حقوق وحريات

إضاءات سياسية (46)

هيثم المالح

عرض مقالات الكاتب

من سورية إلى الباكستان : دروس الماضي والحاضر

دمشق في 20/11/2007

شعبنا في سورية شعب يأبى الضيم ، ويرفض الاستبداد ، وناضل ويناضل ضد الاستعمار ، ففي مرحلة الاستعمار الفرنسي لسورية لم تشعر حكومته بالهدوء ولم يهنأ لها بال ، فكانت الإضرابات والمظاهرات والثورات دائمة منددة بالاحتلال ، وسقط العديد من الشهداء حتى تكللت المساعي بالجلاء .

بدأ شعبنا تجربة ديمقراطية في الأربعينات إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية ضاقت ذرعاً بهذه التجربة ، فأقدمت سفارتها في دمشق على دفع أحد ضباط الجيش وهو حسني الزعيم لينقلب على الشرعية ، ثم تتالت الانقلابات إلى أن جاء عهد الوحدة الذي لم يعمر طويلاً ، لأسباب لا داعي لذكرها ، إلا أن من أطاح بحكم عبد الناصر والوحدة أيضاً كانوا ضباطاً في الجيش .

لم تستقر الأوضاع في سورية عقب ذلك إلى أن أقدم الضابط زياد الحريري في الثامن من آذار/مارس  1963 وبمؤازرة من الناصريين والبعثيين على الانقلاب على الحكم الذي أعقب الوحدة .

كان عام 1963 مفعماً بالاضطرابات ، وفي شهر تموز/يوليو وقعت صدامات دامية بين جناحي الانقلاب من ناصريين وبعثيين أدى لانفراد حزب البعث بالسلطة .

كانت الأعوام التي تلت ذلك أعوام مضطربة ففي عام 1964 حدثت صدامات ومظاهرات في حماة ، حين كان عبد الحليم خدام محافظاً لها ، في حين كان أمين الحافظ رئيساً للدولة ، وتحركت قطعات من الجيش فقصفت المدينة وهدمت جامع السلطان .

كان في الطرف المقابل ثلة من الشباب انضموا إلى المهندس مروان حديد الذي شكل ما سمي   “الطليعة المقاتلة” ، ثم اعتقل المذكور فيما بعد وتوفي في السجن إثر إضراب طويل عن الطعام ، وبرغم أنه رجع عن الإضراب إلا أن الحياة كانت قد انتهت بالنسبة إليه .

في عام 1965 أغلقت متاجر دمشق أبوابها واعتصم عدد كبير من الناس في المسجد الأموي احتجاجاً على ما آلت إليه حال البلاد ، إلا أن الضابط سليم حاطوم توجه إلى المسجد بآلة عسكرية فكسر عتبة المسجد ودخل إليه ، وأطلق الرصاص على المصلين العزل ، واعتقل كل من كان في المسجد ، ونقلوا بالشاحنات إلى سجن المزة العسكري وقدر عدد المعتقلين في ذلك الوقت بعشرة آلاف معتقل .

كنت قاضياً في محكمة الصلح في دمشق فعقد القضاة اجتماعاً لدراسة الموقف ، وشكلت في ذلك الحين لجنة كنت ممثلاً لمحاكم الصلح فيها ، وبعد المداولة أصدرنا بياناً إلى الأمة تحدثنا فيه عن الأوضاع السائدة وطالبنا بإلغاء حالة الطوارئ ، وإطلاق سراح المعتقلين ، وعلى أثر ذلك حضر إلى قصر العدل رئيس الدولة أمين الحافظ والتقى بالمحامين الذين كانوا قد أعلنوا الإضراب في حينها ، واستمر القضاء في تعليق المحاكمات لمدة أسبوع كامل ، ومن على شرفة قصر الضيافة في أبي رمانة ألقى رئيس الدولة خطبة وأشار إلى الذين اعتقلوا فقال : (أن النساء تلدن كثيراً سنقطع أيديهم وأرجلهم ونرميها للكلاب) ، وكان قد منع التجول في بعض مناطق دمشق -الميدان مثلاً- .

لم تستجب السلطة لمطالب القضاة والمحامين واستمر القمع وتمترست السلطة بقوانين جائرة خارج العدالة لإحكام قبضتها على البلاد .

في عام 1970 أعلن الرئيس الراحل حافظ الأسد حركته التصحيحية ، واستبشر بعض الناس خيراً ، إلا أن أي تقدم باتجاه الحريات العامة في تلك المرحلة لم يتحقق .

في شباط/فبراير عام 1978 تقدمت بعريضة إلى مجلس فرع نقابة المحامين ، موقعاً عليها من ربع أعضاء الهيئة العامة ما يعادل (217) محامياً ، طالبنا فيها عقد الهيئة العامة لمناقشة :

(حالة الطوارئ ، الأوامر العرفية ، سيادة القانون ، المحاكم الاستثنائية ، الحريات العامة) وفعلاً اتخذ مجلس الفرع قراره رقم (32) تاريخ 06/02/1978 بدعوة الهيئة العامة لعقد اجتماع استجابة لطلب المحامين ، ثم أصدر قراراً برقم (116) تاريخ 05/06/1978 بتحديد يوم الأربعاء 21/06/1978 الساعة السابعة والنصف مساء موعداً لانعقاد الهيئة العامة .

انعقدت الهيئة العامة وحاز مشروع القرار المقدم من مجموعة من المحامين ، والذي تلوته شخصياً ، على الأكثرية الساحقة للأصوات بما فيها أصوات المحامين البعثيين .

كان القرار رقم “1” الصادر عن الهيئة العامة لمحامي دمشق في عام 1978 بالغ الأهمية وأدرج هنا خلاصة مطالب المحامين في هذا القرار :

(فإن الهيئة العامة لفرع نقابة المحامين في دمشق ، تطلب من مجلس فرعها ، وتوصي المؤتمر العام الذي سينعقد في الأيام القريبة القادمة ، بما يأتي :

أولاً : المطالبة برفع حالة الطوارئ المعلنة بالأمر العسكري رقم (2) تاريخ 08/03/1963 فوراً .

ثانياً : السعي لتعديل قانون الطوارئ بحيث يقيد إعلان تلك الحالة بأضيق الحدود والقيود ، وعلى أن تقصر مدتها بثلاثة أشهر قابلة للتمديد إلى مدة مماثلة بعد استفتاء الشعب مباشرة .

ثالثاً : اعتبار الأوامر العرفية الصادرة خلافاً لأحكام قانون الطوارئ والتي أضحت شبه مؤسسة تشريعية سرية ، معدومة انعداماً مطلقاً . والطلب إلى الأساتذة المحامين والقضاة إهمالها وعدم التقيد بمضمونها وعدم المرافعة استناداً إليها ، ومقاطعتها مقاطعة تامة .

رابعاً : اعتبار أي محامي وخاصة محامي الداوئر الرسمية والمؤسسات العامة وجهات القطاع العام الذي يشير على تلك الجهات بالعمل والسعي لاستصدار أوامر عرفية بمصادرة أموال المواطنين والاستيلاء عليها وحجز حريتهم وتجاوز الأحكام القضائية ، بل وتجاوز القضاء برمته.. إنما يرتكب زلة مسلكية يجب مساءلته عليها أمام مجلس التأديب . لأنه بذلك يكون قد نكس باليمين الذي أقسم ، وأخل بالعهد الذي التزم . وتصرف تصرفاً يحط من كرامة مهنة المحاماة ويخفض من قدرها العالي .

خامساً : السعي لإلغاء المحاكم الاستثنائية تحت أية تسمية كانت ، وإحالة القضايا المعروضة عليها إلى المراجع المختصة في القضاء العادي .. واعتبار أن كل ما صدر عنها ويصدر من أحكام خلافاً لأحكام القانون ومبادئ العدالة ، إنما هو معدوم .

سادساً : الطلب إلى الأساتذة المحامين عدم المثول والمرافعة أمام المحاكم الاستثنائية ومقاطعتها مقاطعة تامة تحت طائلة المساءلة المسلكية أمام مجلس التأديب ، ذلك حتى لا تكون مؤسسة المحاماة المقدسة ستاراً يضفي الشرعية على أعمال تلك المحاكم .

سابعاً : تحريم جميع صور الكبت والقهر والقمع والتعذيب الجسدي والنفسي المنافية للكرامة الإنسانية والوطنية ، وتطبيق مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء العادي ، وتمكينه من أداء واجباته بحرية تامة وإنهاء كل حالات الاعتقال الكيفي وإطلاق سراح المعتقلين بسبب الرأي أو الفكر أو العقيدة ، أو إحالتهم على القضاء العادي لمحاكمتهم محاكمات عادلة وعلنية يؤمن لهم فيها حق الدفاع ، وتحترم فيها حقوقهم الأساسية .

ثامناً : التصدي لجميع أنواع الاعتقال والامتهان وفرض العقوبة ، التي تمارسها جهات غير قضائية لا تخضع إجراءاتها لأية رقابة قانونية أو قضائية .

تاسعاً : اعتبار مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الدستور الأساسي للمواطن وتقديم أحكامه على أي نص تشريعي محلي مهما كان نوعه في حال تعارض أحكامهما .

عاشراً : تأليف لجنة خاصة في فرع النقابة في دمشق ، تكون مهمتها تنفيذ هذا القرار وذلك برصد جميع الأعمال التي تشكل تجاوزاً على حقوق المواطن وحريته وعلى أن تقدم تقريرها إلى الهيئة العامة في أول جلسة قادمة) .

انتقلت العدوى من فرع دمشق لنقابة المحامين إلى سائر فروع النقابة في سورية ، التي اتخذت قرارات مشابهة ، ثم انتقلت إلى النقابات الأخرى ، مهندسين ، أطباء ، معلمين .

في عام 1979 انعقد المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب في دمشق وأصدر قراره بتبني قرار المحامين السوريين آنف الذكر ، فأضحى القرار رقم “1” هو مطلب جماهير المحامين العرب .

أدرجت الوقائع التي قدمتها فقط لأثبّت تاريخاً لا يجوز نسيانه ، إلا أن السلطة الحاكمة رأت في حركة النقابات خطورة عليها فأصدر الرئيس حافظ الأسد المرسوم التشريعي رقم (24) تاريخ 07/04/1980 قضى بجواز حل المؤتمر العام للنقابة المهنية ومجلس نقابتها ومجالس فروعها من قبل مجلس الوزراء ، وتم ذلك فعلاً ، ثم جرت اعتقالات واسعة في صفوف النقابيين ، ومن الجدير بالذكر أن محامين قبلوا أن يكونوا معينين من قبل السلطة التنفيذية لإدارة النقابة وساهموا في سلبها حريتها ووقفوا ضد زملائهم النقابيين المعتقلين ، وكان من بواكير عملهم التنديد بما تم في الفترة التي سبقت الاعتقالات في ظل النقابة المنتخبة والتي تم حلها خارج إطار القانون .

تقدم نقيب المحامين آنذاك الأستاذ صباح الركابي بدعوى أمام محكمة القضاء الإداري لإلغاء قرار الحل ، إلا أن السجن كان بانتظاره ومارست أجهزة السلطة عليه ضغوطاً دفعته إلى ترك الدعوى ، إذ لم يحتمل النظام إقامة هذه الدعوى .

أقدمت السلطات العسكرية في سورية عام 1966 على ارتكاب مجزرة بحق القضاة إذ أقدمت على  صرف (24) قاضياً ، كان على رأسهم رئيس محكمة النقض عبد القادر الأسود وآخرون من خيرة القضاة وكنت آنئذ في أسفل القائمة ، إلا أن أحداً لم يتحرك لنصرة القضاة لا من زملائهم ، ولا من نقابة المحامين .

الضربات كانت تتوالى على القضاء للسيطرة عليه من قبل السلطة التنفيذية ، وتم تعيين عدد من غير المؤهلين لهذا العمل العظيم وبدأت مرحلة الانحدار وفقدان الاستقلال القضائي .

ثلاثون عاماً فصلت بين ما جرى في سورية لجهة حركة النقابات العلمية وما يجري الآن في الباكستان .

فأين هو وجه الشبه ؟

سبق أن أقدم الرئيس الباكستاني برويز مشرف على إقالة رئيس المحكمة العليا افتخار شودري ، إلا أن المحكمة كان لها موقف حاسم في هذا الصدد ، وقررت عدم شرعية الإقالة وعاد رئيس المحكمة إلى منصبه ، متحدياً الحاكم العسكري المستبد ، كما  تضامن المحامون مع رئيس المحكمة العليا وكان موقف التلاحم بين طرفي العدالة رائعاً جداً .

من يتابع الآن الأحداث في الباكستان يشعر بالفخر حين يجد جناحي العدالة ، القضاة والمحامون ، يشكلون رأس حربة في محاربة الاستبداد والفساد ، ولا يأبهون بالاعتقالات ولا بالأحكام العرفية المعلنة ، كما تتحدى أحزاب المعارضة إجراءات الحكومة ، مطالبين كلهم بحريتهم في إبداء آرائهم وتشكيل قناعاتهم ، وإحداث التغيير الديمقراطي السلمي في بلادهم .

معلوم أن برويز مشرف جاء بانقلاب عسكري إلى السلطة كما جاء غيره من حكام البلاد العربية ، ثم أجرى انتخابات في ظل قوته العسكرية كقائد أعلى للجيش وفاز بها .

تجلى انحياز مشرف للولايات المتحدة الأمريكية بوضعه أجواء بلاده وأراضيها تحت تصرف القوات الأمريكية فيما سمي بالحرب على الإرهاب ، ومكن الإدارة الأمريكية من احتلال جاره البلد المسلم “أفغانستان” في الوقت الذي يعلم هو علم اليقين ، كما يعلم غيره ، أن هذه الإدارة إنما جاءت إلى أفغانستان ضمن هدف استراتيجي لتكون في قلب آسيا ، بالقرب من القوى العظمى ، وعلى تخوم إيران ، ولبسط السيطرة على الثروات الطبيعية ولحماية ربيبتها الدولة الصهيونية ، وما الحرب على ما سمي الإرهاب سوى ذريعة لذر الرماد في العيون .

في الباكستان لم تتخذ الحكومة أية خطوة في مواجهة نقابة المحامين كحل النقابة مثلاً ، أو تعيين نقابة تابعة لها ولم تمس قوانين المحامين ، كما فرضت الأحكام العرفية لمدة محددة ، ولم تعتقل القادة النقابيين أو القضاة ، ومع أنها عمدت لفرض الإقامة الجبرية على بعض الساسة إلا أنها ما لبثت أن رجعت عنه .

وبرغم من أن الشبه كبير بين الحكم العسكري في الباكستان والحكم العسكري في سورية ، إلا أن الإجراءات لم تكن متماثلة في الحالتين .

ففي الباكستان مع فرض حالة الطوارئ والقمع الذي مارسه النظام والدعم الأمريكي اللامحدود له ، تحرك الشارع الباكستاني للمحافظة على حقوقه في التعبير السلمي لما يطالب به .

سبق أن حاولت منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني وبعض الأحزاب السياسية الصغيرة في دمشق أن يعتصموا قرب قصر العدل بمناسبة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، إلا أن السلطة مارست عليهم القمع ومنعت أي اعتصام برغم قلة عدد المعتصمين ، ومؤخراً تفتقت عقلية النظام على أسلوب جديد فجهزت سيارات مغلقة كبيرة تشبه سيارات نقل اللحوم ، وحشرت كل من تواجد قرب قصر العدل ، وقذفت بهم خارج دمشق لمسافة أكثر من ثلاثين كيلو متراً ، والسلطات الأمنية في سورية تمارس القمع ضد أي احتجاج حتى لو كان بين عدد قليل من الناس ، وتعتقل الأشخاص وتسوقهم إلى القضاء الاستثنائي (أمن الدولة) لمحاسبتهم على أفكارهم وليس على عمل قاموا به .

كيف يمكن لنا الآن أن نقارن بين ما جرى سابقاً في سوريا وكيف اعتدى النظام على النقابات وشرعن لها قوانين سلبت النقابات حريتها وألحقتها بأجهزته ، وبرغم تنديد اتحاد المحامين العرب في العديد من مؤتمراته بهذه القوانين إلا أن المحامين -للأسف- أقدموا جماعات على ممارسة الانتخابات في ظل قوانين سلبتهم حريتهم ، وألغت كل مكتسباتهم في القوانين السابقة ، وبذلك أضفوا على هذه القوانين المشروعية .

لم يتحرك أحد في سوريا للمطالبة بإلغاء هذه القوانين  أو تعديلها لا من جهة النقابات التي وجدت  فيها مجالس إدارتها فرصتهم للاستمرار في الهيمنة على الهيئات العامة ، ولا السلطة التي لم تكترث لمصالح النقابات أو لقرارات اتحاد المحامين العرب الممثل لجمهرة المحامين في الوطن العربي ، من ذلك نرى أن الرئيس الباكستاني لم يستطع أن يذهب بعيداً في قمع الشارع الباكستاني الذي كان يقظاً لكل خطوة يخطوها رئيسه .

فهل سوف تتعظ السلطات في سورية مما جرى في الباكستان ؟ وتعي هذا الدرس وتحاول أن تعيد الحقوق لأصحابها ، وتضع الأمور في نصابها حرصاً على مستقبل أفضل لبلادنا أم أنها سوف لا ترى ما حدث في الباكستان وما يحدث في العالم ؟! وهل سوف تستفيد النقابات والنقابيون من هذا النضال العظيم في الباكستان .

أن الظروف الدولية الحالية لا تسير في صالح أوطاننا ، وأن رأب الصدع الموجود في بلدنا بين طرفي الدولة ، السلطة والشعب ، تقتضي إعادة قراءة التاريخ ودراسة ما جرى ويجري على الساحة العربية والإسلامية ، والانفتاح على الشعب ، والسعي لمداواة الجراح ورأب الصدع ، حتى نكون أقدر على مواجهة الخارج الذي يتربص بنا .  

والله من وراء القصد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى