مقالات

نعم فلسطين قضيتى

محمد شريف كامل

مدون وكاتب مصري
عرض مقالات الكاتب

إن فلسطين حقًا قضيتي منذ طفولتي، وليست كأي قضية أدافع عنها وأحارب من أجلها، فهي تتفوق على كل القضايا؛ لأنها قضية شعب أُكره على الخروج من بيته، وأُكره على النزوح من أرضه، ومورس في حقه كل أشكال القهر والترويع، والقتل، والتعذيب الذي عرفه الإنسان منذ الخليقة، وبعد كل ذلك عاش أكبر قضية تزييف للحقائق وتزوير للتاريخ، ومسخ لذاكرة البشرية، فأصبح المُغتَصب هو صاحب الأرض، وأصبح على صاحب الحق أن يقبل الفُتات من أرضه وحقه، وإلا أُعتبر متعنتًا، وإذا دافع عن حقه فهو إرهابي.

فلسطين حقًا قضيت؛ لأنها قضية حق يتنازل عنها كل يوم أحد المتربعين على عروش الدويلات العربية بداية من خيانة ابن طلال، ومرورًا بآل سعود والسادات…، وأنا هنا لا أتحدث فقط عما يسمى التطبيع، ولكنى أتحدث عن التنازل عن الحق العربي، والحق الفلسطيني، ذلك التنازل الذي سبق تطبيع السفارات، وتوقيع وثائق الاستسلام.

فالتعامل مع المُغتصب يتم منذ زمن بعيد، فآل سعود حافظوا على العرش بتحالفهم مع الصهيونية، ولا يخفى على أحد أنهم كانوا شركاء معًا في ضرب ثورة اليمن عام 1962 وإشعال نار الحرب، واستنزاف الجيش المصري، ثم الإلحاح على الجيش الصهيوني؛ لإشعال الحرب عام 1967 للقضاء على ما بقي من الثورة المصرية.

واستمروا على ذات المسار، وتحالفوا مع الإمارات، والصهيونية العالمية؛ لإخماد الربيع العربي، بل، وتدمير الأمة بتمويل الاحتلال الروسي لسوريا وليبيا، وتدمير اليمن والانقلاب على الشرعية في مصر، لم يأت كل ذلك من فراغ، بل بنى على مخطط سابق، وقديم يهدف أن تبقى الغلبة للصهيونية، ويبقى خدامها على عروش الدويلات العربية.

وإن كانت تلك الخيانات أثرت سلبًا على المسار العربي وعلى النهضة العربية، فإن التطبيع الرسمي، وإن رفضه كل مخلصي الشعب العربي، أحدث شرخًا كبيرًا في الوجدان العربي؛ لأنه ساهم في عملية تزييف للحقائق، وتزوير للتاريخ، ومسخ لذاكرة البشرية في عملية ممنهجة، ومستمرة حتى يومنا هذا.

قديمًا حزنت، وحزن كل العرب لقبول مصر مبادرة روجرز، ولم تكن إلا اتفاقية هدنة عسكرية مرحلية، ولم تكن وثيقة استسلام، لكنها كانت طريق مؤلم لمواصلة الاستعداد لاسترجاع الأرض ولتحقيق عبور 1973 الذي حقق الكثير، وأهم إنجازاته هو استعادة ثقة المقاتل العربي في قدراته، إلا أن السادات نجح في امتهان الدماء العربية، وتقديمها على مذبح كامب ديفيد التي فتحت الطريق للانهيار العربي، والذي رأيناه على كل المستويات، والذي تحقق بمخطط صهيوني، وجهه آل سعود عن طريق المخابرات السعودية، والمغاربية، وبلا علم من المخابرات المصرية.

لقد حققت كامب دافيد الكثير للحركة الصهيونية، أشياء قد لا يتاح المجال هنا لرصدها بالكامل، ولكن نتوقف عند أهم إنجازاتها، فقد نجحت كامب دافيد في تفتيت وحدة الموقف العربي التي خرجت من مؤتمر الخرطوم، والذي عقد في أغسطس/سبتمبر 1967 عقب الهزيمة بأقل من ثلاثة شهور ليعلن اللاءات الثلاث إنه  “لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض”، وأضاف الشعب لهم “لا” رابعة “لا تفريط”، ففي الوقت الذي كانت الحركة الصهيونية تنتظر استسلام المهزوم جاء الرد المعاكس تمامًا، إصرارًا عربيًا شعبيًا على إسقاط الهزيمة المرحلية، وتحويلها إلى طريق لتحقيق النصر، نصر فرضه الرفض الشعبي على مائدة الأمراء، ثم جاءت كامب ديفيد ثمرة لزيارة السادات للقدس التي حولت نصر 1973 إلى هزيمة يريدونها أبدية.

لقد كانت هذه الزيارة بمثابة اعتراف ورغبة في التنازل عن كل شيء، وتأكيد لسياسة السادات النابعة من رغبة قوية في الاستسلام، والتي ظهرت أكثر في تسليمه الكامل للولايات المتحدة حين أعلن أنها الوحيدة القادرة على حسم الصراع بمقولته الخرقاء أن “99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا” وكان هذا إعلان الاستسلام الذي أعلن به أننا بصفتنا عرب لا نملك أي ورقة في أيدينا، وأن علينا أن نقبل بما يقدم لنا، فجاء ذليلًا مهانًا.

وأسقطت مبادرة السادات الحق في الدفاع عن النفس بإعلانها أن حرب 73 هي آخر الحروب حتى قبل أن يتفاوض على أي شيء، فجاء خاضعًا. وأكمل انبطاحه هو، وآل سعود بإعلانهم عن عدم العودة لاستخدام سلاح البترول، ثم جاءت معاهدته لتقر الصلح دون تحقيق أي شيء، كما أقرت تلك المعاهدة مبدأ تفتيت الموقف العربي، وهو ما كان شرط أساسي للحركة الصهيونية بهدف الاستفراد بكل دولة على حدة.

وأقدم السادات على ما هو أسوأ من ذلك، فقد قام بتشجيع كل الدول الأفريقية على التطبيع مع الصهيونية بعد أن كان اعتراف أي دولة أفريقية بإسرائيل يعتبر جريمة مشينة، كما قام بالموافقة على إسقاط قرار الأمم المتحدة باعتبار الصهيونية حركة عنصرية، وهي لا شك كذلك.

إن الهدف من هذا السرد هو إنعاش الذاكرة بما حققته جريمة كامب ديفيد التي فتحت الباب لتعاون كبير بين دول عربية عديدة، والحركة الصهيونية، تعاون غير معلن يتلوه تعاون رسمي معلن، وفتح الباب لأن تفرض الًولايات المتحدة والحركة الصهيونية شرطها بأنه لا يبقى رئيس، ولا ملك عربي في الحكم إلا إذا تعاون مع الحركة الصهيونية، ولا ننسى كيف تم تدمير العراق، والوقوف ضد الربيع العربي، والانقلاب على الديمقراطية في مصر.

إنه من الطبيعي أن تتنافس الأفكار، والأيدولوجيات للوصول للحكم لما يعتقد أنه في صالح المجتمع، ومصلحة الشعب والوطن، ولكن بإسقاط الورقة من أيدي الشعب، وتسليمها لإرادة الولايات المتحدة المشروطة باعتناق الفكر الصهيوني المضاد للمصالح الوطنية يصبح الهدف من الحكم هو المصلحة الشخصية، أو منفعة خاصة للفرد، أو لمجموعة ما، وهو في كل الأحوال خيانة لحاضر، ومستقبل الأمة.

إن الصهيونية فكرة عنصرية مدمرة تستخدم من الدين قناع؛ لتنفيذ أهدافها في السيطرة والتفوق، خطة وُضعت في مؤتمر بازل عام 1897 مبنية على أساس أن الله أختار “اليهود” وأن الله منح لهم “فلسطين”، فبُنيت على عقيدة دينية لتجذب غالبية اليهود، وتجذب بعض المذاهب المسيحية؛ ليؤكدوا أن عودة المسيح لن تكون إلا بعد أن يقيم اليهود دولتهم في فلسطين فكانت حركة المسيحية الصهيونية.

ثم جاء دور بعض المسلمين الذين قاموا بتأويل القرآن ليتفق مع الفكر الصهيوني، فهم بذلك ينسبون خيانتهم لعمل مبني على أسس دينية، وجميعهم جمعتهم الانتهازية فاستخدموا الدين كمدخل ومبرر، كما استخدم السادات كذبًا آيات القران “وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا…” وكأنه سلم، وليس استسلام، ثم يسمون اتفاق الإمارات “اتفاق إبراهيم” وإبراهيم منه براء؛ لأن إبرهيم عليه السلام لا يقبل أن تباع حقوق شعب، لإنجاح نتانياهو، و ترامب في الانتخابات.

ورغم كل ذلك فقد رفض الشعب العربي التطبيع، وبقيت الصهيونية بكل قوتها منعزلة داخل أسوار قصور الحكام، ويكفي اعتراف الكتاب الصهاينة بأنه “… بعد أكثر من سبعين سنة ما زالت إسرائيل تعتبر نبتة غريبة في المنطقة، لأنها تستغل النزاعات بين سكان المنطقة لتعزيز مكانتها، مثل كل النظم الاستعمارية، فهي فرع لهم..”

إن موقفي سيظل ثابتًا كموقف ملايين العرب، ولن يتغير، فالصهيونية هي فكرة، وحركة عنصرية، وإسرائيل استعمار إحلالي يمارس هو، وكل من يؤيده التطهير العرقي منذ 1897، ورغم أنف مقررات مؤتمر بازل، ووعد بلفور وكامب ديفيد، وابن زايد، وآل سعود ستبقى أرض فلسطين عربية، وستبقى هي أرض كل العرب، ستبقى أرض فلسطين أرضي حتى، وإن خانها بعض من العرب، وحتى وإن باعها كل حكامهم.

فإلى الأبد ستظل فلسطين قضيتي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى