دين ودنيا

التوحيد في دعوة نوح عليه السلام

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

إن َّدعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام  هي دعوة واحدة في أصولها على مرّ الزمان والمكان، الكل منهم كان يبذل غاية جهده، وأقصى طاقاته لربط الناس بخالقهم، وتوجيههم الوجهة الصحيحة.

  • قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ (النحل: 36).

فالآية الكريمة المذكورة ، كان يفتتح بها النبي أو الرسول رسالته إلى قومه بكل وسيلة يؤكد على توحيد الله عز وجل، في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وحاكميته وعبادته، وتقواه وطاعة رسله.

فأساس دعوة الأنبياء والمرسلين تعبيد الناس لله تبارك وتعالى، وتحقيق التوحيد له عزَّ وجلَّ، فلا تعلو قضية أخرى مهما كانت أهميتها على قضية التوحيد.

وكان الأنبياء مع دعوتهم للتوحيد، يدعون قومهم إلى ترك المنكرات: كالتطفيف في الميزان، والبغي على الناس، وهكذا الدعاة إلى الله تعالى، يجب أن يكون التوحيد أساس دعوتهم، ومنطلقها، ومع ذلك يعنون بعلاج المشكلات المتفشية في عصرهم.

ومضمون دعوة نوح سبراً من النصوص القرآنية، التوحيد، وعبادة الله، وتقواه وطاعته. قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ (الأعراف: 59). وقال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ (الشعراء: 106- 108). وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾ (هود: 25 – 26). وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ (المؤمنون: 23). وقال تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (نوح: 2- 4). وهذه الآيات وغيرها وضحت مضمون دعوة نوح عليه السلام لقومه التي ارتكزت على توحيد الله عز وجل، وتحقيق العبادة له وحده، وتقواه وطاعته.

توحيد الله في رسالة نوح عليه السلام:

حينما انحرفت الإنسانية في عقيدتها، شاءت رحمة الله أن يرسل نوحاً عليه السلام مبشراً بالحق في مجال العقيدة، وبالخير في مجال الأخلاق، وبالعدل في مجال التشريع.

وتضعنا النصوص الصحيحة والأخبار أمام نوح – عليه السلام – وهو رجل ناضج، ومكتمل، أرسله الله لهداية قومه.

لقد بعث الله سيدنا نوحاً حينما عمّ الفساد؛ ليبشّر بالحق والخير والعدل، وبدأ سيدنا نوح عليه السلام بالتوحيد: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ (الأعراف: 59).

وهذا الذي قاله سيدنا نوح لقومه هو التبشير بالتوحيد، والتوحيد هو جوهر الرسالات السماوية جميعاً، والله سبحانه وتعالى يؤكد لسيدنا محمد خاتم النبيين ذلك قائلاً:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 25) .

والتوحيد هو ما نعبر عنه في الإسلام بـ “أشهد أن لا إله إلا الله”، وهو العلامة الأصلية والطابع الحقيقي والجوهر الثابت لكل دين سماوي صادق.

والمعنى الحقيقي للتوحيد هو: علم العبد واعتقاده واعترافه بتفرد الرب بكل صفة كمال، واعتقاده أنه لا شريك له، ولا مثيل في كماله، وأنه ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وإفراده بالعبادة.

وأيضاً: هو الاعتقاد اليقيني أن كل ما في الكون من خَلْق ورزق، وعطاء ومنع، وحياة وموت، وغنى وفقر، وقوة وضعف، وعز وذل، مردّه إلى الله سبحانه، فالله سبحانه وتعالى متفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة وسائر أنواع التصريف والتدبير لملكوت السماوات والأرض، ويجب إفراده بالحكم، والتشريع، فهو الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب، قال تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ (الأعراف: 54).

والله سبحانه وتعالى يجب إفراده وحده بالعبادة فلا يُعبد غيره، ولا يُدعى سواه، ولا يستغاث ولا يُستعان إلا به، ولا يُنذر ولا يذبح إلا له، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام:162- 163).

ولقد بشر سيدنا نوح عليه السلام بالتوحيد، وبشر بالتوحيد جميع الرسل، وإذا فهم التوحيد على حقيقته واتخذته الإنسانية شعاراً لها يكون علاجاً لكثير من ألوان العنف في المجتمعات، فالإنسانية في مختلف أزمنتها وأمكنتها تخاف الموت وتخشاه، مما يقودها إلى استعباد الأقوياء، والذلة أمام الطغاة.

وقد أخذ سيدنا نوح  عليه السلام  يدعو إلى التوحيد في همة لا تفتر، وفي نشاط لا يتوانى، وأخذ يدعو ليلاً ونهاراً، وأخذ يدعو جهراً حينما تتيح له الظروف الدعوة الجهرية، ويدعو سراً حينما يستلزم الأمر الدعوة سراً، فلم يكن يدع فرصة تمرُّ إلا ويشرح فيها رسالة الله: مبشراً ونذيراً، مرغباً في ثواب الله وجنته، ومخوفاً من عقابه وعذابه.

لقد أخذ نوح يشرح لهم قدرة الله وشمول علمه، ودعاهم إلى التفكر في أنفسهم قائلاً: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ (نوح: 14)، ألا ترون أنه خلقكم في بطون أماتكم خلقاً من بعد خلق؟

لقد كنتم تراباً ثم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم كنتم أجنة، وكنتم في جميع هذه الأطوار في رعاية الله، محفوظين بحفظه، محاطين بعنايته، وبعد ذلك كنتم أطفالاً فشبّاناً… وهكذا وستعودون إليه من جديد في أية لحظة شاء، فارجعوا إليه بالتوبة والإنابة، والطاعة قبل أن تواجهوه وهو غير راضٍ عنكم، ثم: ﴿ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾ (نوح: 15- 16).

ثم: ألم تروا كيف جعل لكم الأرض بساطاً، وجعل لكم فيها مسالك وسبلاً للإقامة والانتفاع، وفي كل ذلك ما نرى في خلق الرحمن من تفاوت.

وأخذ سيدنا نوح يعدد نعم الله: منها اليسير ومنها العظيم، الظاهر منها والباطن، ونعم الله كثيرة لا تحصى﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ (النحل: 18)، وأعلن لهم قانون “الاستغفار”، وسيدنا نوح أول من أعلن هذا القانون: ﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ (نوح: 10).

هذه هي مقدمة القانون أو قاعدته وأساسه، فإذا كان الاستغفار الخالص النصوح، وإذا كان الالتجاء إلى الله بطلب المغفرة في صدق كانت النتيجة: ﴿ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾ (نوح: 11)، أي: يتنزل الغيث المحيي لأرضكم الجدباء، والذي يملأ أنهاركم الجارية بالخير والنماء، و﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ (نوح: 12)، فإن الإمداد بالأموال والبنين – وقد أتى بهما القرآن بصيغة الجمع مترتباً على الاستغفار-، وإن هبة الجنات والأنهار – وقد أتى بهما القرآن بصيغة الجمع أيضاً- مترتبة على الاستغفار، هذا هو “قانون الاستغفار” الذي أعلنه نوح عليه السلام.

وهذا القانون عام لا يحدده زمان ولا يحدد مكان، فمن التجأ إلى الله في العصر الحاضر بالاستغفار الخالص النصوح الصادق فإن الله سبحانه يهيّئ له من الظروف ما يجعله يعيش في سعة من الرزق، وفي يسار من المال، إنه وعد الله الذي أوحاه إلى رسوله نوح ليعلنه للناس، ووعد الله لا يتخلف.

ولقد أوضح رسولنا صلى الله عليه وسلم – فيما بعد- زاوية مهمة من زوايا قانون الاستغفار وهي عدم وقوع العذاب على المستغفر، يقول تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ (الأنفال: 33).

إنَّ سيدنا نوح عليه السلام كان ينبه قومه إلى الظروف والملابسات التي تشير إلى صدقه، إنه لا يسألهم عن دعوته أجراً ﴿ وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾ (هود: 29)، إنه – إذن- لا يطلب مالاً ولا يدعو بدعوته من أجل النقود.

وإذا سأله سائل عن السبب في قيامه بهذا الدعوة فإنه يقول:

  • أُبلغكم رسالات ربي.
  • أنصح لكم.
  • أهديكم إلى ما أعلمه عن الله، وذلك لأني: أعلم من الله ما لا تعلمون.

كانت دعوة نوح عليه السلام  للتوحيد هي حجر الزاوية في تكوين وبناء الرؤية الكلية عن الله والكون والحياة والإنسان، وبيان حقيقة العالم، وحقيقة الخالق، والوصول إلى طبيعة العلاقة بينهما.

وإنَّ توحيد الله عزَّ وجلَّ هو أساس الإيمان وسر السعادة في الدنيا والآخرة، والقلوب مفتقرة إلى معرفته سبحانه والتعلق به ومحبته وخوفه ورجائه، أكثر من حاجتها إلى الطعام والشراب وسائر الضروريات.

المراجع:

1- علي محمد محمد الصلابي، نوح عليه السلام والطوفان العظيم، دار ابن كثير، ص 111:110.

2- أحمد سليمان الرقب، منهج الدعوة إلى الله في سورة نوح، دار المأمون للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 2010م، ص 116-117.

3- عبد الرحمن السعدي، طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول، دار البصيرة، الاسكندرية، 2000م، ص 11.

4- فوز بنت عبد اللطيف الكردي، تحقيق العبودية بمعرفة الأسماء والصفات، دار طيبة للنشر والتوزيع،  الرياض ، السعودية، الطبعة 11، 1421هـ ص 103-107.

5- وليد خالد الربيع، أثر القرآن الكريم في بناء الشخصية الإسلامية، التراث الذهبي، الرياض؛ مكتبة الإمام الذهبي، الكويت، 1439 ه – 2018 م، ص 61-62.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى