حقوق وحريات

شهادتي على فض اعتصام رابعة (6) – إذا كان الله معك فمن عليك؟!!

د. ممدوح المنير

كاتب وسياسي مصري.
عرض مقالات الكاتب

استعنت بالله و نزلت من السيارة و استندت بظهري عليها حتى لا أسقط ، و فتشوا مكان جلوسي الممتلئ بالدماء و لكنّ الله أعمى أبصارهم فلم يروا الدماء التي تملأ المكان ، و تحدثوا معي و أنا واقف أمامهم أردد في نفسي الآيات الأول من سورة ( يس ) .

فلم يروا ملابسي الممزقة و التي تملؤها الدماء !! ، و قلبوا السيّارة رأسًا على عقب و الأخوة صامتون، حتّى إنتهوا و سمحوا لنا بالإنصراف ، تحركنا بعدها إلى منزل الأخ بقلوب مطمئنة فما عشناه في هذه اللحظات العصيبة مع هؤلاء البلطجية استشعرنا فيها معية الله رأي العين ، فحالتي و حالة السيارة يستحيل أن تخطئها عين دون حفظ من الله و رعايته .

وصلنا إلى منزله الذي كان في منطقة تعجّ ب “السيساوية” و هو مصطلح يطلق على المصريين المؤيدين للسيسي و صعدنا إلى منزله و استقبلتنا والدته الكريمة ،فقد كان يعيشان وحدهما في المنزل ، و أحسنت استقبالنا جزاها الله خيرًا ، و صمم الأخ الكريم صاحب المنزل أن أنام في سريره بحالتي هذه و ملابسي الممتلئة بالدماء فرفضت و لكنه أصّر و بالفعل نمت على فراشه و أغرقته بالدماء ،وأنا في غاية الحرج، و بات معي كذلك الأخ الفاضل الذي تطوع بالبقاء معي بعد ان وجدني في الطريق يمرضني و يساعدني.

و جاءت صاحبة البيت الطبيبة لترى الجرح فقالت أنه يحتاج نقل للمستشفى فورًا ،و لايمكنها التعامل مع الجرح نظرًا لقرب مدخل الرصاصة من العمود الفقري ، كما أنها لا تملك الأدوات اللازمة.

بدأوا جميعًا حملة اتصالات بكل من يعرفونه من الأطباء بحثًا عن جرّاح يأتي إلى المنزل أو مستشفى أو عياده أذهب إليها دون خطر ، أخذوا يعطوني مشروبات لتعويض بعض من السوائل التي فقدتها ،ونمت حتى أيقظوني ليلاً قرب الساعة الواحدة صباح يوم ١٥ أغسطس و قالوا إنهم أخيرًا وجدوا مركزُا طبيًا إسلاميًا يستقبل الجرحى ” سرًا ” حتى لا يقتحم الأمن المكان، ويعتقل المصابين و الأطباء معًا .

و قد فعلها المجرمون فعلاً في كثير من المستشفيات أو العيادات التي تواجد فيها مصابون من الفض فكانوا يعتقلون المصابين و الأطباء و دخلوا في بعض الحالات غرف العمليات و اعتقلوا المصاب من على سرير العمليات ، كانت مصر قد نزل عليها في ذلك الزمان رجال بلا قلوب أو عقول أو ضمير كائنات متوحشة في صورة بشر .
حتى جثث الشهداء كان يتم اختطافها من المستشفيات التي وصلت إليها ، كانوا يريدون إخفاء معالم جريمتهم بأي طريقة سواء عدد القتلى الحقيقي أو المصابين أو شهود العيان على ما حدث .

وصلنا إلى المركز الطبي و دخلنا إليه خلسة، و ماكدنا ندخل ،حتى رأينا المصابين في كل مكان على سلالم المركز ،وفي الطرقات و سلموني للطاقم الطبي الذي أجرى لي أشعة ليعرف مكان الرصاصة ،ومدى تأثر الأنسجة و الأعضاء و قالوا لي: لابد من التعامل مع الإصابة ووقف النزيف فورًا و ليس هناك وقت للانتظار حتى ندخل غرفة العمليات، فهناك حالات أكثر خطورة و بالتالي سنتعامل مع الجرح هنا في غرفة عادية و دون تخدير.

و تعاملوا فعلاً مع الجرح مباشرة ،ثم قاموا بخياطته و كتبوا علاجًا و نصحونا أن نخرج فورًا قبل أن تداهم الشرطة المكان، فقد كانت الحالات الموجودة أكبر بكثير من قدرة تحمل مركز طبي صغير غير مؤهل أصلا للتعامل مع مثل هذه الحالات الحرجة،و لا يمكنهم رفضها كموقف أخلاقي لأنه لا يوجد غيرهم يستقبل هذه الحالات.

لذلك أعتقد أن من أكثر الفئات معاناة خلال عملية الفض أو بعدها هم الأطقم الطبية ، فقد كان الوضع داخل المستشفى الميداني غير المجهز كارثيًا و مأساويًا بمعنى الكلمة ، فلا توجد معدات طبية لمعظم الإصابات الحرجة التي كانت تصل إليه ، فضلاً عن الأعداد الهائلة من المصابين الذين كانوا بالآلاف مع طاقم طبي بالعشرات ،أعتقد أنها كانت تجربة إنسانية في غاية الصعوبة و تحتاج لتوثيق كامل لها ،سواء لمحاسبة هؤلاء المجرمين وقت يحين الحساب، أو حتى درس و عبرة للأجيال القادمة .

خرجنا من المركز و عدنا إلى منزل الأخ الضيف ،وبيتنا عنده ما تبقى من الليلة ، و كان الأخ المرافق لي قد رتّب من ينقلني الى مستشفى آخر أفضل تجهيزا و قريب من سكني و مضى يومين و أنا في ضيافة أخي هذا و والدته ،و لم يكن بيننا سابق معرفة على الاطلاق، لكنه فقط حب الخير و إغاثة ملهوف.
حتى جاء أخ فاضل و صديق عزيز بسيارته لتنقلني إلى خارج القاهرة و منها الى مستشفى خاص أفضل تجهيزًا و هناك قابلت الأهل و كان لقاؤنا حافلًا بالمشاعر و الدعوات ،و الحمد الله على فضله.

و عرضت على أستاذ جامعي في الجرّاحة فقال لي نصًا: مسار الرصاصة داخل جسدك لم أرى له مثيلا في حياتي ،بل هو معجزة بكل المقاييس ، قلت له كيف ؟
قال لي : مدخل الرصاصة يبعد عن عمودك الفقري ملليمترات بلا مبالغة و هذه الملليمترات تكفي لإصابتك بشلل كلي دائم لكنّ الله سلم ؛ثم إن مدخل الرصاصة المفترض طبيًا أن تتجه مباشرة إلى القلب فتموت أو إلى أحد الرئتين فتنفجر و تموت أيضا، لكن هذا المسار الذي أخذته عجيب ، سبحان الله !! فقلت الشهادة لها رجالها و أنا لا استحقها ، فقال لي لعل الله قد كتب لك عمرًا جديدًا لمهمة أخرى ينتظرها منك ،فقلت له نعم ، إنني قد مت فعليا يوم الفض لكني روحي لم تخرج بعد ،و أسال الله تعالى أن يستعملني لنصرة دينه و لا يستبدلني إنه نعم المولى و نعم النصير .
عدت إلى بيتي و منزلي و لكن حملة الاعتقالات من المنازل كانت على أشدها لكل من له نشاط سياسي أو حضر الاعتصام، فخاف الأهل من اعتقالي ،و أنا مازلت مصابًا و لم أكن اقدر على الحركة،وأنام على بطني معظم الوقت.

و تنقلت في عدة منازل حتى جاء رجل ستيني يعرفني و دون أن أطلب منه،وقال لي أخاف ان تعتقل و انت لازلت مصاب ، هذا مفتاح بيتي الجديد لم يسكن فيه أحد بعد ، فأقم فيه ما شئت حتى تتحسن حالتك و ترى المناسب لك، فشكرت له صنيعه هذا و بالفعل انتقلت إلى منزله ،وكان المنزل غير مؤثث بعد و خشينا أن ننقل أثاثًا بسيطًا له فنلفت الانتباه إلينا ؟!
فجئت بمرتبة صغيرة كنت احتفظ بها من أيام الاعتقال في زمن مبارك حتى لا أنسى هذه الذكرى ، و قضيت ما يقارب الشهرين في هذا المكان و زوجتي تعاودني و تُطببني حتى أذن الله بتحسن حالتي مع صعوبة لا تزال في الحركة .
وقتها كانت معظم القيادات و الرموز السياسية الرافضة للانقلاب قد اعتقلت أو استشهدت أو اختفت، فوجدت الجزيرة تتصل بي و أنا على هذه الحالة و تطلب مني مداخلة فقمت بها معهم، ورددت على أكثر من قناة فضائية.
فعاتبني بشدة أخوة أفاضل على ذلك و قالوا لي من السهل تحديد مكانك و اعتقالك و أنت بهذه الحالة و أخذوا يعددون لي أسماء شخصيات أعتقلت مباشرة بعد مداخلات فضائية قاموا بها ، و قالوا لي إن دورك كسياسي أو إعلامي لم يعد له مكان في مصر بعد الانقلاب، و خاصة مع إصابتك التي تعيق حركتك، و الأفضل أن تسافر للخارج، و تكمل رسالتك و دورك من هناك و طلبوا مني الا أرد على اتصالات الصحفيين و خصوصًا أن بعضهم هو مخبر أمني في صورة صحفي، و قد كان.
الأخ الفاضل صاحب البيت توافاه الله منذ ما يقرب من شهرين قبل نشر هذا الجزء من الشهادة و أسال الله ان يجازيه على صنيعه هذا خير الجزاء الذي ما نسيته له أبدًا.
لقد تنكر لي ( بعض) أقاربي و لم يرفعوا حتى سماعة الهاتف للسؤالي على صحتي خوفًا من ان يربطوا أنفسهم بي رغم علمهم بإصابتي و هذا الرجل الكبير في السن و ليس له انتماء لأي حزب او جماعة ولا تربطنا صلة من أي نوع غير الود و الإحترام بيننا، يخاطر بنفسه من أجل سلامتي كما فعل باقي الأخوة الأفاضل معي طوال رحلة الموت هذه.
بقيت في المنزل حتى تحسنت قدرتي على الحركة نسبيًا،و بدأت التفكير و الاستعداد للسفر ، فخرجت منها خائفًا يترقب في مغامرة أخرى ، حتى قيل لي الحمد الله ، نجوت من القوم الظالمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى