بحوث ودراسات

فتح القسطنطينية – 9 من 11

أ.د. أحمد رشاد

أكاديمي مصري
عرض مقالات الكاتب

المشهد الثامن

المفاوضات بين السلطان محمد الفاتح

والإمبراطور قسطنطين والمجالس العسكرية

ومع توالي القصف المستمر والهجوم على أسوار المدينة  من ضربات السفن البحرية والمدافع البرية لمدة سبعة أسابيع كاملة من الحصار ، وارتفاع الروح المعنوية عند الجند المسلمين وثبات قائدهم الفاتح ومدى مقدرته القتالية وأساليبه المتنوعة الهائلة التي كانت تفاجئ العدو كل يوم ، أيقن الفاتح أن القسطنطينية على وشك السقوط  ، فرأى السلطان أن يخاطب الإمبراطور قسطنطين برسالة أرسلها مع إسماعيل إسفنديار أوغلو الذى كان تربطه بالإمبراطور صحبة قديمة ، ليسلم القسطنطينية دون إراقة دماء وعرض عليه خروجه  وحاشيته بأمواله وذهبه بأمان ، وعرض عليه أن يكون حاكما للمورة التي كان يحكمها من قبل ، وكل من يرغب من سكان المدينة الرحيل عليه أن يرحل بأمان ودون إراقة دماء وبما شاء من ممتلكاته وأمواله ، وضمن السلطان للسكان الأمان لمن أراد البقاء في القسطنطينية ورفض الرحيل عنها ، وأن تحقن دماؤهم ، وتحمى ممتلكاتهم ، وخاصة بعدما لحق بالمدينة الخراب والشقاء وتهديم أسوارها  وأن يجنب النساء والشيوخ والأطفال أهوال الحرب ، ولكن الإمبراطور رفض إلا الدفاع عن المدينة عاصمة الإمبراطورية البيزنطية أو الموت فيها وإن أبى قسطنطين هذا العرض فلا يلومن إلا نفسه وما يجره على شعبه وعلى المدينة من سبى وأسر  وخراب ودمار

وبناء على هذه الرسالة عقد الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر مجلسا عسكريا لقادة جيشه وأهل مشورته لدراسة محتويات الرسالة ، فعرض عليه بعض القادة والمستشارين التسليم والخضوع لمطلب السلطان الفاتح فقد انهارت قوانا العسكرية والبشرية ، وفريق آخر من قادة الحرب أصروا على الاستمرار في القتال ، وكان رأى قسطنطين موافق لرأى قادة الحرب في الاستمرار في القتال مهما كانت النتيجة ، وعرض على رسول السلطان محمد الفاتح في ضعف الشكر للسلطان لو وافق على السلم وأن يدفع له جزية مرضية ، أما تسليم القسطنطينية فلن يسلمها ، وأقسم أن يدافع عنها إلى آخر نفس في حياته ، فإما أن يحتفظ بعرشها أو يدفن تحت أسوارها ، فلما علم السلطان محمد الفتح بما قاله قسطنطين قال: حسنا ، قريبا سيكون لي عرش في القسطنطينية أو يكون لي فيها قبر. وأصبح الإصرار سجال بين الإمبراطور البيزنطي والسلطان محمد الفاتح  على امتلاك القسطنطينية .

وإن كان الإمبراطور البيزنطي مصرا على البقاء ففي القسطنطينية فقد أصر السلطان الفاتح على فتحها ودخولها ولابد من إنهاء هذه المعركة بالفتح المبين بإذن الله تعالى .  مما جعل السلطان الفاتح يضاعف ضرباته بالمدفع العملاق الذى صنعه أوربان المجرى ولكن هذا المدفع تنبعث من حرارة شديدة جدا بعد إطلاق الطلقة الواحدة فيتوقف المدفع مدة ليست بالقليلة حتى تنخفض درجة حرارته ، لدرجة أن شدة حرارته قتلت أوربان نفسه وعدداً من الجنود القائمين على خدمته ، فطلب السلطان محمد الفاتح زيت الزيتون لتبريد المدافع تبريدا سريعا حتى تتوالى ضرباتها التي تقذف قذائفها إلى أعلى السور فتتخطاه وتسقط في وسط المدينة فتثير الرعب بين السكان وتقتل من أصابها وتهدم ما وقعت عليه

وعقد السلطان مجلساً حربيًا في خيمته وحضره الشيوخ العلماء الذين لم يفارقوا السلطان فضلا على كبار قادة الجند  لدراسة الموقف بعد رفض الإمبراطور البيزنطي بالاستسلام  ، وكطلب من المجتمعين الإدلاء  بآرائهم بكل صراحة ووضوح  فأشار بعضهم بالانسحاب ومنهم الوزير خليل باشا ـ وكان متهمًا بمواطأة البيزنطيين ـ الذى اقترح رفع الحصار لتفادى غضب أوربا النصرانية  وخاصة بعد انتشار إشاعة   وصول قوة غربية إلى مياه خيوس . وقال الوزير الماكر الذى كان نائبا عن أبليس : إن الحمية والحماس شيء جميل له التقدير والاحترام ، ولكن يجب أخذ الحذر والتريث قبل الهجوم على هذه المدينة التي تمتلك الأسوار القوية  ، شديدة المنعة ،  حوصرت من قبل بمحاولات تصل إلى تسع عشرة مرة ولم تفلح كلها  ، ونحن الآن نحاصرها منذ أربعين يوما وقدمنا تضحيات غالية وعظيمة  ، فقد حفرنا الأنفاق ولم ننجح ، وأنشأنا القلاع الخشبية الضخمة وحرقت وأصبحت كوما من الرماد وقتل مهندسوها ، وقد كنت أعلمتكم أن هذا الحصار أمرا صعبا ،  وقد ظهر لكم الآن صدق حديثي ورجاحة رأى ، وأضاف الوزير العجوز في مكر إبليس : وإن كنا نحسن الظن بفتح القسطنطينية ودخلتها خيولنا فستتألب علينا كل الشعوب النصرانية ولن تفارقنا حتى تستردها ، فمن الأفضل أن نقبل جزية كبيرة نفرضها على الإمبراطور ، ونعود إلى ديارنا بأمان   .

لقد غض السلطان محمد الفاتح النظر عن كلام خليل باشا مؤقتا ، ثم تبسم  وطلب الرأي من قائد من قواده وهو زغنوش باشا 

وذكرت كتب التاريخ  ” موقف زوغنوش باشا فقالت: ما أن سأله السلطان الفاتح عن رأيه حتى استفزه في قعدته وصاح في لغة تركية تشوبها لكنة ارناؤوطية: حاشا وكلا أيها السلطان، أنا لا أقبل أبداً ما قاله خليل باشا، فما أتينا هنا إلا لنموت لا لنرجع. وأحدث هذا الاستهلال وقعاً عميقاً في نفوس الحاضرين، وخيم السكون على المجلس لحظة ثم واصل زوغنوش باشا كلامه فقال: إن خليل باشا أراد بما قاله أن يخمد فيكم نار الحمية ويقتل الشجاعة ولكنه لن يبوء إلا بالخيبة والخسران. إن جيش الإسكندر الكبير الذي قام من اليونان وزحف إلى الهند وقهر نصف آسيا الكبيرة الواسعة لم يكن أكبر من جيشنا فإن كان ذلك الجيش استطاع أن يستولي على تلك الأراضي العظيمة الواسعة أفلا يستطيع جيشنا أن يتخطى هذه الكومة من الأحجار المتراكمة، وقد أعلن خليل باشا أن دول الغرب ستزحف إلينا وتنتقم ولكن ما لدول الغربية هذه ؟ وهل هي الدول اللاتينية التي شغلها ما بينها من خصام وتنافس، هل هي دول البحر المتوسط التي لا تقدر على شيء غير القرصنة واللصوصية؟ ولو أن تلك الدول أرادت نصرة بيزنطة لفعلت وأرسلت إليها الجند والسفن، ولنفرض أن أهل الغرب بعد فتحنا القسطنطينية هبوا إلى الحرب وقاتلونا فهل سنقف منهم مكتوفي الأيدي بغير حراك، أو ليس لنا جيش يدافع عن كرامتنا وشرفنا؟

يا صاحب السلطنة ، أما وقد سألتني رأيي فلأعلنها كلمة صريحة، يجب أن تكون قلوبنا كالصخر ، ويجب أن نواصل الحرب دون أن يظهر علينا أقل ضعف أو خور، لقد بدأنا أمراً فواجب علينا أن نتمه، ويجب أن نزيد هجماتنا قوة وشدة ونفتح ثغرات جديدة وننقض على العدو بشجاعة. لا أعرف شيئاً غير هذا، ولا استطيع أن أقول شيئاً غير هذا ….  

وبدأت على وجه الفاتح أمارات البشر والانشراح لسماع هذا القول، والتفت إلى القائد طرخان يسأله رأيه فأجاب على الفور : إن زوغنوش باشا قد أصاب فيما قال وأنا على رأيه يسلطاني. ثم سأل الشيخ آق شمس الدين والمولى الكوراني عن رأيهما. وكان الفاتح يثق بهما كل الثقة فأجابا أنهما على رأي زوغنـوش باشا وقالا : يجب الاستمرار في الحرب، وبالغاية الصمدانية سيكون لنا النصر والظفر “

وسرت الحمية والحماس في جميع الحاضرين وابتهج السلطان الفاتح واستبشر بدعاء الشيخين بالنصر والظفر ولم يملك نفسه من القول : من كان من أجدادي في مثل قوتي  

لقد أيد العلماء الرأي القائل بمواصلة الجهاد كما فرح السلطان حيث كان يعبر عن رأيه ورغبته في مواصلة الهجوم حتى الفتح، وانتهى الاجتماع بتعليمات من السلطان أن الهجوم العام والتعليمات باقتحام المدينة باتت وشيكة وسيأمر بها فور ظهور الفرصة المناسبة وأن على الجنود الاستعداد لذلك  وخرج خليل باشا من المجلس مخذولا ومعه من تأثر بإشاعته التي أذاعها ممن كانوا ضعاف النفوس .

لقد ذهب زغنوش باشا إلى جنوده ليرى بنفسه مدى استعدادية جنوده بناء على طلب الفاتح منه ، فوجدهم في أهبة الاستعداد ومتعطشين للجهاد في سبيل الله حينما قال لهم : إن سلطاننا المعظم يرى أن القتال دام سبعة أسابيع وآن الأوان للهجوم وحان الوقت لكى تظهروا بسالتكم وشجاعتكم فهل أنتم قادرون على التضحية والجهاد في سبيل الله وفى تحقيق بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلت أصوات الجند المدوية العامرة بالإيمان الواثقة بنصر الله تبارك وتعالى هاتفة :

الله أكبر  .. الله أكبر .. الله أكبر

وطلب جنود الانكشارية من زغنوش باشا أن يبلغ السلطان محمد الفاتح أن يتفضل بالعفو عن رفقائهم الذين غضب عليهم السلطان ممن كانوا يقاتلون مع بالطو أوغلو وإطلاق سراحهم لكى يشاركوهم الفرحة بالجهاد فى سبيل الله ، فدمعت عيون زغنوش باشا متأثرا بهذا الوفاء والحب للجهاد ولإخوانهم ، ووعدهم زعنوش باشا بأنه سيذكر ذلك للسلطان وقال وما أحسب إلا أن السلطان سيعفو عن إخوانكم بإذن الله .

أما السلطان محمد الفاتح فكان ينتظر رد زغنـوش باشا على أحر من الجمر ، وما إن دخل عليه زغنوش باشا في خيمته فقال له ما الخبر فتبسم زغنوش باشا وأعلم السلطان بأن جميع الجنود ينتظرون أن يسروا بأمرك بالهجوم ، ولم يتمالك السلطان نفسه فنهض من مقعده وأسرع إلى باب الخيمة ليستمع إلى أصوات الجند بالتكبير والأناشيد الدينية والصيحات العسكرية التي كانت تتصاعد من أفواههم مدوية  كالصاعقة ، فعاد الفاتح إلى مجلسه سعيدا فرحا تغمره الفرحة وقال لزغنوش باشا : يجب أن يكون الجيش مستعدا الآن وستقتحم القسطنطينية بإذن الله تعالى . فانحني زغنوش باشا للسلطان احتراما وإكبارا  له ، ثم دعي للسلطان بأن يبارك في غزوته وأن يسد خطى المجاهدين جميعا وأن يوفقهم إلى النصر .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى