مقالات

الحياة قائمة على الأيديولوجيا!

د. قصي غريب

كاتب وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار المنظومة الاشتراكية في أوربا الشرقية، وتفكك الاتحاد السوفيتي، أعلن الأميركيون بروح المنتصر من خلال عالم السياسة فرانسيس فوكوياما أن الرأسمالية الليبرالية قد انتصرت على الاشتراكية ،حيث أكد أن التاريخ قد انتهى بانتصار النهج الرأسمالي والديمقراطية الليبرالية وهزيمة الاشتراكية التي أفلست أيديولوجياً؛ وأن ذلك يعد نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان.
في الوقت نفسه بغية تنميط البشر في العالم بهذه الأيديولوجية المنتصرة، بدأوا يروجون أن عصر الأيديولوجيات قد انتهى ، مع أن الرأسمالية والليبرالية هي أيضًا منظومة فكرية – أيديولوجيا -.
وعلى أثر ذلك بدأ في العالم العربي ولاسيما سورية من بعض الذين يقدّمون أنفسهم إلى الجمهور على أنهم مثقفون أو سياسيون ومهتمون بالشأن العام ومن دون دراية يرددون ما يقوله الأميركيون، الذين يبدو أن هدفهم قد كان جعل البشر وبخاصة في هذه الرقعة الجغرافية المهمة من العالم سطحيين بلا وعي، مع العلم لا يقوم أي شيء في الحياة دون الاستناد على منظومة فكرية – أيديولوجيا – ، لأن أساس العمل والنشاط قائم على الفكرة وليس على العدم .
إن القول بهزيمة الاشتراكية وانتصار الرأسمالية والليبرالية ومن ثم نهاية الأيديولوجيا في الواقع لم تكن صائبة أبداً لأنه على الرغم من انهيار المنظومة الاشتراكية في أوربا الشرقية وتفكك الاتحاد السوفيتي ونظامه الاشتراكي إلا أنه بقيت ولا تزال عدة دول في العالم تتبنى النهج الاشتراكي الماركسي كأيديولوجية سياسية مثل: الصين، وكوريا الشمالية، وفيتنام، وكوبا، بل أن الصين ما تزال وإلى اليوم تقود أفضل وأعلى معدلات التنمية في العالم، وهذا يثبت أن نجاح أي نظام سياسي في عملية التنمية والتطور والتقدم والرقي لا يتوقف على نهجه الأيديولوجي فحسب؛ إنما على كفاءة الإدارة!
في العالم العربي كانت أنظمة الحكم التي ظهرت أو زعمت أنها تسير على النهج الرأسمالي أو على النهج الاشتراكي قد أخفقت عملياتها التنموية، كما أنها لم تتماه مع الشعارات التي رفعتها، حيث طغى الاستبداد والفساد والجهوية والعشائرية والطائفية والمحسوبية، وقد جاء احتلال العراق في عام 2003، ومن ثم اندلاع الثورات العربية على الأنظمة المستبدة الفاسدة في عامي 2010 – 2011 ليسدل الستارة على مرحلة كاملة من الحياة السياسية العربية بأفكارها وأحزابها وقياداتها، وكان من المعطيات الصارخة على نهاية هذه الحقبة أن الثورات قد افتقدت إلى القيادات الموجهة، وغابت عنها الرؤية الواضحة، ومن ثم فقد أصبح العالم العربي أمام حياة سياسية مختلفة ومشكلات وأزمات قديمة وراهنة تحتاج مواجهتها وحلها إلى أفكار عصرية وأحزاب جديدة فتية وقيادات واعية صادقة، ولكن بدلًا من قيام النخب السياسية بهذه المهمة فقد هرب بعضهم من مسؤولياته، وأخذوا يرددون بشكل ببغاوي أن عصر الأيديولوجيات قد انتهى، وأن إنشاء أي كيان سياسي أو أي نشاط أخر يجب أن لا يقوم على عامل الأيديولوجيا ! وقد غفلوا أن بناء الشيء والنشاط يقوم على الفكرة ولا قيمة له من دونها لأنه يعد عدمية وخواء، فالأحزاب السياسية تقوم على الفكرة والبرنامج السياسي، ففي الديمقراطيات الأوربية الغربية تختلف الأحزاب وتتمايز عن بعضها بعض في منظومتها الفكرية وبرامجها السياسية، ولذلك هناك اختلاف وتمايز في التوجهات والبرامج بين الأحزاب الديمقراطية المسيحية، وبين الأحزاب الاشتراكية، وبين أحزاب الخضر فضلًا عن ذلك في ظل المتغيرات الدولية الجديدة وعصر العولمة لم تنته الأيديولوجيا وتصبح من الماضي كما بشروا فالواقع يظهر عكس ذلك، فالأيديولوجية لا تزال حاضرة ولم يعف عليها الزمن مثلما ردد الذين يهرفون بما لا يعرفون، فنهاية التاريخ وصدام الحضارات أيديولوجيا، واحتلال الدول بالقوة العسكرية والناعمة وتدميرها وسرقة ثرواتها أيديولوجيا، وفرض قيم وثقافة وحضارة الغرب أيديولوجيا، والدفاع عن الهوية والثقافية والحضارة العربية الاسلامية أيديولوجيا، ووعظ بابا الفاتيكان أيديولوجيا، وإرشادات الولي الفقيه ونشر التشيع أيديولوجيا، وخطب شيخ الأزهر أيديولوجيا، وخطابات وتصريحات المسؤولين الغربيين تجاه العالم العربي أيديولوجيا، وصراع القوى الناعم بين أعضاء نادي الأغنياء مجموعة العشرين أيديولوجيا، وذبح الفلسطينيين وتهويد القدس وإفراغها من أهلها العرب أيديولوجيا، والانحياز الأميركي والأوربي للكيان الصهيوني أيديولوجيا، ومساندة ودعم الأنظمة العربية الاستبدادية الفاسدة من قبلهم أيديولوجيا، وسكوتهم المخزي على نظام العصابات الطائفية الذي يقتل ويذبح السوريين بالكيماوي وصواريخ السكود والبراميل المتفجرة والسكاكين أيديولوجيا، والانبطاح والفرار أيديولوجيا، والمواجهة والمقاومة أيديولوجيا، والعروبة السياسية أيديولوجيا، والإسلام السياسي أيديولوجيا، والماركسية أيديولوجيا، والليبرالية أيديولوجيا والإسلام والمسيحية واليهودية أيديولوجيا، فالجميع يستند على منظومة فكرية في سلوكه السياسي أو العقدي أي أنه يستند على أيديولوجيا ولذلك فإن مقولة نهاية الإيديولوجيا هي كذبة ووهم صدقها المغفلون والهواة في السياسة وشرعوا يرددونها من دون وعي أو فهم أو معرفة، فالرأسمالية والديمقراطية الليبرالية التي أعلن فوكوياما عن انتصارها على الاشتراكية هي منظومة فكرية – أيديولوجيا – ترتكز مصادرها الفلسفية على التيار الاقتصادي الليبرالي والتيار السياسي الليبرالي والمدرسة النفعية، وأن أهم القيم التي تستند إليها وأهم مكوناتها تتمثل في: الفردية والملكية والحرية والمساواة.
ومن هذا المنطلق لا يستطيع الإنسان مواجهة الحياة من دون منظومة فكرية يؤمن بها ويسير على نهجها ولكن المفارقة والخروج عن المألوف في العالم العربي؛ عندما يردد بعضهم بذريعة نشر الوئام في المجتمع ما زعمه الأميركيون من أن المنظومة الفكرية – الأيديولوجيا – قد أصبحت من الماضي فيطلبون من أبناء مجتمعاتهم التخلي عنها لأنها جمود عقائدي وسبب لإثارة الخلافات في حين هم يعلمون أو لا يعلمون أنهم ينطلقون من الإيمان بمنظومة فكرية كما يساهمون في تجهيلهم.
ولذلك في العالم العربي ومنه سورية لا قيمة لتنظيم سياسي من دون أن يستند على منظومة فكرية – أيديولوجيا – واضحة المعالم ومؤثرة في المجتمع بحيث يسابق في برامجه السياسية الأحزاب الأخرى في خدمة المواطن ورفع مستوى معيشته ورفاهيته ورفعة مكانة الوطن في الساحة الدولية ولكن دون ادعاء حيازة الحقيقية والصواب المطلق – دوغما – كما كان في السابق، إذ يجب أن تكون سياسة واستراتيجية الأحزاب السياسية تجاه بعضها بعضًا قائمة على القبول والمرونة والاحترام المتبادل والتعامل بمبدأ الإمام الشافعي “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.
كما يجب فههم أن هناك فرقًا بين البرنامج السياسي، وبين البيان السياسي تبعاً للحالة والوضع السياسي، فالبرنامج السياسي هو خطة عمل حزب ما يعيش في ظل نظام ديمقراطي من السهولة لديه الوصول إلى المعلومات والمعطيات والأرقام ليبني عليها برنامجه الانتخابي ليقدمه إلى الشعب من أجل رفع مستوى معيشته ورفاهيته ، ومن ثم يعمل على تنفيذه عندما يصل إلى السلطة، في حين في النظم الاستبدادية فإن الحزب الوحيد الذي يمتلك برنامجًا سياسيًا هو الحزب الحاكم لسهولة وصوله إلى المعطيات والمعلومات والأرقام، أما أحزاب المعارضة فلا تمتلك إلا بيانات إنشائية عاطفية،تعبّر فيها عن مواقفها ولاسيما السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما يجب أن تكون عليه حالة البلاد بسبب صعوبة الحصول على المعلومات والمعطيات والأرقام التي تعدها الأنظمة المستبدة من أسرار الدولة، ووإن إفشاءها خيانة عظمى يحاسب عليها القانون !
وختامًا؛ إن الأيديولوجيا كانت وستبقى ضرورة حياتية وسياسية في العالم الأول الديمقراطي، وكذلك في العالم الذي فقد رقمه وتحول إلى اسم الجنوب الذي يسود فيه الاستبداد والفساد والقهر، والفقر والعوز، والمرض، والجهل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى