دين ودنيا

تأملات قرآنية مع شيخ الإسلام ابن تيمية (16)

الدكتور حسين القحطاني

عرض مقالات الكاتب

{إن الله يقيم الدّولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدّولة الظالمة وإن كانت مسلمة} • قال الله تبارك وتعالى : [إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون] . “النحل” تعتبر هذه الآية الفذّة الجامعة لجميع الأوامر والنواهي من أهم قواعد الشريعة وأصولها ، فيها الحياة الكريمة الكاملة للمؤمنين بمفرداتها الدقيقة ، وفيها صلاح لجميع البشرية في كل زمان ومكان ، لأنها توضّح تعامل الحاكم والمحكوم مع الخلق بالعدل التام والإحسان الكامل ، فيؤدّي الكل ما عليه من الحقوق على الوجه المشروع له ، سواء كان على الولاية الكبرى ، أو ولاية القضاء ، أو ولاية النّواب ، أو ولاية الأسرة ، أو دون ذلك ، وتشتمل هذه الآية أيضا على بذل النصيحة ، وترك الخيانة ، والبعد عن المظالم ، وإعطاء الحق لكل مستحق ، وفيها أيضا تحذير من البغي ، لأن البغي ضرره يتعدّى على الآخرين . فجمعت هذه الآية العظيمة (القواعد العامة والأصول الثّابتة) لشريعة الإسلام ، فجاء الأمر فيها بثلاثة : (العدل – الإحسان – وإيتاء الأقرباء) ، وجاء النهي فيها عن ثلاثة : (الفحشاء – المنكر – البغي) ، وفي الحقيقة أن الأمر في الآية الكريمة بشيئين : (العدل والإحسان) وتكملة ذلك بصلة القرابة ، لأن العدل والإحسان يجب أو يُستحب أن يكون مع القريب والبعيد ، وفي الحقيقة أيضا أن النهي عن شيئين : (الفحشاء والمنكر) وتكملة ذلك بعدم البغي ، لأن البغي من المنكرات . وخُتمت الآية بالوعظ : وهو كلام يُقصد منه إبعاد المخاطب به عن الفساد ، وتحريضه على الصلاح ، فيكون الخطاب موجّه للمسلمين ، لأن الموعظة تكون لمن هو محتاج للكمال ، ولهذا قرنها بقوله : (لعلكم تذكرون) أي : لعلكم تنتفعون بهذه الموعظة التي اشتملت على الأمر بالمحاسن الكثيرة والنهي عن المساوئ العديدة . فالعدل والإنصاف في الآية أيضا يشمل حق الله تعالى بتوحيد العبادة له وحده ، وعدم الإشراك به ، وعدم القول عليه بغير علم ، ويشمل أيضا حق العبيد بإعطاء كلّ ذي حق حقه من غير إفراط ولا تفريط ، وكذلك الإحسان يشمل حق الله تعالى بعبادته على الوجه المشروع ، وأداء فرائضه وأحكامه بالإخلاص التام والتسليم الكامل ، ويشمل الإحسان أيضا حق العباد بالتعامل الحسن وبذل النصيحة ، وأما تخصيص القرابة في الآية فمن تمام العدل والإحسان ، لأن حقوقهم قد تهضم ، ولأنهم أكثر خلطة من غيرهم ، وعدم العدل والإحسان إليهم له عواقب وخيمة في الدنيا والاخرة . وأما النهي عن الفواحش والمنكرات فيشمل كلّ الذّنوب والمعاصي ، وكلّ ما استفحشه وأنكره الشرع والطبع السليم ، وأما تخصيص النهي عن البغي في الآية ، لأن فيه عدوان على الخلق في الأعراض والأموال والدّماء . والله سبحانه وتعالى بهذه الأوامر والنّواهي يعظكم لعلكم تذكرون العواقب الحسنة والسيئة ، ولكي تسعدوا في الدّارين سعادة لا شقاوة فيها . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “أمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم ، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق ، وإن لم يُشترك في إثم . ولهذا قيل : إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ولا يقيم الظّالمة وإن كانت مسلمة . ويقال : الدنيا تدوم مع العدل والكفر ، ولا تدوم مع الظلم والإسلام … فالباغي يُصرع في الدنيا ، وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة . وذلك أن العدل نظام كل شيء ، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت ، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق ، ومتى لم تقم بالعدل لم تقم ، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة . فالنفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه والحسد له والتعدّي عليه في حقه ، وفيها داعي الظلم لنفسها بتناول الشهوات القبيحة : كالزنا وأكل الخبائث ، فهي قد تظلم من لا يظلمها ، وتؤثر هذه الشهوات وإن لم يفعلها غيرها . فإذا رأت نظراءها قد ظلموا أو تناولوا هذه الشهوات ، صار داعي هذه الشهوات أو الظلم فيها أعظم بكثير – وقد تصبر – ويهيج ذلك لها من بغض ذلك الغير وحسده ، وطلب عقابه ، وزوال الخير عنه ، ما لم يكن فيها قبل ذلك ، ولها حجّة عند نفسها من جهة العقل والدين ، بكون ذلك الغير قد ظلم نفسه والمسلمين ، وأن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر واجب ، والجهاد على ذلك من الدين . والناس هنا ثلاثة أقسام : قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم ، فلا يرضون إلا بما يُعطونه ، ولا يغضبون إلا لما يُحرمونه . فإذا أُعطي أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال أو الحرام ، زال غضبه ، وحصل رضاه ، وصار الأمر الذي كان عنده منكرا : – ينهى عنه ، ويعاقب عليه ، ويذم صاحبه ، ويغضب عليه – مرضياً عنه ، وصار فاعلاً له ، وشريكاً فيه ، ومعاوناً عليه ، ومعادياً لمن ينهى عنه ، وينكر عليه . وهذا غالب في بني آدم : يرى الإنسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه إلا الله . وسببه أن الإنسان ظلوم جهول ، فلذلك لا يعدل ، بل ربما كان ظالما في الحالين : يرى قوماً ينكرون على المتولّي ظلمه لرعيته واعتداءه عليهم ، فيرضي أولئك المنكرين ببعض الشيء من منصب أو مال ، فينقلبون أعواناً له ، وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الإنكار عليه . وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزني ويسمع الملاهي ، حتى يُدخلوا أحدهم معهم في ذلك ، أو يرضوه ببعض ذلك ، فتراه حينئذ قد صار عوناً لهم . وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الحال التي كانوا عليها ، وقد يعودون إلى ما هو دون ذلك أو نظيره . وقوم يقومون قومةً ديانةً صحيحة : يكونون في ذلك مخلصين لله ، مصلحين فيما عملوه ، ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أُوذوا . فهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهم من خير أمة أخرجت للناس : يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله . وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا ، وهم غالب المؤمنين . فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة وإرادة المعصية ، وربما غلب هذا تارة وهذا تارة . وهذه القسمة الثّلاثية ، كما قيل : الأنفس ثلاث : أمّارة ومطمئنّة ولوّامة . فالأوّلون هم أهل الأنفس الأمّارة التي تأمرهم بالسوء . والأوسطون هم أهل النفوس المطمئنّة … والآخرون هم أهل النفوس اللوّامة التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه ، وتتلوّم تارة كذا ، وتارة كذا ، أو تخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً . وهؤلاء يرجى أن يتوب عليهم إذا اعترفوا بذنوبهم” .(الاستقامة)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى