حقوق وحريات

إضاءات سياسية (48)

هيثم المالح

عرض مقالات الكاتب

من عهد حافظ الأسد إلى عهد بشار :

مرض ازدواجية المعايير والعدوى منه

12/01/2008

تعاني دول كبرى في العالم الغربي من مرض ازدواجية المعايير ، فهي تتبنى هوى ربيبتها إسرائيل في فلسطين وكأنها تتغنى بقول الشاعر العربي أحمد شوقي :

ليلى على دينِ قيسٍ

فحيث مال تميلُ

وكل ما سرَّ قيســـــاً

فعند ليلى جميلُ

ولا ترى هذه الدول الجرائم التي ترتكبها ربيبتها في فلسطين ولبنان ، بل وتغذيها وتمدها بكل وسائل الحياة من عسكرية ومدنية ، وإذا أردنا تعداد حالات الازدواجية فقد نحتاج إلى صفحات وصفحات لا تنتهي لكثرتها ، ولكن سأضرب أمثلة بارزة على هذه الازدواجية !!

فالمأساة الفلسطينية التي خلقتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بخلقها كياناً دخيلاً أدى لطرد الملايين من بلدهم ، ولا زالت هذه المأساة دون حل منذ ستين عاماً بسبب التعنت الصهيوني وعنصريته ، بينما يرى الغرب في هذه الدولة المغتصبة أنها محل اعتداء ومن حقها أن تمارس الدفاع عن نفسها بما تحدثه من قتل ودمار وقمع واعتقال في فلسطين العربية وشعبها المقهور ، ولم يلفت نظر هذا الغرب العنصرية المفرطة التي تمارسها دولة العدوان هذه .

ومشكلة كشمير المعلقة منذ عقود من الزمن ، لا يصار إلى حلها برغم وجود مبدأ تقرير المصير في الأمم المتحدة ..

وقضية الشيشان التي اعتبرها البعض شأناً داخلياً لروسيا ، بغرض مفاوضات تجري بين الطرفين من أجل كسب معين ، وفي المقابل سعى الغرب بكل ثقله لخلق دولة اسمها تيمور الشرقية سلخها عن إندونيسيا بزمن قياسي قصير في حين لا يتعدى سكانها مئات الألوف من الناس ..

القوة العظمى في العالم اليوم وهي الولايات المتحدة الأمريكية ، تنادي بالويل والثبور وعظائم الأمور حين تتهم إيران بأنها تمد المقاومين العراقيين بأسلحة ومتفجرات لقتل الجنود الأمريكيين ، وهو عمل مطلوب ومشرف لإيران أن تدعم جيرانها في مقاومة الاحتلال ، في حين أنها تمد العدو الصهيوني بأعتى الأسلحة المسموحة وغير المسموحة بل والمحرمة دولياً لقتل الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم دون تمييز ولممارسة تدمير كامل للبنى الفوقية والتحتية ، فهي أي -الولايات المتحدة الأمريكية- ترى الشعرة في عين غيرها في حين أنها لا ترى جذع الشجرة في عينها ..

مؤخراً هبَّ الغرب على برويز مشرف رئيس الباكستان مطالباً إياه بإلغاء حالة الطوارئ التي أعلنها لشهر واحد فقط ، وبالسماح للمعارضين لنظامه بالعودة إلى بلدهم ، بينما خرس ويخرس هذا الغرب عن حالة الطوارئ المعلنة في أرجاء كثيرة من عالمنا الاستبدادي ..

أقول حين أستعرض في ذهني القوائم التي لا تنتهي من الازدواجية في المعايير الغربية والتي تتصدرها عن جدارة ، الإدارة الأمريكية ، وكذلك النفاق الغربي الذي لا حدود له ، حين أستعرض ذلك أصاب بالذهول ولا أرى كيف يمكن لهؤلاء الذين يبيعوننا الشعارات البراقة أن يتنكبوا لهذه الشعارات ..

فإذا كنت أصنف بعض دول الغرب في خانة الأعداء مثلاً فماذا عساي أن أصنف حكوماتنا العربية !؟ وسأضرب أمثلة لما يجري في بلدنا على أرض الواقع لكي أقارن بين الشعارات والتطبيق ..

في أواخر السبعينات قال الرئيس الراحل حافظ الأسد في إحدى خطبه (لا أريد لأحد أن يسكت عن الخطأ ولا أن يتستر على العيوب والنواقص) وهو ما تلقفته “النقابات العلمية وعلى رأسها نقابة المحامين” فدعت إلى عقد هيئاتها العامة واتخذت قرارات تتعلق بالحريات العامة وحقوق الإنسان ومكافحة الفساد ، إلا أن رد السلطة على ذلك كان حل النقابات العلمية ، محامين ، أطباء ، صيادلة ، ومهندسين ، والزجّ بالعديد من النقابيين في السجون حيث قضوا مدداً متفاوتة وصل بعضها إلى أكثر من عشر سنين ..

حين تسلم الرئيس بشار الأسد الحكم بوصفه رئيساً للجمهورية ، ألقى خطبة القسم وكان مما قاله :

“فالمجتمع هو الطريق التي يسير عليها التطوير في حقوله العديدة .. فإذا كانت هذه الطريق غير صالحة تعثر التطوير وتأخر أو توقف .. وهذا بمفهوم النسبي يعني التراجع إلى الوراء .. وهذه إحدى الصعوبات الموجودة في واقعنا .. ودراسة هذا الواقع تحتاج إلى التركيز على المعوقات التي تبقيه على حاله دون تغيير إلى الأفضل .. وهذا بحاجة إلى مشاركة فعالة من كل الجهات خارج إطار الدولة وداخله كي يساهم كل الفئات والشرائح في إيجاد الحلول” .

“وهو منطق التعاون والانفتاح على الآخرين وهو لا ينفصل عن الفكر الديمقراطي بل يتقاطع معه في مواقع عديدة .. وهذا يعني أن امتلاك الفكر الديمقراطي يعزز الفكر والعمل المؤسساتي .. فإلى أي مدى نحن ديموقراطيون وما هي الدلائل على وجود الديمقراطية أو عدمها ، هل هي في الانتخاب ؟ أم في حرية النشر ؟ أم في حرية الكلام ؟ أم في غيرها من الحريات والحقوق ؟ أقول ولا واحدة من كل ذلك .. فهذه الحقوق وغيرها ليست الديمقراطية بل هي ممارسات ديمقراطية ونتائج لها وهي تنبني جميعها على فكر ديمقراطي وهذا الفكر يستند على أساس قبول الرأي الآخر ، وهو طريق ذو اتجاهين حتماً وبشكل أكيد أي ما يحق لي يحق للآخرين ، وعندما يتحول الطريق باتجاه واحد يتحول إلى أنانية وفردية .. أي لا نقول يحق لنا كذا أو كذا بل يجب أن نقول يحق للآخرين حقوق معينة ، فإذا كان هذا الحق يجوز للآخرين من وجهة نظرنا أصبح لنا الحق نفسه” .

لم يمض وقت طويل على هذا الكلام حتى بدأت عجلة قوى القمع تتحرك لاعتقال المواطنين دون حجة قانونية ، حتى تجاوز عدد المعتقلين نحواً من ثلاثة آلاف معتقل يتوزعون على سجون الأجهزة الأمنية التي تتجاوز الخمسة عشر فرعاً ، وكان جلُّ المعتقلين من التيار الإسلامي ، ومؤخراً طالت الاعتقالات ناشطين سياسيين في الشأن العام من المنتظمين في إعلان دمشق وآخرين غيرهم ، وفي الجانب الآخر لاحقت الأجهزة صالونات (منتديات) كانت تمارس نشر الفكر الديمقراطي في كل نواحيه فكان أن أغلقت هذه الصالونات وكان آخرها منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي ، كما لوحقت جميع منظمات حقوق الإنسان ، وتم منع أي اجتماع لهيئاتها العامة واستمر التضييق على أعضائها بمنع بعضهم من السفر ، ومهاجمة مقار بعضها ، وكذلك منع في هذه المرحلة أي اعتصام سلمي بمناسبة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ..

في الجانب الخارجي يؤيد النظام السوري المعارضة اللبنانية ، كما دعم حزب الله في حربه العام الماضي مع دولة العدوان إسرائيل ، ونحن معه في ذلك ، وسبق أن سطرت رسالة تأييد إلى السيد حسن نصر الله في لبنان ، إلا أنه “أي النظام السوري” لا يسمح لأي حراك سياسي معارض له في الداخل ، كما لا أظنه يسمح بقيام مقاومة مسلحة في الجولان لإسرائيل ، فأية معايير هذه التي ينتهجها ؟

في الثمانينات من أيام الراحل حافظ الأسد ، اعتقلت قطعات من الجيش السوري في لبنان بعض الطيارين الإسرائيليين الذين قصفوا أشقائنا هناك ، فجاء القس الأمريكي جيسي جاكسون متوسطاً وشفع لهم مما أدى لإطلاق سراح هؤلاء وعادوا إلى حيث أتوا ، وفي هذه الأيام تم التوسط من أجل إطلاق سراح معتقلي إعلان دمشق إلا أن الوساطة رفضت ولا زال المعتقلون السبعة في السجن ..

من جهة أخرى يمارس الشيعة الإيرانيون كامل نشاطهم في التبشير وبناء الحوزات في المجتمعات السنية ، وعقد الاجتماعات بهدف تحويل السنة إلى شيعة ، في حين تمنع الأجهزة الأمنية أي نشاط للسنة الذين يشكلون الكتلة الكبيرة في سوريا ، ودون الدخول في خلاف عقدي أو طائفي ، والتي لا تنسجم مع توجهاتي أصلاً ، إلا أنني أثير الموضوع لجهة ازدواجية المعايير وليس من منطلق طائفي أو إثني ..

ومع اعتقادي أن سلوك أسلوب التبشير الذي يمارس من قبل الإخوة الشيعة الإيرانيين لا يبعد عن الأسلوب الذي تمارسه الإرساليات التبشيرية التي تأتينا من الغرب ، وهو أسلوب مرفوض ، فأن يغير المسلم مذهبه أمر متروك لقناعته الشخصية ، ولا يجوز أن يتم بواسطة المال أو استغلال الضعف أو الفقر أو المرض ، كما لا أرى التغيير المذهبي الذي يجعل المسلم الشيعي في سوريا يتبع مرجعية خارجية ، وكل ذلك مع احترامي لجميع المذاهب السنية والشيعية إلا أن ممارسة ازدواجية المعايير هي محل النقد ..

أن من يكون بيته من زجاج لا يجوز له أن يرمي الناس بالحجارة ، لذلك أنني أدعو إلى تحصين بيتنا الداخلي ، وإعادة تقويم مسارنا السياسي والأمني حتى لا نقع في مطبات الآخرين ، كما أدعو السلطات في سوريا للانفتاح على شعبها وطي صفحة الماضي ، إذا كنا نريد أن نقف وقفة رجل واحد في مواجهة المؤامرات التي تحاك لنا ، كما أتوجه بالنداء الخالص إلى القيادة الإيرانية كي تسعى لوقف مسألة التبشير التي يمارسها دعاة إيرانيون بين أبناء السنة ، إذا كانوا يعتقدون بأن السنة مسلمون مثلهم ، حفاظاً على روابط الإخوة ومنعاً من حدوث أي شرخ في الجدار الإسلامي ..

والله من وراء القصد ..

العدالة والقانون

آذار/مارس 2008

بتاريخ 22 حزيران/يونيو 1949 أصدر مجلس وزراء النظام العسكري الأول الذي اغتصب السلطة وألغى الدستور القرار التالي :

قرار مجلس الوزراء رقم (283)

درس مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 22 حزيران/يونيو 1949 مشروع قانون العقوبات الذي وضعته وزارة العدلية وبعد المذاكرة قرر الموافقة عليه .

دمشق في 26 شعبان 1368ﻫ و22 حزيران/يونيو 1949م

وزير المعارف والصحة والإسعاف العام خليل مردم بكنائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية عادل أرسلانالقائد العام للجيش والقوات المسلحة رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الوطني والداخلية الزعيم حسني الزعيم
وزير الأشغال العامة فتح الله صقالوزير الزراعة نوري إيبشوزير المالية والاقتصاد الوطني حسن جبارةوزير العدلية أسعد الكوراني

عقب ذلك صدر المرسوم التشريعي رقم (148) بذات التاريخ بتنفيذ قانون العقوبات المعمول به حالياً في سوريا ، وكذلك كان حال القانون المدني الذي صدر بالمرسوم (84) تاريخ 16/05/1949 وقانون التجارة البرية الذي صدر بمرسوم (149) تاريخ 22/06/1949 موشحة جميعها بتواقيع مجلس الوزراء آنف الذكر .

دام حكم حسني الزعيم أقل من ستة أشهر أصدر خلالها ثلاثة قوانين هامة تؤسس لعلاقات مجتمعية ، جاءت جميعاً في مرحلة ما بعد الاستقلال دون أن تعرض هذه القوانين على أي مجلس تشريعي لمناقشتها وإصدارها ودون أن يعلم بها أحد من المواطنين ليكونوا على بينة مما يرتب لهم .

فالضابط حسني الزعيم الذي ألغى مجلس النواب وصادر أصوات ناخبيه وألغى الدستور ودور الشعب في ممارسة رقابته على السلطة ، وجد بإيحاء من حوله أن تخليد اسمه يتم من خلال إصداره هذه القوانين ففعل ذلك ، دون اكتراث لصالح الشعب وآماله وطموحه وما إذا كانت هذه القوانين تنسجم مع هذه الآمال والطموح .

وكان من أول أعماله إبرام اتفاقية التابلاين المعروفة وهو أول من فاوض دولة العدوان .

وقد حرص صاحب الانقلاب حين إصداره المراسيم آنفة الذكر بتصديرها على الشكل التالي :

(القائد العام للجيش والقوات المسلحة)

رئيس مجلس الوزراء

وزير الدفاع الوطني والداخلية

وهكذا بدأ بلقبه العسكري حتى يوضح أن العسكر هم من يحكم البلد ، وهو ما مهد بعده للأنظمة العسكرية الاستبدادية أن تبسط هيمنتها على البلاد وأضحى المنصب المدني شكلياً حتى لو كان منصباً كبيراً .

لئن كان المفروض أن التشريع يُستمد من عادات الشعب وتقاليده ، إلا أنه مع ذلك يشكل مع الزمن منظومة من القيم تترسخ في المجتمعات ، وبالتالي فحين وضع أي قانون يجب مناقشته في مجالس تمثل الشعب تمثيلاً صحيحاً ، فإذا انعدم الانتخاب الصحيح الحر لهذه المجالس واستند إلى تزوير وشراء للأصوات أو لهيمنة معينة فإن المجلس بالتالي لا يعتبر ممثلاً للشعب تمثيلاً صحيحاً ، وتعتور التشريعات التي تصدر عنه عيوب قد تصل إلى البطلان .

أذكر حين كنت طالباً في كلية الحقوق أني سألت أستاذنا د. رزق الله أنطاكي عن الفرق بين كلمتي  “الإنذار” و”الإعذار” ذلك أن القانون المدني الذي أشرت إليه سابقاً استعمل كلمة “إعذار” بدلاً من كلمة “إنذار” التي كانت مستعملة في مجلة الأحكام العدلية ، فأجابني أستاذنا الفاضل “سل من وضع القانون” في إشارة ساخرة إلى أن القانون وضع من قبل ضابط انقلابي وليس من قبل مجلس نواب يمثل الشعب ، وبالتالي فإن القوانين قد صدرت دون مناقشة كافية .

في الفصل الأول الذي ورد تحت عنوان (في الجنايات الواقعة على أمن الدولة الخارجي) من قانون العقوبات ، وتحت البند /5/ (النيل من هيبة الدولة والشعور القومي) نجد المواد التالية :

المادة /285/

(من قام في سورية في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها بدعاوى ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية عوقب بالاعتقال المؤقت) .

المادة /86/

(يستحق العقوبة نفسها من نقل في سوريا في الأحوال عينها أنباء يعرف أنها كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن توهن نفسية الأمة) .

المادة /87/

(كل سوري يذيع في الخارج وهو على بينة من الأمر أنباء كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن تنال من هيبة الدولة أو من مكانتها المالية يعاقب بالحبس ستة أشهر على الأقل وبغرامة تتراوح بين خمسين وخمسمائة ليرة سورية) .

مما تقدم نرى أن المواد تتحدث عن :

§ إيقاظ النعرات العنصرية والمذهبية .

§ أنباء كاذبة توهن نفسية الأمة .

§ أنباء كاذبة تنال من هيبة الدولة .

نتساءل هنا : من هو الذي يفسر أن ما قام به شخص من الناس يثير النعرات أو ينال من نفسية الأمة أو من هيبة الدولة أو أن أخباره كاذبة ؟

هذه الصيغ الفضفاضة التي وضعت كما قلت سابقاً ، من قبل نظام عسكري استبدادي نسف الدستور واستولى على السلطة  بالقوة ، كرست لمفاهيم عائمة وغير محددة ، ومع الزمن أضحت عبارة عن تفصيلة جاهزة لكل من يدخل سراديب الأجهزة الأمنية معتقلاً حيث توجه إليه نفس التهم التي وردت تحت مفهوم النيل من هيبة الدولة أو نفسية الأمة ، فأين هي هذه الهيبة وأين هي النفسية وما هي حدودهما ، ومن يملك تفسيرهما ؟ كما من يملك الفصل بأن الأنباء التي تحدث عنها شخص من الناس أو إذاعتها هي أنباء كاذبة ، ومن يدقق ذلك ، ومن يملك محاسبة السلطة أو الحكومة فيما تقوم به من أعمال ؟

تحت هذه المفاهيم سيق عدد من معتقلي إعلان دمشق إلى القضاء ووجهت لهم نفس التهمة ، مثل من سيق قبلهم العشرة الذين سموا معتقلي ربيع دمشق وحكم الجميع بنفس التهم التي لا زالت توجه للمعتقلين دون حساب!!

تتكرر المأساة وتمتلئ السجون بمعتقلي الرأي ويعاني هؤلاء ما يعانون من سوء المعاملة والتعذيب الجسدي والنفسي والإهانة وسائر الضروب الحاطَّة من إنسانية الإنسان ، وتدور عجلة الاعتقالات والتهم وكأنها لازمة النظام الذي يجد قضاة جاهزين للحكم بما يملي عليهم بعد أن استُلبت حرية القضاء وفقد القضاة استقلالهم!

ويندب محامون أنفسهم للدفاع عن المتهمين الموهومين فلا يجدون إلا العصي توضع في العجلات ، فلا يتمكنون من ممارسة مهامهم بحرية ولا يجدون عوناً حتى في إطار مهنتهم ، وكما تخضع زيارة الوكلاء إلى موكليهم في السجن إلى تدخل ممثلي النيابة العامة في الزيارة ، وتعلو في ذلك تعليمات مدير السجن على كل تعليمات ، فلقد منعت شخصياً من زيارة موكلين عدة مرات كما منع غيري ولا يزال المحامون في بعض القضايا ذات الطابع الخاص لا يجدون إلا كل عنت في ممارسة مهامهم ، فكيف يمكن للمحامي أن يمارس عمله في جو مشحون بالعراقيل ؟ .

أرخى هذا الوضع بظلاله على الحياة العامة في بلادنا فعسكرة السلطة أدت لإلغاء سيادة القانون وحل محلها التعليمات والبلاغات ، تماهياً مع الحياة العسكرية -نَفِّذْ ثم اِعْتَرِضْ- فعندما يهيمن العسكريون على إدارة الحياة المدنية العامة ، يجري إسقاط المفاهيم العسكرية عليها وتفسد حياة الناس ، ولو أردت أن أضرب أمثلة على ذلك لما وسعتني صفحات ولكن أسوق للقارئ ما يلي :

– السلطات المنفذة للقانون ترفض إنفاذ الأحكام القضائية التي اكتسبت الدرجة القطعية والمندرجة في المفهوم الحقوقي بأنها -عنوان الحقيقة- ، حتى ولو كانت الأحكام لا تمس في جانب منها السلطة ، والتي قد تكون متعلقة بقانون الأحوال الشخصية واستقرار الأسر ، وبذلك تضرب السلطة عرض الحائط بالقانون ، ولقد مارست شخصياً مراجعات لها أول وليس لها آخر لتنفيذ أحكام قضائية ، إلا أنني في كل مرة أجد التعليمات والبلاغات تقف سداً مانعاً من إنفاذ الأحكام .

– تمارس بعض جوانب السلطة منع المواطنين من دخول بعض الأبنية الحكومية ، ويساء إلى المواطنين الذين عليهم الوقوف طويلاً أمام “كوى” أو أمام أبواب الأبنية للسماح بالدخول مع أن هذه الأبنية برمتها ملك للمواطنين .

نعود لنقول أن هذه القوانين ، ومنها قانون العقوبات قد وضعت من قبل أنظمة استبدادية عسكرية بغرض حماية هذه الأنظمة ، ولم تعرض على مجالس تمثل الشعب تمثيلاً صحيحاً ، وإذا كنا فعلاً نريد أن نخرج من هذا التخلف وهذه النصوص الغامضة التي تعطي السلطة صلاحيات غير محدودة لسوق أي معارض إلى زنازين السجون وقمع كل صوت مخالف ، لا بد لنا من إعادة النظر في هذه النصوص وأن تعرض على مجالس نيابية منتخبة انتخاباً حراً ديمقراطياً .

ونشير هنا إلى أمرين هامين في هذا السياق  :

أولاً : أن سائر اجتماعات وزراء الداخلية والإعلام العرب تتم بالإجماع دون تخلف ، في الوقت الذي توضع العصي في العجلات في اجتماعات مؤتمرات القمة .

ثانياً : توافق الجميع على اتفاقية وزراء الداخلية فيما يتعلق بتسليم الرعايا كما توافقوا مؤخراً على وثيقة الإعلام العربي المخجلة .

هذا ما يكمل الصورة التي قدمتها في إطار مفاهيم قانون العقوبات ، والقوانين الاستثنائية التي منها المرسوم التشريعي رقم (14) والذي يبيح في مادته /16/ ارتكاب الجرائم من قبل محققين دون أن تطالهم يد العدالة .

إن المرحلة التي تمر بها أمتنا مرحلة دقيقة وحرجة والمتكالبون عليها كثر وما تتطلبه هذه المرحلة هي حماية حقوق الشعب ، في النواحي القانونية والقضائية ليشعر المواطن أنه فعلاً يتمتع بحقوق المواطنية كاملة وأن القانون يبسط على الجميع حمايته حكاماً ومحكومين وهو ما يؤدي إلى التلاحم الشعبي وتمتين الجبهة الداخلية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى