مقالات

شهادتي على فض اعتصام رابعة (5) – المجهولون في الأرض.. المشهورون في السماء

د. ممدوح المنير

كاتب وسياسي مصري.
عرض مقالات الكاتب

أوشكت الشمس على المغيب و أستيقظت على أصوات همهمات و أيدي تهزني كي تعرف إذا كنت لازلت على قيد الحياة أم لا ، نظرت بعين زائغة فيمن حولي ، كان عدد من المعتصمين قد انحنوا عليّ لفحص مكان الإصابة ، ” الحمد الله لسه عايش” سمعتها بصعوبة و أنا استعيد وعيي و بعد السلامات و الدعوات منهم و لم أكن أعرفهم، أوقفوني و أستندت بزراعيّ على إثنين منهم و قالوا لي سنبحث عن أحد ينقلك إلى خارج الميدان فإصابتك بالغة .

و أخذوا يبحثون عن أحد معه دراجة نارية “موتوسيكل ” لينقلني عليه ، و كان هناك عدد من المعتصمين يتطوعون بنقل المصابين إلى الخارج بهذه الطريقة رغم ما في ذلك من خطورة عليهم و قد استشهد بالفعل عدد منهم برصاص القناصة جراء ذلك.

علمت منهم أنّهم بعد إطلاق النار عليّ قد حسموا أمرهم للخروج كتلة واحدة بسرعة من “الممر الآمن” ، و بالفعل بدأنا الحركة و أنا اتحرك بصعوبة مستندا عليهما، و كان بعضهم و نحن نمشي يصيح مكبرا و هو يبكي و آخرون يشيرون بأيديهم للقناصة في تحدي.

كانت العوطف جيّاشة و الدموع رقراقة ، فهم يتركون خلفهم عالمهم الجميل و قد أصبح خرابا ، يتركون أحبتهم و إخوانهم و قد غيّبهم الموت في كل مكان ، يتركون مصابين يتلوّون ألما لم يستطيعوا الوصول إليهم بسبب شدة إطلاق النيران ، لقد كنّا نودع شهدائنا دون أن ندفنهم و مصابينا دون أن نداوي جراحهم ، كنّا نودّع مدينتنا الفاضلة الطاهرة.

و بينما نحن على هذا الحال ظهرت دراجة نارية فنادوا على صاحبها و طلبوا منه أن يحملني عليها و لم يتردد و أجلسوني خلفه ثم جلس ثالث خلفي حتى لا أسقط فقد كنت في حالة إعياء شديد و النزيف لا يتوقف .

و بدأنا نتحرك وسط الحشد المتحرك حتى شارفنا على النهاية فرأينا قوّات الموت تقف على الجانبين بمدرعاتهم و عرباتهم و أسلحتهم مصوبة إلينا و في أحد شرفات المنازل المطلة على الطريق لمحت كاميرات تصوير كبيرة من التي تستخدم في القنوات الفضائية ، فعلمت أنهم لن يطلقوا النار علينا لزوم ” اللقطة ” التي سينشرونها في وسائل الإعلام من أنّ الممر آمن و أنهم لم يتعرضوا لأحد .

أعطيت هاتفي للرجل خلفي و كان الله قد هداني إلى شراء بطارية احتياطية له و ضعتها قبل أن أصاب بفترة وجيزة ، و طلبت منه الاتصال بأهلي فقد اتصلوا عليّ كثيرا للإطمئنان و لم استطع الرد عليهم ، كلّم الرجل زوجتي و قال لها إنّ زوجك مصاب و ينزف كثيرا و قد تحتسبيه عند الله شهيدا فلا يوجد مكان نعالجه فيه ، حاولت أن أتكلم و أعاتبه على ما قاله لها لكن لم استطع من شدة الإعياء .

حاول صاحب الدراجة النارية البحث عن مستشفى أو أي مكان يستقبلني لكن كانت كمائن الجيش و الشرطة في كل مكان تبحث عن أي أحد خارج من الميدان لتعتقله أو ترديه قتيلا و بالفعل أطلقوا النيران علينا في أكثر من كمين و لكنّ الله سلّم .

و جدنا مستشفى فذهبنا إليها و استوقفنا الأمن الخاص بها و عندما علم بإصابتي قال انتظروا هنا ، فعلمنا أنه ينوي الغدر بنا و أنه سيسلمنا للجيش و تحركنا فورا مبتعدين عن المكان ، مضى أكثر من ساعة على هذا المنوال و نحن في دائرة مغلقة ، فقد كان المجرمين قد أغلقوا محيط ميدان رابعة كاملا بالكمائن الثابتة و المتحركة ، كما أن صاحب الدراجة النارية ليس من القاهرة و لا يعرف أين يذهب ؟

قرر الأخ الذي يقود الدراجة أن يتوقف و أقترح أن يتركني في جانب الطريق حتى يتحرك بحرية إلى أن يجد أحد يسعفني و ترك معي الأخ الذي كان يجلس خلفي ، لكني طلبت منه أن يذهب معه و يتركني وحيدا و حلفت عليه و قلت له سأتصل بمن يأتي و يأخذني و بعد أخذ و رد تحركا و تركوني و جلست على الأرض أنتظر ما يفعل الله بي .

ثم رأيت من بعيد مجموعة المعتصمين قادمين من بعيد في اتجاهي بعد أن خرجوا من الميدان راجلين فلا توجد مواصلات فقد كانت المنطقة مغلقة بسبب الكمائن، و عندما أقتربوا منّي وجدت أنّهم من الأخوة الأفاضل الذين كنت معتصما معهم فأقبلوا عليّ و بعد السلامات و الإطمئنان عليّ ، تطوّع أحدهم بالبقاء معي و أن يتحرك الباقي لأن أي تجمع سيلفت انتباه الظلمة و سنعتقل جميعا أو نقتل.

قال لي الأخ الذي بقى معي سنوقف أي سيارة و نطلب منهم نقلك إلى أي مستشفى آمن حتى نوقف النزيف و كان قد مضى نحو ثلاث ساعات على إصابتي ، و فعلا بدأنا نشير للسيارات حتى مضت نصف ساعة و لا يقف أحد.

و في النهاية توقفت سيارة فيها شابين ملتحين في أواسط العشرينيات و كلمهم الأخ المرافق لي و قال لهم معي مصاب من الفض و نريد نقله إلى المستشفى و وافقا فورا و علمنا أنهما عندما علما بالفض و شاهداه على التلفاز نزلوا إلى الميدان للمساعدة بسيارتهم لنقل الجرحى و شاءت إرادة الله أن يجمعنا معا .

و كان الكثير من أهالي المنطقة التي كان فيها الاعتصام قد حاولوا المساعدة سواء باستضافة معتصمين في بيوتهم حتى تنتهي الأزمة أو اسعاف الجرحى …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى