مقالات

“الاردوغانية”.. كيف تم تفكيك نفوذ الجيش في الدولة والمؤسسات – 10 من 13

جمال سلطان

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

في العام 2007 ، كان الصدام الحقيقي المباشر ، والذي يمثل كسر عظم بين الحكومة المدنية والقيادة العسكرية ، حيث قرر حزب “العدالة والتنمية” الدفع بعبد الله جول لرئاسة الجمهورية ، وهو ما أغضب الجنرالات ، لأن زوجة غول محجبة ، واعتبروا أن هذا السلوك فيه إهانة لتاريخ الجمهورية الكمالية ، وأن النظام العلماني أصبح مهددا ، وبدأ تحريك الشارع من جديد وتهييج الجامعات ، وعقدت محاضرة حاشدة وتاريخية وقتها لأستاذ كبير في العلوم السياسية دعا فيها الجيش أن يقول كلمته والقضاء أن يقول كلمته ، في إشارة واضحة للانقلاب العسكري ، ولوحظ أن هذه المحاضرة كان حاضرا فيها بعض الجنرالات الكبار ، كما كان حاضرا فيها أحد كبار قضاة المحكمة الدستورية العليا ، في مؤشر صريح على ترتيبات جادة للانقلاب ، كما كان رئيس الجمهورية وقتها “أحمد نجدت سيزر” يتحدث علنا عن أن النظام العلماني في خطر ، وأن الحكومة الجديدة تروج ما تدعيه “الإسلام المعتدل” وأن نموذج تركيا هو العلمانية وحدها ، وانتشر في المنابر الإعلامية والجامعات وغيرها كلام تحريضي مكثف على هذه الشاكلة .

في تلك الأجواء المحمومة والساخنة ، أصدرت رئاسة الأركان تحذيرا علنيا للحكومة وحزبها من الإقدام على تلك الخطوة ـ ترشيح جول للرئاسة ـ وأن الجيش لن يسكت على تهديد النظام العلماني للدولة ، كان مثل هذا البيان من رئاسة الجيش سابقا كفيل بإرباك الحكومة وإرعابها وحتى إجبارها على تقديم استقالتها بهدوء ، لكن الرأي العام التركي فوجئ هذه المرة بظهور “اردوغان” بجراءة غير معهودة في السياسيين الأتراك وقتها ، لكي يوبخ قيادة الأركان ـ علنا ـ ويدعوها لاحترام الدولة المدنية والدستور والإرادة الشعبية ، ويوجه لها ما يشبه الأمر بأن لا تتجاوز دورها الوطني المحدد دستوريا ، وقال أن ما كان يجري سابقا في تركيا لم يعد ممكنا ولا مقبولا الآن ، كما خرج المتحدث باسم رئيس الوزارة بعده لكي يقول أن رئاسة الأركان هي مؤسسة تتبع الحكومة ، وأن رئيس الأركان دستوريا مسئول أمام رئيس الوزراء عن قراراته وتصرفاته وأن تركيا دولة قانون ودستور وغير مسموح لأي قائد عسكري أن يتجاوز موقعه الدستوري .

كان الرد صاعقا للجنرالات ومفاجئا ، ومبهرا للشعب التركي ، الذي لم يواجه من قبل مثل هذه “المعادلة” في العضلات السياسية بهذه الطريقة ، وبذكاء سياسي لقائد متمرس ، أعلن اردوغان مباشرة الدعوة لانتخابات عامة مبكرة ، في إشارة لاحتكامه إلى الشعب لحسم صراعه مع المؤسسة العسكرية ، وكانت المفاجأة أن فاز اردوغان وحزبه في تلك الانتخابات باكتساح ، وهو ما مثل رسالة إهانة للمؤسسة العسكرية والانقلابيين ، واعتبر أن هذا التصويت هو تصويت لصالح الإجراءات التي اتخذت لحماية الدولة المدنية من تغول الجنرالات ، وأن الشعب هو الذي يختار الحكومة وهو الذي يحاسبها ولا توجد أي جهة أخرى وصية على الشعب واختياره ، كما نجح عبد الله غول رئيسا للجمهورية ، وظهرت امرأة محجبة في القصر الجمهوري للمرة الأولى في تاريخ البلاد ، بعد أن كانت غير قادرة على الظهور حتى في مدرسة ثانوية أو جامعة ، فاعتبر ذلك تصويتا شعبيا على ما جرى ، أنهى هيبة الجنرالات وطوى صفحة هيمنتهم على الحياة السياسية .

وقد حاول الجنرالات ـ في العام التالي مباشرة ـ رد الصفعة من خلال رجالهم في القضاء ، وفي الرابع عشر من مارس عام 2008 تم رفع دعوى قضائية، بالمحكمة الدستورية العليا في تركيا، تطالب بإغلاق الحزب، وحرمان قياداته من العمل السياسي لمدة 5 سنين. وحدث انقسام داخل المحكمة ، لأنه لم يكن هناك أي مبرر واضح أو سبب لفعل ذلك ، كما كان مثل هذا القرار سيكون فضيحة للمحكمة نفسها أمام الشعب ، والحزب يحظى بشعبية طاغية ، ويحقق إنجازات حقيقية هائلة في البلاد ، وفي النهاية نجا الحزب من الحل في المحكمة بفارق صوت واحد ، حيث صوت خمسة أعضاء بالمحكمة مع حل الحزب والحكومة وعزل سبعين من قياداته عن العمل السياسي على رأسهم اردوغان ، بينما رفض القرار ستة من أعضاء المحكمة ، والجدير بالذكر أن الجنرالات كان لهم مقعدان في المحكمة الدستورية العليا ، وهو الأمر الذي نجح اردوغان في إلغائه بعد ذلك في تعديلات دستورية .

بدأ ردوغان ـ منذ فترة طويلة ـ التخطيط لعمليات حفر أنفاق سياسية ودستورية أمام العسكر ، لتقليل فرصة تهديدهم للديمقراطية والدولة المدنية ، وتقليم أظافرهم التي يروعون بها الحياة المدنية ، وبدأ ينسج في صبر غريب خططا طويلة المدى ، أهمها ربط تركيا باتفاق أوربي يمهد لانضمامها للاتحاد الأوربي ، وفي أهم شروط عضوية الاتحاد الأوربي عدم تدخل العسكريين في الحياة السياسية ، فشكل ذلك درعا جيدا استفاد منه ، ثم بدأ في “تجريف” تغلغل الجيش في مفاصل الدولة ، فعدل نصا دستوريا كان يمنح الجيش حق حماية الديمقراطية والدولة العلمانية ، وكان هذا النص هو الثغرة التي يدخل من خلالها الجيش كل مرة للانقلاب على الديمقراطية وحل الأحزاب والسيطرة على مقاليد الحكم بحجة حماية الدولة العلمانية (هذا النص حرفيا وضعه الجيش المصري في التعديلات الدستورية الأخيرة) ، ثم أعاد اردوغان تشكيل المحكمة الدستورية بما يلغي وجود اثنين من القضاة العسكريين في أعضائها ، لتكون محكمة مدنية خالصة ، ثم أعاد تشكيل مجلس الأمن القومي لتكون الغلبة فيه للمدنيين وليس للعسكريين ، ثم جعل اجتماعات المجلس ومجلس الشورى العسكري تتم في مقر رئاسة الوزراء وليس مقر قيادة أركان الجيش لترسيخ فكرة أن القرار هو قرار الحكومة المدنية المنتخبة وليس قرار الجنرالات .

كان أخطر خطوة أقدم عليها اردوغان لتحجيم خطورة المؤسسة العسكرية على الحياة المدنية والإرادة الشعبية ، هو الاستفتاء الشعبي التاريخي على حزمة تعديلات دستورية في 12 سبتمبر 2010 طالت 28 مادة في الدستور، كانت بمثابة نهاية نظام الوِصاية العسكرية على الحكم المدني في تركيا، واشتملت التعديلات على مادة نصت على إمكانية محاكمة عسكريين لا يزالون في الخِـدمة امام محاكم مدنية في قضايا لا علاقة لها بالسلوك العسكري داخل الجيش، وهذه كانت سابِـقة في تاريخ تركيا الحديثة، وبمُـوجبها أمكن اعتقال العشرات من الضبّـاط وتقديمهم للمحاكمة، ومن بينهم جنرالات كبار ليقفوا أمام قضاة مدنيين ، وقد أدين بعضهم بالفعل .
استفتاء 12 سبتمبر كان فصل النهاية لنفوذ العسكر في السياسة التركية، لذا عندما قدّم رئيس الأركان وقادة القوات المسلحة الآخرين استقالات جماعية مفاجئة وخطيرة في نهاية شهر يوليو 2011، قبلها اردوغان على الفور ، وبعدها بأيام قليلة ، في 4 أغسطس كان رئيس الجمهورية عبد الله جول يصدق على قرارات اردوغان تعيين الجنرال نجدت اوزال رئيسا للقوات المسلحة كما وافق على تعيين قادة جدد لكل من القوات البرية والبحرية والجوية .

قبل اردوغان كان كبار السياسيين والوزراء ورئيس الوزراء ينتظرون رأي الجيش لاتخاذ أي قرار ، بعد اردوغان انتهت تلك المعادلة ، وأصبح القرار سياسيا مدنيا خالصا ، لرئيس الوزراء المدني المنتخب ، ليعزز الزعيم السياسي “التاريخي” مدنية الدولة التركية ، ويضعها في مصاف الدول الآمنة في ديمقراطيتها واستقرارها السياسي ، فالحكم للشعب ، ولا وصاية لأحد على قرار الشعب واختياراته ، والجيش مكانه في ثكناته أو على الحدود لحماية التراب الوطني .
لم يكتف اردوغان بذلك ، بل قرر معاقبة كل جنرال شارك في انقلاب سابقا بأثر رجعي ، فدعا القضاء التركي إلى فتح ملفات الانقلابات العسكرية السابقة ، معتبرا أنها خيانة للوطن كله وليس لحزب أو رئيس ، وأنها جرائم خيانة وطنية لا تسقط بالتقادم ، وبالفعل عقدت محاكمات لكنعان افرين وضباط انقلاب 1980 الدموي ، وانتهت بالحكم بإدانتهم وسجن قائد الانقلاب 25 عاما (عقوبة الإعدام غير موجودة في القانون التركي) ، رغم أنهم كانوا قد طعنوا في السن ، لكنها كان خطوة رمزية تهدف لتعزيز ثقافة الرفض الشعبي لفكرة الانقلابات العسكرية وإدانتها أخلاقيا وقضائيا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى