حقوق وحريات

شهادتي على مذبحة رابعة (1 و2)

د. ممدوح المنير

كاتب وسياسي مصري.
عرض مقالات الكاتب

هذه شهادتي على فض الاعتصام حيث قدّر الله لي أن أكون متواجدًا يومها حتى نهاية عملية الفض و إصابتي برصاصة غادرة من قنّاص في ظهري.

و هي شهادة للأجيال القادمة ليستفيدوا منها في معاركهم في سبيل الحق و العدل و الحرية، لله أولا و لأوطانهم ثانية.

اسمحوا لي بداية أن أتوجه بالتحية لشهدائنا الأبرار، و إلى كل الثوّار و الشرفاء في ارض الوطن و اقول لهم انتم مربط الأمل.

هذا الجيل المنتظر نبت في رحم رابعة الصمود و ارتوى فيها من قيام الليل و صيام النهار، جيل استعذب النوم على الأرض ليبني لأمته طريقا إلى السماء، فسلام ثم ألف سلام على أهل رابعة وشهداء رابعة، سلام لكل رجل و امرأة ، لكل طفل أو شيخ، الذين يتحملون ألم فراق الأحباب وغياهب السجون وزمهرير البرد و جفاء الصاحب و القريب ، في سبيل الله و في سبيل أمتهم .

أقول لكم، أشد على أياديكم و أقبل الأرض تحت نعالكم و أقول أفديكم.

عرفت بموعد الفضّ الثانية عشرة ليلا, كنت وقتها قادمًا من مكان آخر في القاهرة، ودخلت الميدان ليلة الفض نحو منتصف الليل، وتوجهت إلى خيمتي التي أعتصم بها بجوار عمارة المنايفة التي شهدت المذبحة المروعة، وكنت وقتها أستعد للراحة قليلاً من المشوار، ومن إصابتي بنوبة برد شديدة.

وعندما وضعت رأسي على الأرض ونمت بجوار إخواني وأحبتي، جاءني مسئول ميداني في رابعة، وهمس في أذني قائلا “احتمال كبير أن يتمّ الفض اليوم”، فلم اندهش من المعلومة لأننا تعودنا عليها، فقلت له زي (مثل) كل مرة وإلا بجد المرة دي، فقال لي “رصدنا تحرك قوّات كبيرة وضخمة باتجاه الميدان، لكن لا نعلم سيناريو الفض حتى الآن.

قلت له و ما العمل؟ قال لي “سيقف نصف المعتصمين على البوابات للتأمين، لمواجهة أي طارئ، و ينام النصف الآخر حتى الصباح (صلاة الفجر طبعا) لأن هناك مظاهرات أمام الوزارات التي استلمت عملها في حكومة الانقلاب.

فقلت له متعجبًا مندهشًا: إذا كان الفض الآن أو بعد ساعات هل تتوقع أن ينام أحد ؟!، فقال: لا نعرف ماذا سيفعلون؟ قد يحاصرون فقط ويمنعون الخروج أو الدخول .. قد يشتبكون مع الأطراف كما حدث يوم مذبحةالمنصة أو الحرس الجمهوري، و بالتالي دعنا نتعامل مع الأمور وفق تطورها.

فسألته هل معهم جرّافات؟ فقال: نعم .. قلت: أتوقع أن تُخلي هذه القوات الميدان اليوم، وسوف تتسبب في مذبحة مروعة .. قال -وقد اقتضب وجهه-: لماذا ؟ ، قلت: هزيمته في فض الميدان يعنى انكسار الانقلاب وانتهائه، وما دام قد قرر الفضّ فسيفض مهما كانت الخسائر في الأرواح، و أتمنى أن تبنوا إجراءات التصدي و المقاومة على ذلك.

فقال: أعدك أن أنقل وجهة نظرك .. و قتها جمعت أشيائي، وأخرجت متعلقاتي الشخصية الهامة، ووضعتها في جيبي، وغيّرت ملابسي بشكل يسمح بسهولة الحركة.

لم أرد أن أسبب قلقًا لمن حولي بوجهة نظري عن الفض، فأخذت أتأمل في وجوههم وهم نائمون، فلم أكن أعرف هل سيقدر الله لي رؤيتهم ثانية؟ أم ماذا سيفعل الله بنا؟ وأخذت أستغفر الله ليطمئن قلبي المتوجس خيفة، ثم انشغل الميدان بقيام الليل و التضرع إلى الله وارتفع البكاء والنحيب في الصلاة من الأيادي المرفوعة في السماء تستمد من الله العون.

تناولنا جميعًا طعام السحور حيث كان المعتصمون يصومون باقي الأيام الستة عقب رمضان، ثم صلينا الفجر جماعة، لكني لاحظت أن الحركة في الميدان لم تهدأ، وانشغلت مجموعات التأمين بتقوية السواتر الترابية المنصوبة على مشارف الميدان، وبدا أن الجميع في انتظار العاصفة، فالبعض أمسك بمصحفه يبحث فيه عن طمأنينة القلب، والآخر يلملم أشياءه المهمة، وهذا يجهز الإسعافات الأولية ضد الغاز، وذاك يصف براميل الماء في جوانب الطريق بعضها للشرب والبعض الآخر حتى يتم وضع قنابل الغاز بها للتقليل من تأثيرها .

و لم ينم بطبيعة الحال أحد، حتى أوشكت شمس الصباح الأخيرة على الميدان على الظهور، و بدا صوت الآليات والجرافات يقترب، و صوتها يعلو، و كأنها تعزف لحن الموت المنتظر فى كل جنبات الميدان، وأخذت هتافات المنصة تعلو بالصمود والمقاومة، وعدم السماح لهم بالاقتراب من الميدان .

لكن هيهات هيهات لم تعلم المنصة أو القائمون على الاعتصام أنهم يتعاملون مع وحوش ضاريه في صورة بشر، بل وحوش انتزعت منها قلوبها حتى لا تعرف للعطش من الدماء سبيل !! .

ثم فجأة و دون سابق إنذار رأينا الرصاصات القاتلة تمطرنا و تنصب علينا من كل جانب، حتى من البنايات العسكرية المحيطة بكل جنبات الميدان، ومن فوق أسطح العمارات.

قبل بدء انهمار الرصاص علينا بدقائق أخذت حقائبي توجهت إلى المركز الإعلامي قبل بدأ الفض وقابلت القائمين عليه، وكنت وقتها أساعدهم فى صياغة الأخبار أو المضامين الإعلامية أو الردود على الإشاعات التى يبثها إعلام الإنقلاب عن المعتصمين، أو أقوم ببعض المداخلات الفضائية لتوضيح موقف المعتصمين.

لكن ما بات واضحًا للعيان أن الدور الوحيد الذى يمكن القيام به هو توثيق أسماء الشهداء والمصابين وكنت قد التقطت بهاتفى صورة أول شهيد يصل إلى المركز الإعلامي بعد تحوله إلى مستشفى ميداني بعد بدء اكتظاظ المستشفى الميداني الرئيسي بالمصابين والجثث، برغم أننا فى الساعة الأولى فقط من بدء اقتحام الميدان!

عندها طلب من الجميع المغادرة حيث إن المستشفى والمركز الإعلامي وما يحيط بهما كانوا الأكثر استهدافًا وتعرضًا لزخّات الرصاص والمدافع الآلية، خرجت لأنضم للثوّار عند بوابة شارع الطيران أمام عمارة المنايفة .

لكن ما إن خرجت من الباب حتى وجدت النساء يصرخن والأطفال يبكون والمصابين يتواردون بلا توقف، وفرق التأمين تحاول منع حالة الهرج والمرج حتى لا تفقد السيطرة على الأوضاع.

وكانت فرق التأمين تمنع الناس من الدخول إلى ساحة المستشفى الميداني حتى تستطيع فرق الإسعاف العمل من دون زحام، لذلك ذهبت إليهم وأظهرت لهم تصريح الدخول كإعلامي، وقلت لهم سوف أخرج وعندما أعود لا تمنعوني من الدخول، ولم أذهب حتى أخذت منهم تأكيدات بذلك، وكانوا نحو أربعة .

وعندما عدت بعد عدة ساعات وجدت بدلا منهم شبابا غيرهم، فسألت عليهم فعرفت أنهم جميعا قد تم قنصهم واستشهدوا، رحمهم الله .

الرجل و الجرافة

بعدما توجهت، فى الساعة الأولى للفض، من المركز الإعلامى إلى مدخل الميدان من شارع الطيران بجوار مستشفى التأمين الصحى، كان الجو معبأ بالغاز عن آخره، فدمعت عيني سريعًا ولم استطع التنفس لكنى واصلت المسير وسط هتافات الحماس التى تهز الميدان، الجميع تقريبا يضع أقنعة الغاز والشباب المكلف باستخدام البخاخات التى تحتوى على الخلّ للتخفيف من حدة الغاز يمرون دون توقف ودون خوف ويرشّونه على الجميع، والبعض الآخر يحمل البصل والمياه الغازية لنفس الغرض.

كان الجميع فى ساعات الفض يضع أقنعة الغاز, وسحابات الدخان تبدو واضحة، وجراكن المياه في كل مكان وكانت القنابل توضع فيها لتقليل تأثيرها.

حتى وصلت إلى البوابة وهناك وجدت المدرعات تقذف النيران دون توقف والجرافات تحاول إزاحة الساتر الترابى وسط صمود أسطوري من الشباب الذى لم يكن معه أى شىء سوى الحجارة يرميها على الجرافة أو القنّاصة حتى يشتت انتباههم .

انضممت للمعتصمين من ناحية عمارة المنايفة حتى حدث أمامي موقف أسطوري بكل ما تعنيه الكلمة، أكتب إليكم هذه القصة ودموعي تنساب منّي رغما عنّي، كلما كفكفتها عادت تترى كأنها تشاركنى الكتابة وتمدنى بمداد قلم، لتنال معى الشرف وأى شرف أن تكتب عن هذا البطل (نحو ستين عامًا).

لم اكن أعرفه من قبل، لكنه كان قد جاء ليلة الفض. نام إلى جواري في الخيمة وتعرفت عليه سريعًا. لم أكن أعرف حينها أنني أتعرف على شهيد يمشي على الأرض، ربما لا يعرفه الكثيرون ولم يقل له أحد أنت بطل، ولم يقل له أحد أنت شهيد ! لكن الله ملائكته وأهل السماء يعرفونه جيدًا، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله.

كنّا وقتها فى الساعات الأولى من فض اعتصام رابعة بشارع الطيران، والمعتصمون يحاولون عرقلتهم عن التقدم بصدورهم العارية و أيديهم الخالية، لكن شهوة الدم الحرام كانت كبيرة، فتساقط من حولي الشهداء والجرحى.

ثم أطلقت قنابل الغاز بكثافة شديدة فتساقط الجميع وتراجعوا رغمًا عنهم بحثا عن نسمة هواء نقية حتى لا نموت اختناقًا وكنت قد أصبت بقنبلة غاز كادت أن تزهق روحي لولا أن الله سلم وأنقذني المسعفون .

حينها استغلت الجرّافة الفرصة واقتربت من الساتر الترابى لتزيله تفتح الطريق للمدرعات والقوات للتقدم ، وعندها ظهر البطل .

وجدته يجري وحيدًا نحوها يرفع يديه الاثنتين عاليًا وهو يلوح لها ملتاعًا غاضبا مشيرًا ألا تقترب، كأنه يقول لها لا تهدمي الحلم الجميل والعيش النبيل، لا تهدمي الصحبة الصالحة وقيام الليل وصيام النهار، لا تفتحي طريقا للشرّ، الله وحده أعلم متى يغلق.

لكنها تحرّكت وكأن قائدها مغيب الوعى والضمير ، وتقابل الاثنان عند الساتر الترابي الرجل الجرّافة فى مشهد أسطوري لا يعرف قيمته إلا من عاشه، فلمّا يئس من أن تقف، فعل المستحيل بكل ما تعنيه الكلمة.

وجدته يتحرك مسرعًا نحوها، وفجأة ارتمى داخل الجاروف (القادوس) ونام فيه لعله يتوقف، لكنه جرفه وداسه تحت عجلاته ليسقط شهيدًا، فيراه المعتصمون فيبثّ فيهم قوة بعد ضعف وعزيمة بعد وهن وإيمانا لا يتزعزع ، لتستمر ملحمة الصمود ويرتقي الآلاف من الشهداء الذين تحكي دماء كل منهم قصة بطل . ليقولوا لنا واصلوا طريق الأنبياء والرسل لتعيشوا أعزّاء أو تموتوا شهداء.

الصفوة الممتازة

هذا الرجل المسن ذكرني بمعنى إيماني جميل، أنه في بعض الأحيان ووقت اشتداد الأزمة وتوالي النوازل والكربات يسقط منّا الشهيد تلو الشهيد والوليد تلو الوليد، عندها قد يتسرب إلى قلوبنا في وقت لوعة أو جزع سخط أو غضب، ونقول لماذا يموت أفضل وأنقى وأطهر من فينا، لماذا يموت الأنقياء الأتقياء وتحرق جثثهم أو تلقى فى القمامة؟!

والإجابة: إنها الصفوة الممتازة كما سمّاها أمير العلماء الشيخ “محمد الغزالي” رحمه الله، كان يتحدث عن كتائب المجاهدين في فلسطين من الإخوان و غيرهم من شرفاء الوطن فى حرب 48 ، و عن مدى أخلاقهم وتميزهم ، وكان يقول وخشيت على هؤلاء من الموت فقد نحتاج إلى أجيال حتى نربي جيلاً مثله.

ثم ذكرني الله بحروب الردة ،عندما قاد “مسيلمة الكذاب” جيوشه لقتال المسلمين وموقف “أبوبكر الصديق” رضي الله عنه، عندما مات في بداية المعركة الفارقة في تاريخ الإسلام أغلب حفظة القرآن وكبار الصحابة ورجالات بدر، ما جعله يجمع القرآن بعد موت غالب حفظته. إنهم بدريو هذا الزمان (من شهد غزوة بدر) الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) نحسبهم كذلك.

وهكذا في كل المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام يموت ويستشهد فى أولها الصفوة الممتازة الأنقى والأطهر والأفضل، ليكونوا وقودا للنصر، وقربانا للحرية، ومعراجا للأمة، فسلام على شهدائنا جميعا ألف سلام .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى