مقالات

“الاردوغانية”.. معالم التجربة السياسية في تركيا ودروسها – 12 من 13

جمال سلطان

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

يمكن أن نستخلص من تجربة اردوغان السياسية الممتدة حتى الآن ، معالم مشروع سياسي متوازن وملهم بالفعل للحركات السياسية في العالم العربي والإسلامي ، بطبيعة الحال مع اختلافات تقتضيها الظروف التاريخية والمؤسسية لكل بلد وكل منطقة جغرافية ، لأنها المرة الأولى في الشرق التي ينجح فيها سياسي مدني ، لا يحمل سلاحا ، في أن يروض العسكر ويقصقص ريشهم ويقلم أظافرهم بذكاء سياسي مدهش ، لحماية مدنية الدولة من الانقلابات العسكرية المتتالية ، رجل دولة استخدم أدوات الدولة والقانون والدستور ، في هندسة سياسية هادئة وجسورة معا ، لكي يحقق ما عجز عن تحقيقه أجيال سبقوه من السياسيين ورجالات الدولة ، رغم أنه كان يواجه دولة عميقة قوية للغاية ومتشعبة ومتشابكة ، وتملك المال والسلاح والإعلام والقضاء والتعليم والجامعات والدعم الجماهيري من أحزاب تمثل قطاعا غير قليل من الشعب الذي يحمل ايديولوجية علمانية متطرفة معادية للدين وأي مظهر من مظاهره وكثيرا ما تمتطي صهوة الطائفية غير المعلنة ، فهي تجربة خصبة للغاية ومثيرة وملهمة ، وأعتقد أنها تحمل الكثير من الخبرات التي يمكن أن تفيد جهود التحديث السياسي الجادة في العالم العربي .

الاردوغانية ، أو مشروع “رجب طيب اردوغان” السياسي ، ثبت أنه لم يولد من فراغ ، وإنما هو تطوير لخبرات سياسية درسها “اردوغان” جيدا ، وذاكر أخطاءها جيدا ، شهدتها تركيا على مدار تاريخها الحديث ، منذ نشأة الجمهورية ، وخاصة التجارب الثلاث المحافظة ، تجربة عدنان مندريس ، وتجربة تورجوت أوزال ، وتجربة نجم الدين أربكان ، فقد وضح أن “اردوغان” استفاد كثيرا ، وكثيرا جدا من تلك التجارب ، استوعب من الأول أن أزمة المجتمع التركي الأساسية هي أزمة هوية ، وأن نجاح أي نهضة أو مشروع سياسي لا يمكن أن يقوم إلا على أساس أمة موحدة وذات هوية بمعالم واضحة ومتصالحة مع نفسها ومع تاريخها ومع دينها ، وأن أقصر مدخل إلى ضمير مجتمعك وعقله هو أن تأتيه من باب احترام هويته وقيمه الأساسية وقيمه الروحية المتجذرة فيه ، دون أن تلجأ إلى الشعارات أو أن تصطدم بأسس الدولة الحديثة وأركان النظام السياسي المستقر ، لذلك كان مشروع اردوغان أقرب إلى عدنان مندريس منه إلى أستاذه ـ الإسلامي ـ “نجم الدين أربكان” ، الذي انزوى حزبه أمام حزب تلاميذه ، الحزب الجديد ، ولم يعد يحصل سوى على هامش صغير للغاية في أي انتخابات ، رغم شعاراته الدينية الصارخة وأدبياته المستلهمة كثيرا من أدبيات جماعة الإخوان في مصر وتراث مرجعياتها الأساسي مثل الشيخ حسن البنا والأستاذ سيد قطب وغيرهم ، ومع ذلك لم ينجح الحزب حتى في نسخته الجديدة “حزب السعادة” في أن يحصل على 2% من أصوات الناخبين .

أيضا استفاد اردوغان كثيرا من تجربة “تورجوت أوزال” ، الذي كان مدخله أيضا الحفاظ على هوية الأمة التركية واحترام قيمها الروحية ، بل ومغازلة مشاعرها كلما اقتضت الحاجة ذلك ، ولكنه أدرك أن حماية هذه الرؤية لا تكون إلا بإنجازات اقتصادية واجتماعية حاسمة ، وهنا تجلت عبقرية البروفسور “تورجوت أوزال” في إنجاز حزمة إصلاحات اقتصادية كانت لها بصمتها على حياة المواطن العادي ، ودعمت من حضوره السياسي وأتاحت له الفوز في الانتخابات مرتين متتاليتين ، ثم في الثالثة دخل القصر الجمهوري رئيسا .

فأول دروس “الاردوغانية” ـ كمشروع سياسي للإنقاذ ـ هي أهمية التصالح مع الذات ، مع الهوية ، وأنك لا يمكن أن تبني نهضة في بلدك وأنت تخاصم قيمها الروحية أو تعاند ميراثها الديني المتجذر في أعماقها ، وثاني تلك الدروس أن الإصلاح السياسي الجاد والعميق والشامل لا يأتي إلا من داخل الدولة ودولاب العمل فيها ، وليس من خارجها ، وهذا هو الإصلاح الذي يدوم ويرسخ في المجتمع ويشكل بنية مؤسسية عصية على الكسر ، وهو جهد سياسي صعب وطويل ويحتاج إلى نفس طويل ، ولكنه يحفر مساره الإصلاحي في أعماق بعيدة في المجتمع والدولة .

الدرس الثالث في “الاردوغانية” أن الدول لا تبنى بالمشروعات الأيديولوجية المنغلقة ، والفكر والتنظير ، فهو طريق وإن حقق نجاحا جماهيريا سريعا إلا أنه يكون قصيرا ، وغير قابل للاستمرار ، وأن عمليات الإصلاح السياسي الشامل لا يمكن أن يقوم بها تيار وحده ، وإنما كتلة سياسية منفتحة بعباءة واسعة فضفاضة ايديولوجيا ، تمثل الوسطية السياسية والاجتماعية ، وتمثل أغلب ألوان الطيف السياسي والأيديولوجي ، ففي تجربة حزب “العدالة والتنمية” كان هناك اليساري واليميني والقومي والديني والعلماني والكردي والعربي والتركي والطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة ورجال الأعمال الأثرياء ، تنصهر كل تلك الفعاليات في بوتقة مشروع وبرنامج سياسي يتم تحديثه كل خمس سنوات تقريبا ، بينما انزوت كل الأحزاب الأخرى التي مثلت جانبا من تلك الجوانب ، بما فيها الحزب الإسلامي ، حزب السعادة ، الذي ما زال عاجزا عن الحصول على 2% من أصوات الناخبين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى