مقالات

“الاردوغانية”.. كيف انتصرت تركيا على الانقلاب العسكري الخطير؟ – 11 من 13

جمال سلطان

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

كانت معركة أردوغان الثانية مع التنظيم الديني القوي المتغلغل في مؤسسات الدولة الحساسة ، تنظيم جولن أو “حركة الخدمة” ، والذي يملك نفوذا كبيرا في الجيش نفسه وفي الشرطة والقضاء والادعاء العام والإعلام والتعليم ، فضلا عن عالم المال ، وهو تنظيم ضخم ، كان يخطط لأن يحكم تركيا بديلا من الدولة العميقة ، وبنفس أدواتها ، يدير الأمور من وراء ستار ، ويحرك السياسيين كقطع الشطرنج ، ويتحكم في كل شيء في الدولة دون أن يختاره الشعب في انتخابات سياسية أو أن يتحمل أي مسئولية دستورية عن قراراته وتدخلاته .

عمل أردوغان على تحييد حركة “الخدمة” في البداية ، وحاول الاستفادة من نزعتها المحافظة في دعم شعبية الحزب في الداخل ، وأجل الصدام معها ، لكنه كان صداما محتوما ، فبدأ يمنع تدخلاتها في بعض شئون الدولة ، وخاصة الأكثر حساسية مثل الاستخبارات ، وفهمت الحركة أن “اردوغان” ليس من الشخصيات السياسية التي يمكن إدارتها كقطع الشطرنج ، كما يفعلون مع الآخرين ، وبدأت الهوة تتسع تدريجيا بين الطرفين ، فبدأ تنظيم جولن يخطط لإسقاط اردوغان بطريقته ، ومستخدما أدواته في القضاء والشرطة تحديدا ، وفي الـ 17، والـ 25 من ديسمبر عام 2013 أفاقت تركيا على ضجة كبيرة عندنا حرك مدعون عموم ـ تبين بعد ذلك انتماؤهم لجماعة جولن ـ قضايا فساد كبرى ضد قيادات بحزب العدالة ، بل وضد ابن أردوغان نفسه ، ونشرت تسجيلات صوتية مثيرة بدا منها أن جهات غامضة كانت تتجسس على الدولة نفسها ، وعلى رئيس الجمهورية نفسه ، واهتزت الحكومة بشدة على وقع تلك الهجمة المفاجئة ، والتي وصفت بالانقلاب الناعم الذي أداره “الكيان الموازي” أو تنظيم جولن الديني السري الخطير .
وكشف النقاب عن أن المدعي العام بطل المعركة الأساس كانت له سفرات غامضة إلى دبي في الإمارات ، وكان يقيم ببذخ لا يبرره راتبه الرسمي ، والمهم أن الحزب نجح في النهاية في ضرب هذه الهجمة والكشف عن أبعادها والاختراقات التي حدثت في جهازي القضاء والشرطة ، ووقعت سلسلة من التطهير التي شملت القطاعين .

تنظيم جولن الديني السري لم يستسلم للهزيمة التي جرت في المواجهة الأولى ، ولم يكن أحد يتصور أنه يصل بإصراره على سحق اردوغان إلى حد الترتيب لانقلاب عسكري خطير للغاية ، في صيف 2016 ، وهو الانقلاب الذي تابعه العالم كله على الهواء مباشرة ، عندما نزلت الدبابات إلى الميادين والشوارع وسيطرت على الجسور واقتحمت محطات الإذاعة والتليفزيون ، وقامت الطائرات الحربية بقصف مبنى البرلمان لإجبار الأعضاء على الاستسلام وعدم المقاومة ، وسيطر الانقلابيون على قائد الأركان واعتقلوه ، كما وقعت معارك في أماكن عديدة بين الانقلابيين وقطاعات من الشرطة الموالية للسلطة الشرعية والقوات الخاصة ، كما نزل الملايين إلى الشوارع كمتاريس لمنع تمدد الانقلابيين .

كان الانقلاب العسكري محكما ، والترتيب له على أعلى المستويات ، كما ثبت أن جانبا مهما من إدارته وتوجيهه كان ينطلق من عواصم إقليمية ودولية ، غير أن ذكاء اردوغان وخبرته السياسية الطويلة بدولاب الدولة وطريقة عمل الأجهزة وعلاقاتها وجسارته وتماسكه في المواجهة ورفضه التسليم والاستسلام وظهوره على شاشة تليفزيون ـ من خلال موبايل ـ يدعو الملايين للنزول إلى الشوارع ومواجهة الانقلابيين وحماية بلدهم والدفاع عن ديمقراطيتهم ، وإعلانه أنه قادم إلى اسطنبول خلال ساعات غير عابئ بأي خطر ، بعد أن روج الانقلابيون وإعلامهم أنه هرب إلى ألمانيا ، واللافت أن أول من أذاع خبر هروب ارودغان ولجوئه إلى ألمانيا إحدى القنوات الفضائية التابعة لحكومة أبو ظبي .
كان الظهور القوي لاردوغان ، ودعوته الشعب للمقاومة ، قد فعل فعل السحر في الملايين التي كانت ساكنة ومذهولة مما يجري في الشوارع ، وما إن ظهر “القائد” وأظهر شجاعة وبسالة ، ودعا للمقاومة ، اندفع سيل من البشر ، ملايين خرجت إلى الشوارع ، تتصدى للدبابات ، وتحاصر قواتها .

كذلك نجح رئيس الوزراء “بن علي يلدريم” في الهرب من القوات التي تلاحقه ، ورفض الاستسلام ، ودخل أحد الأنفاق التي كانت تحت الإنشاء ـ هو أستاذ بكلية هندسة ـ وتواصل مع المؤسسات والأجهزة عبر تويتر وكانت رسائله وتوجيهاته قد عزلت الانقلابيين معنويا عن بقية قطاعات الجيش وأعطت انطباعا ماكرا ـ لم يكن صحيحا ـ بأنهم مجموعة عسكريين محدودة متآمرة ، وتدخلت العناية الإلهية بإنقاذ اردوغان من الاعتقال أو القتل بمغادرته الفندق الذي يقضي فيه إجازته قبل ثلاثة عشر دقيقة فقط من اقتحامه من قبل كتيبة عسكرية مكلفة بإحضاره حيا أو ميتا ، وهي مشاهد مسجلة بالصوت والصورة الآن من خلال كاميرات المراقبة ، إضافة إلى قيام ضابط وطني بالقوات الخاصة (عمر خالص دمير) بقتل أبرز قادة الانقلاب بمسدسه عندما طلب منه تسليم مقر قيادة القوات الخاصة مما أربك قيادة الانقلاب وغير مسار الأحداث فكان قتل الجنرال “سميح ترزي” الذي كان يسعى للسيطرة على مقر القوات الخاصة نقطة تحول أخرى في مجريات الأحداث ، وذلك قبل أن تقوم قوات الانقلاب بقتل الضابط “عمر خالص دمير” في الحال ، وهذا المشهد أيضا مسجل بالصوت والصورة وتمت إذاعته ضمن وثائق الانقلاب ، وقد بكى اردوغان كثيرا على هذا الضابط الشجاع ، ودائما يزور قبره في المناسبات المختلفة وكل عام يضع عليه أكاليل الزهور ويسقيها بالماء ، و”عمر دمير” الآن بطل قومي عند الأتراك ، لأنه كان من الأسباب الكبيرة في فشل الانقلاب .

مما ساهم أيضا في إعاقة الانقلاب واضطراب حراكه يقظة كوادر حزب العدالة والتنمية ـ حزب أردوغان ـ في البلديات المنتخبة ورفضهم الاستسلام لقرارات الضباط الانقلابيين وقاموا بجهد كبير في إعاقة الانقلاب فأمروا سائقي حافلات النقل العام التابعة للبلديات بالتوقف في عرض الطريق ـ خاصة الطرق الرئيسية ـ وإغلاق الحافلة ومغادرتها ، لسد الطرق أمام حركة الدبابات ، كما قام اصحاب سيارات النقل الثقيل بالعمل ذاته ، فضلا عن خروج الملايين من المواطنين استجابة لنداء الرئيس عبر تطبيق صوتي بالموبايل للشوارع والتصدي للدبابات ، وقد قتل منهم أكثر من مائتين وخمسين مواطنا بالرصاص الحي ، من بينهم أحد أعز أصدقاء اردوغان ومصمم شعار الحزب ، قتل هو وابنه عند تصديهم لدبابات الانقلابيين مع عدد من المتظاهرين عند أحد الجسور في اسطنبول ، كما وقفت بعض قطاعات الشرطة المدنية في حدود إمكانياتها ضد التحرك الانقلابي ، وكذلك فشل الانقلابيون في إقناع رئيس الأركان بالانضمام إليهم فقاموا باعتقاله وخطفه قبل إنقاذه بعد ذلك ، إضافة إلى انحياز قائد الجيش الأول في اسطنبول إلى الرئيس ووعده بتأمين نزول طائرته في مطار اسطنبول حيث استقبلته حشود ضخمة ، إضافة إلى سلسلة إجراءات مدنية لغلق مداخل المطارات العسكرية بالحشود البشرية وسيارات النقل الثقيل وغيرها بما في ذلك قاعدة “انجرليك” الجوية التي تستخدمها قوات حلف الناتو ، لمنع الانقلابيين في سلاح الطيران من الحركة ، بعد أن قاموا بقصف مبنى البرلمان بالطائرات .

كانت ليلة السادس عشر من يوليو 2016 أطول ليلة في تاريخ تركيا الحديث ، قبل أن يشرق الصباح على هزيمة الانقلاب العسكري وفرار بعض قياداته خارج البلاد واعتقال الباقين ، ويستعيد اردوغان وحكومته السيطرة على مفاصل السلطة من جديد ، وبعدها أطلق عملية تطهير واسعة النطاق ، شملت الآلاف من سياسيين وإعلاميين وصحفيين وقضاة ورجال نيابة “مدعين عموم” من أعضاء الجماعة أو الموالون لها ، إضافة إلى عناصر شرطة وعناصر جيش ، جميعهم ممن ثبت تورطهم مع التنظيم في مخطط الانقلاب ، وقد وثقت جهات التحقيق اعترافات كثيرة ، كانت صادمة للأتراك ، وكشفت عن أن الانقلاب كان واسع النطاق وبالغ الخطورة والإحكام ، لكن الله كان لطيفا بتركيا وشعبها ودولتها المدنية الحديثة .

أثناء التحقيق مع العناصر الرئيسية في الانقلاب وقعت بين يدي المحققين مفاتيح “تطبيق” الكتروني كانت تستخدمه جماعة “جولن” والجنرالات الانقلابيين الموالين لها في تنسيق وتوزيع أدوار المحاولة الفاشلة في يد جهات التحقيق بعد فشل الانقلاب ، وفوجئ الجميع بأن مئات القضاة كانوا متورطين في الانقلاب ولديهم خطة للتعامل مع المعتقلين من قيادات الأحزاب والحكومة وغيرهم بعد السيطرة على الدولة ، وكان من عادة الجنرالات في الانقلابات السابقة في تركيا أن يسيطروا على مجموعة من القضاة الفاسدين لتصديرهم في مشهد الإجراءات العنيفة والقاسية لإضفاء مسحة قانونية على قرارات الاعتقال وأحكام السجن والإعدامات الظالمة لعشرات الآلاف من المعارضين أو النشطاء ، ومن المواقف المثيرة أن أحد القضاة عرض عليه صبيحة الانقلاب أحد قادة الانقلاب الخطرين ، فأمر بإطلاق سراحه فورا بدون ضمانات ، فهرب في اليوم نفسه إلى ألمانيا ، وعلى الفور تم اقتحام مقر المحكمة وإلقاء القبض على القاضي الذي ثبت أنه أحد أعضاء جماعة جولن .

كانت هزيمة انقلاب 2016 نقطة فاصلة ، وصمم اردوغان على أن يجري عملية التطهير الشامل عقبها ، فصدرت قرارات بعزل مئات القضاة الفاسدين والموالين للانقلاب العسكري ، كما صدرت قرارات فصل آلاف من كوادر الشرطة ومن ضباط الجيش ، وكذلك من الجهاز الإداري للدولة الذين كانوا يدينون بالولاء لزعيم تنظيم الحركة الديني في تركيا ، كما صدرت قرارات بخروج معسكرات الجيش بالكامل من المدن الكبرى والرئيسية مثل اسطنبول وأنقره ، ونقلها إلى الثغور وحدود الدولة باعتبار أن هذا هو مكان عملها الأساس ، ولمنع أي مغامر من تحريك دباباته فجأة داخل المدن ويهدد الدولة والشعب .

كان اردوغان يرى أنها لحظة حسم تاريخية لحماية الدولة المدنية في تركيا من شبح الانقلابات العسكرية ، وحماية الديمقراطية من تغول الجماعات الدينية السرية عليها وتحكمها من وراء ستار في حركة الأحزاب والنقابات والإعلام وغيره .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى