غير مصنف

فنون الحكام العرب في استحقار شعوبهم

الدكتور عزت السيد أحمد

كاتب ومفكر سوري
عرض مقالات الكاتب

الاستحقار والاحتقار والحقارة والحقير بالأصل من الصِّغر والتَّصغير قبل أن تغدو بمعناها الشَّائع اليوم والذي في الحقيقة لا يختلف عن الأصل اللغويِّ سوى بإضافة بعدٍ نفسيٍّ وشيءٍ جديدٍ من البعد الدَّلاليِّ وهو شيء من قلَّةِ الشَّأن والسَّفاهة ورُبَّما النَّذالة… ووصف الصَّغير ما لم يكن بتحديد العمر إذا أطلقت علىٰ شخص تتضمن هٰذه الدلالات غالباً.

الحكام العرب يستحقرون شعوبهم كلَّ أنواع الاستحقار، علىٰ أقلِّ تقديرٍ بدليل ما حدث في الرَّبيع العربي من قبل الأنظمة أو السَّلاطين الذين ثارت عليهم شعوبهم ومن قبل الأنظمة أو السلاطين الآخرين الذين كانوا أصلاً يداً بيد مع من قامت ضدَّهم الثَّورات والأدلة أكبر من أن تدحض أن يمكن تكذيبها، ولو ثارت عليهم شعوبهم لأعادوا استنساخ السلوكات ذاتها حفراً وإلصاقاً، وقد قلت وكتبت ونشرت في عام 2013م قائلاً: «لا تظنوا أنَّ الحكام العرب والأنظمة العربية أحسن حالاً من القذافي وبشار الأسد، إذا ثارت شعوبهم ضدَّهم لن يكونوا أرحم من الأسد والقذافي».

لا أريد التفصيل في أنواع الاستحقار التي يمارسها الحكام العرب، أريد أن أقتطع مشهداً واحداً ألقي عليه قليلاً من الضَّوء. المشهد واحد بثلاث نسخ لا تختلف عن بعضها أبداً لا في المبدأ ولا في الصورة. وإن كنت سأذكر هٰذه المشاهد الثلاثة فقط فلا يعني ذٰلكَ أنَّهَا الوحيدة بحال من الأحوال. أي قارئ عربي سيتذكر أمثالها في بلده، بل وإن كان كل واحدٍ منها في دولة فإن في أي دولة من هٰذه الدول الثلاث نماذج أُخْرَىٰ مماثلة تماماً. أعني أنَّهَا ليست الوحيدة من هٰذا القبيل، وأمثالها كثيرة غير قليلة في الدول العربيَّة كلها وأكاد أقطع بالقول: من دون استثناء.

كذٰلكَ الأمر فمن الضروري الانتباه إلىٰ ما بدأت به بأنَّ هٰذه المشاهد التي تمثل سلوكاً واحد في الشَّكل المضمون ليست كل أوجه أو أنواع استحقار الحكام العرب شعوبهم، إذا أردنا أن نفتح هٰذا الباب فنحن أمام الكثير من الأنماط والأشكال والأنواع، تحدثنا في بعضها في سلسلة المقالات هٰذه، والكثير منها منها يمكن التبحُّر في البحث فيها.

لنبدأ من الأخير من الناحية الزمنية. إِنَّهُ من المملكة العربية السعودية. بعد أشهر من وراثة الملك سلمان الحكم عن أخيه الملك عبدالله انقلب علىٰ كل تقاليد الأسرة الحاكمة وأطاح بأخيه ولي العهد الأمير نايف وجعل ابنه محمد وليًّا للعهد، وبعد أشهر من استلام مهامه وليًّا من العهد بدأ حملة اعتقالاً ترويعية، لماذا ترويعية لأنه بدأت بأقرب الأقرباء من الأمراء وأكثرهم شهرة وأشدهم قوة… وكلهم من أولاد أعمامه وحَتَّىٰ بعض أعمامه فيما قيل… بزعم محاربة الفساد. لتكون هٰذه الحملة المروعة تمهيداً ما بعدها من اعتقال العلماء.

علىٰ أيِّ حال ليست هٰذه مشكلتنا ولا تعنينا في شيء. الفكرة فيها أنَّها محاربة الفساد والفاسدين والفكرة في الصُّورة جميلة، وكان ممن تَمَّ اعتقالهم والزَّج بهم في السِّجن بتهمة الفساد ونهب أموال الدولة وهلمَّ جرًّا وزير المالية شخصيًّا وهو إبراهيم العساف. وتم تعيين بديل عنها علىٰ الفور لأنَّ النية كانت صريحة بأنه متهم ومدان ولن يعود إلىٰ عمله بحال من الأحوال.

إلىٰ هنا الخبر عادي ولا ملفت فيه بغضِّ النظر عن أي اعتبارات أُخْرَىٰ من ناحية حقيقة التهم أو بعدها عن الحقيقة.

يبدأ  الخبر بعد شهور لا تصل إلىٰ السَّنة إذ وعلىٰ نحو مفاجئ ومن دون مقدمات أو أسباب واضحة أو مباشرة تمت إقالة وزير الخارجية عادل الجبير وتعيين إبراهيم العساف وزيراً للخارجية بديلاً عنه. من هو إبراهيم العسَّاف؟ إِنَّهُ المعتقل بتهمة الفساد.

ماذا يعني ذٰلكَ؟

لو أنَّها الظاهرة الأولى من نوعها أو السُّلوك الأول من هٰذا النوع لأمكن وإن علىٰ شديد المضض أن تجهد نفسك في التماس الأعذار والتبريرات. ولٰكنَّهُ ليس السُّلوك الأول من هٰذا القبيل. وعلىٰ افتراض كونه السُّلوك الأول من هٰذا القبيل فإنَّنا أمام عشرات التَّساؤلات، الوزير اعتقل بتهمة الفساد ولم يحاكم وإن حوكم لا أحد يعلم ماذا حدث في المحكمة، وفجأة من دون أن توضيحات أو تبريرات أو تطمينات أو تخويفات يتم ترفيع الوزير من وزير مالية إلىٰ وزير خارجية!!!

لن أكثر من التعليق الآن. لنذهب إلىٰ الشاهد الأوسط زمنيًّا.

إِنَّهُ حسني مبارك مع وزير ثقافته وسياحته فاروق حسني.

مع أول تغيير وزاري قام به الرئيس المصري حسني مبارك في عام 1988م أدخل فاروق حسني في تشكيل الوزارة وزيراً للثقافة. ومنذ ذٰلكَ الحين تقريباً بدأت تفوح من حوله روائح غير مريحة التي لم تكن ملفتة للانتباه في البدايات، ولٰكنَّهَا مع بدايات الألفية الجديدة أي منذ عام 2000م صارت أكثر من أن تطاق، ووصل تعاظم أخبار فضائحة وفساده إلىٰ درجة أن الناس صارت تترقب محكمة ميدانية له قبل انتخابات الرئاسة عام 2005م، فهدأ الناس بارتقاب علىٰ الأقل أن لا يكلف بالوزارة من جديد، وإذا به علىٰ الرَّغْمِ من كثرة الفضائح وشدتها جزء من الوزارة من جديد.

وبقي في منصبه منذ تسمنه منصب وزير الثقافة عام 1988م إلىٰ اندلاع الثورة المصرية ونهاية عصر مبارك. تسع مرات تغيرت الوزارة وتغير الوزراء مع ما تخللها من تعديلات وزارية وبقي فيها جميعاً علىٰ الرَّغْمِ من رغبة الشعب كله في عدم وجوده في الوزارة لما يشكله إساءة لهم ولمصر. وأصر دائماً حسني مبارك علىٰ وجوده وزيراً.

ألم يكن يعلم حسني مبارك بكل هٰذه الحقائق؟

عندما اندلعت الثورة كان من أول ما قام به الإطاحة بفاروق حسني لإرضاء الناس. ولٰكنَّهُ وضع منه شخصاً لا يقل عنه سوءاً، ومع ذٰلكَ اعتذر هٰذا الشَّخص في حمأة الغضب الشَّعبي الثَّائر لأسباب تعنيه.

ألم يكن يعلم حسني مبارك بكلِّ ذٰلكَ؟

يروج أبواق الحكام والأنظمة وحَتَّىٰ الحكام أنفسهم يفعلون ذٰلكَ بأنفسهم زاعمين أنَّ الحاكم مسكين، يختار المسؤول علىٰ أساس الكفاءة فيتحول المسؤول إلىٰ فاسد… وما إلىٰ ذٰلكَ من هٰذا القبيل. وحافظ أسد نفسه مثلاً مرَّة في جلسة مع عدد كبير من المسؤولين، لتكون مادَّة دسمة للنشر، قال: «يا أخي احترنا، نختار النزيه بيطلع حمار ما بيفهم، نختار الكفء فيكون فاسداً… ماذا نفعل؟». ثنائية خطيرة ومقصودة: النَّزيه الشَّريف حمار لا يفهم، والفاسد فهمان وبارع.

السؤال: هل هٰذا الكلام صحيحٌ فعلاً؟ هل يتمُّ اختيار المسؤولين هٰكَذا خبط عشواء أو حسب القدم الوظيفي مثلاً ثمَّ يتفاجأ الحكام بفسادهم؟

مما سبق من أمثلة أشهر من أن يمكن الشَّكُّ فيها لا يمكن القول أبداً بأنَّ الحاكم لا يعرف من يختار وبدقة تفوق الوصف والخيال. أعرف جيداً أنَّ الشَّخص الذي سيصدر قرار تعيينه مسؤولاً يجتمع معه الرئيس شخصيًّا أو رئيس مخابراته ويفتح له دفتره الفاسد ويقرأه أمامه ليقول له: نحن نعرف كلَّ شيءٍ، حَتَّىٰ عندما دخلت إلىٰ الحمام بتاريخ كذا في الساعة كذا ونسيت أن تحمل معك المنشفة كيف تصرفت وكذا وكذا…

المثال الفذ من هٰذه الأمثلة من سوريا. هناك شخص اسمه عبد القادر قدورة سمي أو انتخب رئيساً للبرلمان السوري في عام 1988م، وكان قد نجح في قائمة الحزب عن مدينة دمشق. وكان منه ما يكون من بقية المسؤولين في الفساد والدفاع عن الفساد، فاجتمع أهالي دمشق علىٰ أنَّهُم لن ينتخبوه وسيسقطوه إن ترشح لانتخابات مجلس الشعب. وانتشر ذٰلكَ انتشار النار في الهشيم. ووصل إلىٰ حافظ أسد بكل تأكيد.

في عام 1995م كان موعد انتخابات مجلس الشَّعب وكانت التَّرشيحات وعلىٰ الحزب أن يختار قوائمه في المحافظات، وحَتَّىٰ هٰذه القوائم تعرض علىٰ الرَّئيس قبل صدورها، بل قبل اختبارها إما أن يرسل الرئيس ما يريد إلىٰ القيادة القطريَّة أو يسأله الأمين القطريُّ المساعد بطريقةٍ ما عن رغباته. وقبل أن يتم اختيار قوائم الحزب توجه إليه وفد من القيادة القطريَّة وسأله عن توجهاته في الاختيار، فقال لهم: «لا شيء عندي سوى أنِّي أعطي صوتي لأبي قصي». أبو قصي هو عبد القادر قدورة.

بالعادة تكون توجهاته غير قليلة بهٰذا الشَّكل، ولٰكنَّهُ نكاية بالشَّعب ورغبته واستحقاراً لهذا الشَّعب لم يعط سوى توجُّهٍ واحدٍ هو أنَّهُ يختار من يرفضه الشَّعب كلُّه. وكان عبد القادر قدورة مرفوضاً من أرجاء الشَّعب السُّوري وليس الدِّمشقيين وحسب.

في النَّماذج الثلاثة نحن أمام طريقة واحدة في احتقار خيارات الشَّعب ورغباته واحتقار الشَّعب ذاته جملة وتفصيلاً. هٰذه النماذج الثلاثة كما أشرنا بداية ليست إلا نماذج شهيرة وحسب وأمثالها من الطَّبيعة ذاتها أكثر من أن تحصى، ولا نتكلم عن نماذج من طبائع أُخْرَىٰ في احتقار الشعب وهي أيضاً لا تعد ولا تحصى. ولٰكنَّ هٰذه النماذج الثلاثة السَّابقة تعطيك صورة واضحة لكيفية تعامل الحكام العرب مع رغبات شعوبهم وخياراتها. الأمر أوضح من أن يتمَّ التعليق عليه في حقيقة الأمر. نحن لا نتكلم عن خيارات الشَّعب الخاطئة أو العاجزة عن تقدير الحقيقة في الاقتصاد أو العلاقات الخارجية أو سياسة الدولة في أي مجال… أبداً، نحن نتكلم عن اختيار الحاكم شخصاً للمسؤولية الخيرة في الدولة وهو شخص مكروه من الشَّعب لأنه فاسد وسيء. ومع ذٰلكَ يقول الحاكم بكلِّ برود: ليرفض الشعب كله هٰذا الفاسد فأنا أريده أن يبقى ويواصل فساده.

إذا كانت هٰذه هي سياسة الحكام العرب مع اختيارات شعوبها ورغباتها في هٰذه الأشياء فكيف يمكن أن تكون سياساتهم بالمجمل؟

مهما حاولت أن تتخيل فإنَّك إذا جدَّ الجد ستعلم أن خيالك لا يتمتع بالمرونة الكافية للتحليق في الغرابة. يكفيك أن تستحضر سلوكات هٰذه الأنظمة ممثلة بهؤلاء الحكام تجاه نطالب شعوبهم بالحرية والكرامة والديمقراطية…

الحقيقة المرَّة التي تعكسها هٰذه السلوكات هي أنَّ هٰؤلاء الحكام لهم مهمة محددة هي مخالفة رغبات الشُّعوب العربيَّة وإراداتها والعمل عكس ما تريد الشعوب ليس في محاربة الفساد وحسب بل في كل شيء. تذكر أنَّ الهاجس الأكبر عند الشعوب العربية هو تحرير فلسطين علىٰ سبيل المثال، والحكام العرب مثلما يبعبعون ليل نهار في محاربة الفساد يبعبعون ليل نهار في معاداة إسرائيل، وعندما جدَّ الجد تبيَّن أنَّهُم كلُّهم حماة إسرائيل وليسوا أعداءها. تماماً مثلما تبيَّن أنَّهُم هم صنَّاع الفساد وحماته.

من كتابي

انهيار حياء الأنظمة العربية

الصادر في عام 2019م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى