دين ودنيا

تأملات قرآنية مع شيخ الإسلام ابن تيمية (17)

الدكتور حسين القحطاني

عرض مقالات الكاتب

{ صفة أولياء الله وصفة أعداء الله } • قال الله تبارك وتعالى عن المنافقين : ( ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ) . “سورة محمد” دلّت هذه الآية الكريمة على صفة من صفات أعداء الله وهي اتباع مساخط الله وكره مراضيه ، سواء كانوا على الكفر الأصلي أو كانوا من المنافقين الذين طرأ عليهم الكفر ، وظهرت هذه الصفة للعيان ، لأنهم اتبعوا ما أسخط الله عليهم من الكفر والمعاصي ، وكرهوا ما يرضاه من الإيمان والعمل الصالح ، فأبطل الله أعمالهم ، لأن الكفر الأصلي والطارئ يهدم ما كان قبله من الصالحات ، كما أن الإيمان الأصلي والطارئ يهدم ما كان قبله من السيئات . والولاية والعداوة وإن كانت في محبة الله ورضاه ، وفي بغضه وسخطه ، ولكن ذلك لا يحلّ بالإنسان إلا بعد ظهور العمل المؤدي إلى رضوانه أو سخطه . فدلّت الآية أن أعمالهم بعد ظهورها هي التي أسخطت الرب سبحانه وتعالى عليهم لا قبلها ، ودلّت الآية أيضا أن الذمّ وقع بالاتباع ، والاتباع لا يكون إلا بعمل الجوارح بعد عمل القلب ، وأما ذمّ من كره رضوانه ، لأن ذلك مخالف لشبهاتهم وشهواتهم ، والكره محلّه القلب ، فمن كره بقلبه ما رضيه الله في كتابه وسنة رسوله – صلى الله عليه وآله وسلم – واتبع بجوارحه مساخطه ، كان عدوّا لله تعالى ، ومن اتبع مراضيه بجوارحه ، وأحبّ ما شرعه بقلبه ، كان وليّا لله تعالى . لذا يجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله ورضيه ، ويبغض ما أبغضه وكرهه ، سواء علم الحكمة في ذلك أو لم يعلم ، فمن حمد الله ورضي بقضائه وقدره ، حلوه ومرّه ، وسلّم نفسه لحكمه ، أحبه الله ورضي عنه ، لأن الرضا وإن كان من أعمال القلوب ، فهو يكمل على اللسان والجوارح بالحمد والثناء على الله في كل حال . ومن هنا تظهر صفة أولياء الله في الرضا المحمود ، وأما صفة أعداء الله فتظهر في اتباع مساخطه وكره مراضيه ، فأحبط الله أعمالهم بسبب ذلك ، لأن الله لا يقبل العمل الصالح إذا اقترن بالكفر ، نسأل الله السلامة والعافية . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “الراضي لا بدّ أن يفعل ما يرضاه الله ، وإلا فكيف يكون راضيا عن الله من لا يفعل ما يرضاه الله ، وكيف يسوغ رضا ما يكرهه الله ويسخطه ويذمّه وينهى عنه ؟ وبيان هذا أن الرضا المحمود : إما أن يكون الله يحبه ويرضاه ، وأما أن لا يحبه ويرضاه . فإن لم يكن يحبه ويرضاه ، لم يكن هذا الرضا مأمورا به : لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب ، فإن من الرضا ما هو كفر ، كرضا الكفار بالشرك وقتل الأنبياء وتكذيبهم ، ورضاهم بما يسخطه الله ويكرهه . قال تعالى : ( ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ) . فمن اتبع ما يسخط الله برضاه وعمله فقد أسخط الله … وقال – صلى الله عليه وسلم – ” سيكون بعدي أمراء تعرفون وتنكرون ، فمن أنكر فقد برئ ، ومن كره فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع” . رواه مسلم … فمن رضي بكفره ، وكفر غيره وفسقه ، وفسق غيره ، ومعاصيه ومعاصي غيره ، فليس هو متبعا لرضا الله ، ولا هو مؤمن بالله ، بل هو مسخط لربّه ، وربّه غضبان عليه ، لاعِنٌ له ، ذامّ له ، متوعّد له بالعقاب . وطريق الله ، التي يأمر بها المشايخ المهتدون ، إنما هي الأمر بطاعة الله والنهي عن معصيته . فمن أمر أو استحب أو مدح الرضا الذي يكرهه الله ويذمّه وينهى عنه ويعاقب أصحابه ، فهو عدوّ لله لا وليّ لله ، وهو يصدّ عن سبيل الله وطريقه ، ليس بسالك لسبيله وطريقه . وإذا كان الرضا الموجود في بني آدم : منه ما يحبه الله ، ومنه ما يكرهه ويسخطه ، ومنه ما هو مباح لا من هذا ولا من هذا ، كسائر أعمال القلوب من الحب والبغض وغير ذلك ، كلها ينقسم إلى محبوب لله ومكروه لله ومباح … وإذا كان الدعاء والسؤال كذلك واجبا أو مستحبا ، فمعلوم أن الله يرضى بفعل الواجبات والمستحبات ، فكيف يكون الراضي الذي هو من أولياء الله لا يفعل ما يرضاه الله ويحبه ، بل يفعل ما يسخطه ويكرهه ؟ وهذه صفة أعداء الله لا أولياء الله … والطريق إلى الله إنما هي أن ترضيه بأن تفعل ما يحبه ويرضاه ، لا أن ترضى بكل ما يحدث ويكون ، فإنه هو لم يأمرك بذلك ولا رضيه لك ولا أحبه ، بل هو سبحانه يكره ويسخط ويبغض على أعيان أو أفعال موجودة لا يحصيها إلا هو . وولاية الله موافقته بأن تحب ما يحب ، وتبغض ما يبغض ، وتكره ما يكره ، وتسخط ما يسخط ، وتوالي من يوالي ، وتعادي من يعادي ، فإذا كنت تحب وترضى ما يسخطه ويكرهه ، كنت عدوّه لا وليّه ، وكان كل ذمّ نال من رضي ما أسخط الله قد نالك . فتدبر هذا ، فإنه تنبيه على أصل عظيم ضلّ فيه طوائف النسّاك والصوفية والعبّاد والعامة من لا يحصيهم إلا الله” . “الاستقامة” بقلم الدكتور/ حسين القحطاني “الدوحة قطر” .

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً على المفكر طارق فايز العجاوي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى