بحوث ودراسات

فتح القسطنطينية – 8 من 11

أ.د. أحمد رشاد

أكاديمي مصري
عرض مقالات الكاتب

المشهد السابع

القلاع الخشبية المتحركة

تفتقت عبقرية الفاتح في أفكاره وأساليبه المتعددة التي طالما يفاجئ بها العدو ولأمعيته المذهلة في فن الابتكار والتجديد في الوسائل الحربية التي تتفق مع طبيعة المرحلة الحربية ، وفى نفس الوقت لم يفت عضده إزاء ما تكبده الجيش الإسلامي في حرب الأنفاق من جهد عظيم واستشهاد أعداد كبيرة من الجند فلم ييأس الفاتح ولم ييأس العثمانيون في العمل الدؤوب من أجل الفتح وتحقيق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفى الوقت الذى كان فيه أهل القسطنطينية قد أصيبوا بحالة من الانهيار والدهشة للأنفاق فنجد الفاتح يقدم ابتكارا جديدا يضيف فزعا إلى فزعهم وخوفا إلى خوفهم ومزيداً من الانهيار والدهشة . فقد فوجئ أهل القسطنطينية الذين يعيشون في حالة من الرعب الدائم خوفا من أن تنشق الأرض ويخرج عليهم المجاهدون المسلمون ، فوجئوا بأن السماء هي التي تمطرهم بالقذائف والسهام المدمرة .

    صنع العثمانيون قلعة خشبية ضخمة شامخة متحركة تتكون من ثلاثة أدوار وبارتفاع أعلى من السور الخارجي وكسيت بالدروع والجلود السميكة المبللة بالماء لتمنع عنها النيران والنبال ، وكان لارتفاع هذه القلعة أن منعت المدافع البيزنطية أن تقذف قذائفها عليها  من فوق السور لأن هذا يؤدى إلى اهتزاز وربما سقوط أجزاء كبيرة من الأسوار عند إطلاقها بسبب الصوت القوى .

وكان في كل طبقة من طبقات هذه القلعة عدد من الجنود يحملون القذائف ومعدات القتال المختلفة ، وتحمل في أسفلها التراب والأخشاب والحجارة لردم الخنادق ، وفى أعلاها سلالم من الحبال في أطرافها كلاليب يلقونها على أسوار القسطنطينية فتنشب فيه  ويمر عليها الجند وكأنها القنطرة  بينما النبالة يصوبون نبالهم إلى كل من يظهر رأسه على السور من المدافعين .

أقيمت هذه القلعة تجاه طوب قبو و كان يوجد على الجانب الآخر من السور عدد من أشجع المدافعين البيزنطيين ،  وفى صبيحة يوم  21 مايو 1453 م وجد الجنود البيزنطيين أمامهم قلعة خشبية لم يشهدوها من قبل حتى قال عنها المؤرخ البندقي باربارو المعاصر لهذه الأحداث والذى رأى بعينه هذه القلعة : لو اجتمع جميع نصارى القسطنطينية على أن يصنعوا مثل هذه القلعة لما صنعوها في شهر وقد صنعها المسلمون في ليلة واحدة بل في أقل من أربع ساعات  . وأخذت القلعة تقذف قذائفها الحجرية الضخمة  فدكت أحد الأبراج القوية عند طوب قبو ، واقتربت القلعة من سور القسطنطينية ، والمسلمون يرددون الصيحات والشعارات الإسلامية بصوت مدوٍ ، فاندفع المسلمون نحو هذه الثغرة وتسلق الكثير منهم السور بالسلالم . وقد أرهقت هذه القلعة المتحركة الأعداء كثيرا ، مما أثار الرعب في قلوب البيزنطيين  ، مما جعل الإمبراطور يتجه بنفسه لصد تلك القلعة ودفعها عن الأسوار قبل حدوث الكارثة الكبرى وهى سقوط القسطنطينية . وما كان أمام الإمبراطور وجنوده خيارا غير خيار الاستبسال أمام هذه القلعة العجيبة ، وبالفعل استبسل الإمبراطور وجنوده وأمرهم بإحضار مواد سريعة الاشتعال تحرق كل ما يصادفها ولا يطفئها الماء .  ولم يكن أمام البيزنطيين إلا قذف القلعة بهذه بالنيران بكل ما يستطيعون من قوة حتى تمكنت منها النيران واحترقت ووقعت على الأبراج البيزنطية المجــاورة لها فقتلت من فيها من المدافعين   . ومع ذلك ابتهج قسطنطين وجنوده لسقوط هذه القلعة العملاقة  ، وأظلم الليل فانسحب الجيش العثماني إلى معسكره ،  وبدأ البيزنطيون في إصلاح ما تهدم من السور، وأما السلطان الفاتح  فلم ييأس مما حدث للقلعة الخشبية عندما رآها في صباح اليوم التالي كومة من تــراب وقال لمهندسه مصلح الدين  بعد أن ابتسم ابتسامته المليئة بالعزم والتصميم والمثابرة والصمود : ” غدًا نصــنع أربعًا أخرى ”   .

 أما حالة الجيش البيزنطي وأهل القسطنطينية كانوا في رعب وفزع دائم وإرهاق نفسى وجسدي مما أصابهم من كل جهة من جهات الأرض ، فهذه المدافع تضرب من الأرض الأسوار الضخمة وهذه السفن تضرب من البحر فلم يتوقع أهلها منى مكان تأتيهم الضربات الإسلامية هل من البحر أم من البر أم من تحت الأرض عبر الأنفاق أم من السماء من خلال القلعة الخشبية العالية ، كل هذه الفنون القتالية التي قام بها الجنود المسلمون قد أرهقتهم وأوهنت عزائمهم وفتر نشاطهم وكلت أيديهم عن إصلاح الأسوار التي كانت تسقط في مواضع متعددة .

وإن كان قد ملأ قلوب البيزنطيين الرعب والفزع  ظنوا أنهن وجدوا ضالتهم  في يوم 23 مايو 1453 م حينما وجدوا السفينة التي تنكرت أمام جيش المسلمين من قبل قد دخلت بنفس الحيلة السابقة إلى القرن الذهبي وظنوا أن بها النجاة وقد أتو بأخبار المدد الأوربي من الجيش والعتاد والمؤن ، واستقبلها أهل القسطنطينية بفرح بالغ وسعادة غامرة أملا أن تحمل هذه السفينة أخبار النجاة من جيش المسلمين ، ولكن خاب ظنهم حينما أخبر الرحالة إمبراطورهم بأنهم بحثوا شرقا وغربا وطولا وعرضا في بحر الأرخبيل ولم يجدوا ولو سفينة واحدة من سفن البندقية التي علق عليها أهل القسطنطينية أمل مساعدتهم ضد المسلمين الذين ملكوا كل أسباب الإصرار على الفتح والنصر المبين ، فما كان أمام الإمبراطور إلا أن طأطأ رأسه واغرورقت عيناه  وبدأ يتضرع إلى الله بأن ينقذ هذه المدينة المقدسة ، ولم يكن قسطنطين أحسن حالا من شعبه الذى آلمه الحزن الشديد حينما علموا من البحارة عدم وجود المدد من السفن البندقية ، وأما بطريرك المدينة فاعتزل البطريركية وفضل الخلوة في الأديرة حتى نهاية حياته . وحتى نائب البطريك يأس من انقاذ المدينة وعرض على الإمبراطور أن يخرج من المدينة وينقذ حياته ، وكان لهذا العرض أسوأ الأثر على الإمبراطور الذى خر مغشيا عليه وبعدما أفاق عرضوا عليه العرض نفسه ولكنه رفض تماما وفضل البقاء في مدينته ليشارك شعبه في محنته ومصيره مهما كانت الظـــــــــروف والنتائج . وهذا كله إن دل على شيء فإنما يدل على حالة اليأس والكآبة والحزن والإعياء والجهد الذى ساد كل من في داخل القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية .

 وفى يوم 16 جمادى الأولى 857 هـ ـ  25/5/1453 م ارتعدت السماء وأمطرت مطرا شديدا عاق السائر عن مسيره  ،  وكان المطر مصحوبا ببعض الصواعق وسقط إحدى هذه الصواعق على كنيسة أيا صوفيا  فتشاءم البطريق وازداد الناس فزعا ورعبا ، واعتقدوا أن الله قد تخلى عن مدينتهم  وأنها ستسقط في أيدى العثمانيين   . مما جعل عدداً من رجال الكنيسة يعرضون على الإمبراطور الفرار من المدينة لأنها وشيكة السقوط في يد العدو ، فغشى عليه وسقط إلى الأرض ثم قال لهم بعدما أفاق : اذا كانت هذه إرادة الله ، فأين نفر من غضبه ؟ سأظل هنا وأموت معكم  .   

  وفى 17 جمادى الأولى 857 هـ ـ  في 26/5/1453 م خرج عدد من النساء والرجال حملوا معهم تمثال مريــم العذراء ( بزعمهم ) يتباركون ويتضرعون ويستغيثون إلي مريم العذراء أن تنصرهم على أعدائهم ، وبقدر الله سقط هذا التمثال من أيديهم ووقع على الأرض  وتحطم ، فرأوا في ذلك شؤما ونذيرا  بالخطر المحدق على القسطنطينية وأيقنوا أن القسطنطينية ستسقط في أيدى المسلمين لامحالة .

وفى هذه الظروف الصعبة لسكان وجنود القسطنطينية  والأماني في إنقاذ هذه المدينة وأخذت الإشاعات تهيمن على سكان القسطنطينية مما أضعف مقاومة المدافعين عنها وزادت الأماني وأحلام اليقظة ، وردد بعض البيزنطيين نبوءة انتشرت بينهم ، وهى أن الأتراك إذا انتصروا سيزحفون حتى يبلغوا أيا صوفيا وهناك يهبط عليهم ملك من السماء يهزمهم ويردهم على أعقابهم خائبين، ويبدو أن هذه النبوءة قد ترسخت في قلوبهم بطريقة عملية ولها تأصيل تاريخي عندهم حيث أنهم يذكرون كيف حاصر السلطان بايزيـد الأول [ الصاعقة ] القسطنطينية في عام 1402 م وكاد أن يدخلها بعد أن كانت الإمبراطورية قد انحسرت في عاصمتها وسيطر السلطان العثماني على بحر مرمرمة وتحكم في الدردنيل وأخذ السلطان يفاوض الإمبراطور البيزنطي لتسليم المدينة سلما إلى المسلمين ،   ويبدو أن الساعة الأخيرة للمدينة المحاصرة لم تكن قد حانت بعد بالرغم من أن السكان آنذاك كادوا يشرفون على الموت جوعًا ويلقون بأنفسهم من على الأسوار ويلجؤون إلى العثمانيين للحصول على وجبة طعام   ،  فقد وصلت قوات المغول بقيادة تيمور لنك إلى داخل الأراضي العثمانية وأخذت تعيث فسادًا فاضطر السلطان بايزيد إلى سحب قواته وفك الحصار عن القسطنطينية لمواجهة المغول   .

وكذلك كانوا يذكرون أنه في عام 1422 م  هاجم السلطان مراد الثاني القسطنطينية وكاد أن يدخلها بعد أن دك أسوارها، لكن ثورة جرت في الولايات البلقانية أرغمته على رفع الحصار .

هكذا كانت الحال في القسطنطينية في أيامها الأخيرة تهيمن على سكانها أوهام وإشاعات وأماني ونبوءات   . 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى