني ، وإنما بتخطيط جيد ورؤية عاقلة وحكيمة للخطوات المقبلة .
الدرس السادس ، هو أهمية المرونة السياسية في مسار أي مشروع سياسي إصلاحي كبير تواجهه عقبات كبرى ومتنوعة ، ولا يعمل في مجتمع يعرف استقرارا مؤسسيا راسخا وعميقا ، فالثبات والتحدي لا يعني الانتحار السياسي أو ممارسة سلوكيات حدية أو الدخول في معارك صفرية ، فعند الصدام الذي تدرك أنك لن تنتصر فيه ، يمكنك أن ترجع خطوة لكي يتسنى لك التقدم خطوتين في مرحلة أخرى ، وهذا ما فعله اردوغان ، ومن قبله زعيمه “أربكان”، عندما حلوا حزب السلامة ثم عندما حلوا حزب الفضيلة ، ثم عندما قرروا سجنه ، ثم عندما قرروا عزله رغم أنه أصبح ـ عمليا ـ رئيس الوزراء وزعيم الحزب الفائز بالانتخابات ، لم يكن عجولا ، ولا انتحاريا ، ولا نافذ الصبر ، كان ذكيا ، ويعرف كيف يناور ومتى يكون صارما ، ومتى وكيف يكون مرنا أمام المخاطر التي تفوق قدرته على تخطيها .

الدرس السابع في “الاردوغانية” أن مثلث الخطر على أي تجربة ديمقراطية صحيحة يأتي من : العسكر ، والقضاء الفاسد ، والجماعات الدينية السياسية الناشطة خارج مؤسسات الدولة ، وهذه المخاطر هي كذلك بالترتيب .

الدرس الثامن ، أن القضاء الفاسد غالبا ما يرتبط بالانقلابات العسكرية التي توفر له الحماية والدعم المادي والمعنوي والنفوذ الاجتماعي والسياسي معا ، وأول ما يفكر العسكر في السيطرة عليه والتحكم به من مؤسسات الدولة هو مرفق العدالة ، لأنه ذراع القمع المدنية الحاسمة ، حيث يتحول القضاء إلى أداة السيطرة والقمع الناعمة بعيدا عن حركة الدبابات ، بما يسمح للجنرالات الاختفاء وراء قناع العدالة في عمليات التنكيل الواسعة بالنشطاء والأحزاب والقيادات السياسية المعارضة وسحق أي حراك شعبي يهدد نفوذهم وسلطتهم ، ولذلك فإن أهم أولوية في التطهير لمؤسسات الدولة عندما تتاح الفرصة هي تطهير مرفق العدالة وبصورة حاسمة ، لأن القضاء الفاسد عائق خطير أمام أي تطور سياسي وأمام الحريات العامة والديمقراطية ومعيق لقدرات المجتمع على النهوض وتراكم الإنجاز .

الدرس التاسع ، هو أهمية أن يقرأ السياسي تاريخ وطنه السياسي جيدا ، ويهضم تجارب من سبقوه بشكل جيد وعميق ، سواء كانوا من تياره السياسي والفكري أو من غيره ، وأن يبني على التجارب الناجحة السابقة ويطورها ، ويتعلم من أخطاء من سبقوه ، ولا يكررها ، فقد خدم اردوغان كثيرا استيعابه لأسباب نجاح تجربة كل من “عدنان مندريس” و”تورجوت أوزال” ، وهما الأقرب شبها بتجربته الحالية ، ولذلك كان اردوغان وهو زعيم تركيا بلا منازع يحمل تعاطفا كبيرا مع شخصية “مندريس” وقرر نقل رفاته من المقبرة النائية التي وضعه فيها العسكر بعد إعدامه إلى مقبرة كبيرة في قلب اسطنبول تكريما له ولذكراه .

الدرس العاشر ، أن الانقلابات العسكرية لم تكن في أي زمان ولا أي دولة سبيلا للتصحيح ، السياسي أو الأمني أو الاقتصادي أو أي إصلاح كان ، وأن الجنرالات لا يملكون الخبرة ولا المران لإدارة الدولة بشكل علمي وسليم ، وأن الانقلابات العسكرية تسبب انتكاسات تنموية خطيرة في الاقتصاد والصحة والتعليم والبنية الأساسية على المدى البعيد ، وتخلف كوارث في البلدان التي حكموها ، وتصنع فراغا سياسيا تتمدد فيه كل ألوان التطرف السياسي والديني والطائفي والعرقي ، وأنه يتوجب على جميع القوى السياسية المدنية التأسيس لثقافة رفض الانقلابات العسكرية ، أيا كانت المبررات ، وأن حل الأزمات السياسية واحتقاناتها يكون عبر أدوات سياسية مدنية ، مهما طالت ، فهي أقل تكلفة على الوطن وعلى جميع قواه السياسية والمدنية من الكوارث التي تسببها الانقلابات .

الدرس الحادي عشر ، أن التطرف السياسي أيا كانت أيديولوجيته ، دينية أو يسارية أو ليبرالية أو قومية أو طبقية ، لا يصنع نهضة لمجتمع ولا يحمل جينات النجاح والاستمرار مهما توهج لحظيا ، والوسطية السياسية المتصالحة مع الجميع هي الأقدر دائما على صناعة النهضة وإنقاذ الدولة وامتلاك ثقة الشعب ، والقيم لا تفرض على المجتمع فرضا وإنما هي حراك وتدافع انساني ينمو ويتبلور طبيعيا ، والمجتمع يضبط نفسه تلقائيا ويصل في النهاية لمزج غير متكلف بين جوهر ميراثه الروحي والديني وبين قيم الحداثة وضروراتها ، وأي تدخل قسري هنا ، سواء كان باسم الدين أو باسم الحداثة والتنوير مصيره الفشل ، وأسوأ من الفشل أنه يتحول إلى عنصر تخريب وإرباك للمجتمع وشغله عن قضاياه الأكثر أهمية وإلحاحا ، كما أثبتت تجربة تركيا وتحولاتها ، أن حركات وأحزاب التشدد الديني والقومي واليساري والليبرالي لا تظهر وتربح ميدانيا إلا في مراحل الفراغ السياسي ، فإذا ظهرت أحزاب الوسطية السياسية والاعتدال المتصالحة مع المجتمع وهويته تتهمش تلقائيا أحزاب التطرف والتشدد ، وتقترب من حالة “الفولكلور” السياسي غير المؤثر على مجرى الحقيقي للأحداث .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى