مقالات

تونس ما المطلوب؟ وهل بإمكان قوى الردة أن تغرق البلاد في وحل التبعية والفساد؟

أنور الغربي

الأمين العام لمجلس جينيف للعلاقات الدولية والتنمية
مستشار سابق في رئاسة الجمهورية
عرض مقالات الكاتب

لقد حققت التجربة التونسية في ظرف 9 سنوات الكثير من النجاحات رغم العديد من العراقيل الخارجية والكثير من أدوات ومعاول الهدم الداخلية.
فهي كتجربة ديمقراطية فتية و راقية تعتبر أنموذجا للتعايش والحركية الدائمة بين مختلف المكونات الحزبية والمجتمعية رغم الأوضاع الاجتماعية الصعبة والارث الثقيل الذي تركته المنظومة التي كانت تحكم منذ 60 سنة والتي لازالت الى اليوم تتربص وتتحين الفرص للعودة للصفوف الامامية من جديد تحت مسميات ولافتات عدة سواء حزبية أو جمعياتية وبدعم كبير من المجموعات المتنفذة اقتصاديا.
وإن العديد من المراكز البحثية والعلمية والمختصة ترى أن ما يحدث من سجال و نقاش وحتى تراشق بالتهم بين المكونات السياسية والفكرية والمجتمعية هو تقدُّم مهم على صعيد التحوُّل السياسي إلى نظام حكم منفتح وديمقراطي وعصري وهو أمر فريد من نوعه في المنطقة لدرجة أن العديد من الجامعات والاكاديميات المرموقة تدرس النموذج التونسي الفريد بالرغم من التشرذم وتفتت الاحزاب السياسية وفشل الجبهات والائتلافات في التواصل وتثبيت هوية محددة لها.
هذا التطور السياسي الكبير لم تواكبه إجراءات تحوُّل اقتصادي مماثل لعدة اعتبارات لعل أهمها :

  • صعوبات في التوصل إلى توافقات في الآراء بشأن الإصلاحات الاقتصادية الرئيسية،
  • مصالح بعض النقابات والمنظمات التي تسعى للتمسك بمكاسبها وامتيازاتها
  • تواصل سيطرة بل احتكار عائلات معروفة لقطاعات اقتصادية كبيرة متنوعة
  • التباطؤ و التلكؤ في استرجاع أموال الدولة المنهوبة سواء في الداخل أو الخارج . كما أثّر الفساد والتهريب بشكل كبير على الاقتصاد التونسي رغم المحاولات المتعددة للتصدي لهما وللضالعين في الفساد على كل المستويات .
    وبالإضافة إلى كل ما سبق، فان الاوضاع الدولية والاقليمية المتأثرة بجائحة كورونا، زادت من معاناة المواطن ومن البطالة ونقص فرص العمل بسبب الاوضاع في ليبيا ونقص الاستثمار الخارجي وغلاء المعيشة .
    وقد جعل هذا المناخ تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر ضعيفة. ولازالت الدولة غير قادرة بشكل كاف على جمع إيرادات ضريبة القيمة المضافة والرسوم الجمركية بشكل شفاف وعادل ولا استرجاع الاموال المهربة للخارج التي قدرها البنك الدولي في احدى تقاريره بما يفوق ال10 مليار دولار .
    وبالإضافة للوضع الاقتصادي المتعثر، فان الطبقة السياسية لازالت تبحث عن أرضية عمل ومشاريع واضحة تميزها فضلا على أن عددا من المكونات الحزبية لازالت غارقة في صراع الهوية الذي حسم بالدستور. كما أن أجندة بعض الاحزاب تتماهى مع أنظمة ديكتاتورية ودموية لا تؤمن بالتعايش والاحترام المتبادل . وجاءت نتائج انتخابات سنة 2019 لتبين حجم التباعد خاصة في ظل وجود نظام انتخابي لا يساعد على تأسيس منظومات واضحة و أفرزت تركيبة برلمانية مشتتة وغير قادرة على التوافق على الاصلاحات الكبرى التي يطالب بها الشعب فضلا على أن رئيس الجمهورية المنتخب من أغلبية الشعب أصبح يرى بأن الصلاحيات الممنوحة له بحكم الدستور لا تسمح له بالقيادة والحكم بالشكل الذي يراه هو مناسبا .
    فالدستور حدد صلاحيات معينة لرئيس الجمهورية أهمها العلاقات الخارجية والامن القومي وحماية الحريات والقانون وعلى أساسها تم انتخابه بأغلبية مريحة تسمح له أن يتعامل مع الجميع من موقف قوة وأن يقدم مبادرات تشريعية لتحسين الاوضاع .
    فما حصل أنه وبعد مرور اشهر قليلة من الحكم، اصبح الكثير من الفاعلين على الساحتين السياسية والجمعياتية ينظرون لرئيس الدولة على أنه جزء من المشكلة ولم يعد جزءا من الحل. وتغيرت بشكل لافت قاعدة داعمي الرئيس التي تحولت من شباب الثورة والثوابت الذي صوت له بكثافة الى جزء من المنظومة القديمة وخليط يصعب تحديد هويته خاصة أنه متحرك وغير ثابت .
    ولقد أصبح رئيس الجمهورية لدى الكثيرين عنوانا لعدم الوضوح والخطب المتشنجة والتي تبث الريبة والتوجس عوضا عن الطمأنينة والسكينة لدى عموم المواطنين .
    وكان من الملفت غياب رئيس الجمهورية عن عدد من المناسبات الوطنية الكبرى، منها عيد الجمهورية وعيد الإضحى. وكان من الممكن أن يجمع فيها كل الفاعلين ويذكرهم بالتزاماتهم وربما يحدد فيها التوجهات الكبرى للسياسة الخارجية والاولويات .
    و كان أيضا مفاجئا للكثيرين وصفه للاستعمار الفرنسي بالحماية فضلا عن الاخطاء البروتوكولية خلال زيارته لباريس.
    و كان من الملفت عدم أخذه لأي اجراء ديبلوماسي بحق البلدان التي تسعى جهارا نهارا لتخريب المسار الديمقراطي في البلاد لا بل يرى البعض تقربه من المحور المعادي لحرية الشعوب العربية مضرة بالغة لمصالح البلاد وخاصة في علاقة بالجوار المباشر في كل من ليبيا والجزائر.
    واللافت أيضا هو غياب الدعم للقضية الفلسطينية – وهو الذي حصد جزءا مهما من الاصوات بسبب حديثه الايجابي عن حقوق الشعب الفلسطيني والثوابت الوطنية – وهذا الدعم كان من المنتظر أن يكون بالمواقف المبدئية والتمشي الديبلوماسي في حشد الدعم سواء على المستوى العربي أو الدولي بالرغم من المتغيرات الكبيرة وعلى رأسها الاستيطان وسياسات اليمين المتطرف في اسرائيل بدعم من ادارة الرئيس ترامب .
    إلا أن الأمر الخطير اليوم أن الكثير من المفكرين والساسة أصبحوا يعتقدون بأن الرئيس لا يؤمن بالشرعية الانتخابية و ما افرزه الصندوق بل يريد الحكم وحده وجاء اختياره لوزير الداخلية الذي كان في الأصل مستشارا له في القصر دلالة على أنه يريد منسقا بين وزراء يختارهم و لا رئيس حكومة كما يخوله الدستور .
    ومن هذا المنطلق، وبالنظر للآلية التي استعملها الرئيس ليحافظ على أحقية تسمية رئيس حكومة، كان واضحا سعيه لتوسيع صلاحياته و ضم رئاسة الحكومة إلى رئاسة الجمهورية بل أصبح يروج أن البعض من مستشاري الرئيس هم من يختارون الوزراء وهذا أمر غير مسبوق وغير صحي للمسار الديمقراطي خاصة وان الدستور الحالي يقر بان السلطة التنفيذية ذات رأسين:
  • رئيس الجمهورية، وله مهام محددة، وقد قبل بها وعلى أساسها ترشح، ولأجل ذلك تم انتخابه.
  • رئيس الحكومة الذي تتم تسميته حسب الاوزان التمثيلية للأحزاب والائتلافات وتحت رقابة البرلمان والمجتمع المدني

ولذلك فانه من مصلحة الجميع أن يتمتع رئيس الحكومة بكل الصلاحيات التي حددها الدستور وأولها تكوين حكومة قادرة على مواجهة التحديات الاقتصادية وتثبيت حكم القانون على الجميع وبناء علاقات متوازنة تحفظ سيادة وكرامة الشعب ولا تفرط في تاريخ وثروات الأجيال. ولا أعتقد أن رئيس الدولة يبحث عن مستشار برتبة وزير لإدارة الحكومة في الظروف التي تمر بها البلاد فهذه ليست من صلاحياته ولا أعتقد أنها من أخلاقه .
وفي حالة حصول السيد المشيشي على الثقة في البرلمان، فانه يصبح من واجب الجميع التعامل معه كرئيس حكومة كامل الصلاحيات وليس كأحد رجال الديوان الرئاسي كما يروج الآن .
وليس من مصلحة أي كان الاستنقاص من دور الرجل اذا ما أخذ التزكية من البرلمان خاصة وأنه ستكون أمامه محطات مهمة و تحديات كبيرة وسيجد صعوبات بالغة في مواجهتها وعليه لابد أن يكون مسنودا بقوة من الاحزاب والمنظمات والمجتمع المدني .
وأعتقد أنه اذا ما تم تجاوز عقبة منح الثقة لرئيس الحكومة بعدما يحدد أولويات حكومته وأعضاء فريقه، فانه يصبح من أوكد الواجبات العمل على الآتي:

  • على مستوى رئاسة الجمهورية
    1- تغيير الخطاب باتجاه طمأنة الشعب والبعد عن كل ما من شأنه أن يوتر الأجواء ويزيد من التباعد بين الفرقاء
    2- العمل مع الخارجية للمسارعة بالتسميات في العواصم المهمة والزام الكل بأهداف محددة سلفا وعلى راسها ملف الاموال المنهوبة ومراجعة التسميات المشبوهة التي حدثت في البعثات والتمثيليات الديبلوماسية وحسن التصرف في أموال الشعب
    3- تحديد نهج حكم يلزم جميع الحكومات باحترام خيارات الشعب التونسي وعدم التدخل في شؤونه الداخلية
    4- النأي بالمؤسستين العسكرية والامنية عن كل الصراعات الحزبية
    على مستوى السلطة التشريعية:
    1- المسارعة بتنقيح القانون الانتخابي ووضع عتبة دنيا من أجل الاستقرار السياسي و لتفادي التشتت والتدخل الخارجي
    2- تثبيت المحكمة الدستورية لتكون السلطة المرجعية ذات السيادة في تأويل الدستور وتحديد الصلاحيات لكل الأطراف بما في ذلك الرئاسات الثلاث – رئاسة الجمهورية والبرلمان والحكومة –
    3- مراجعة قانون الاحزاب والجمعيات واخضاع الجميع لمقاييس جديدة لتنقية الساحة السياسية من الاحزاب والجمعيات الوهمية ومن أجل الشفافية في العمل والتمويل
    4- المسارعة بالنظر والموافقة على الاتفاقيات الدولية التي تم تأجيلها من أجل جلب استثمارات ومواطن شغل وتنمية للجهات

وأعتقد أن الجميع مدرك لحساسية الوضع ودقته ولا أحد من الوطنيين له مصلحة في المغامرة بالتمسك برأيه والوطن والشعب يستغيث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى