بحوث ودراسات

“رحلة الدَّم”: تدوين صحيح السُّنَّة وحقيقة الصَّحابة من وجهة نظر الشيعة – 1 من 5

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

نُشرت رواية رحلة الدَّم: القتلة الأوائل عام 2016 ميلاديًّا، لتسلِّط مزيدًا من الضوء على رؤية صاحبها، إبراهيم عيسى، عن تطوُّر الفكر الإسلامي بعد وفاة رسول الله (ﷺ) وتصوُّره عن انحراف هذا الفكر عن صحيح الرسالة السماويَّة المنزَّلة على الرَّسول الكريم، كما عبَّر في روايته السَّابقة مولانا (2012). تتناول الرواية في بدايتها واقعة اغتيال الإمام علي بن أبي طالب (كرَّم الله وجهه) على يد عبد الرحمن بن ملجم المرادي، والذي يجسِّد الشخصية الإرهابيَّة بمفهومنا العصري بصورة أشبه إلى العقلية العربية في هذه الآونة بصورة المنتمين إلى تنظيم الدولة المسلح، ثمَّ تعود بأحداثها إلى الوراء عشرين عامًا، وتحديدًا إلى زمن فتح مصرَ في زمن أمير المؤمنين، عمر بن الخطَّاب (رضي الله عنه وعن سائر صحابة رسوله ﷺ) (ص15-16).

تستعرض الرواية حياة الصحابة، وتوضح ما فيها ممَّا يتناقض مع الصورة المثاليَّة التي رسمتها الأحاديث النبويَّة الشريفة، كما تظهرهم بصورة المنغمسين في الدنيا والباحثين عن إمتاع الرغبات الحسيَّة. فالدافع الأبرز لهؤلاء عند فتح البلدان غير المسلمة لم يعد نشر الدين الإسلامي، إنما الوصول إلى ما يشبع الرغبات الحسيَّة، وبخاصة الجنسيَّة. كان اسم الرواية الأولى في سلسلة القتلة الأوائل “أصل المسألة”، ويقصد الكاتب أنَّ الأفكار المتطرِّفة السَّائدة بين المسلمين الأوائل، أو ‘‘القتلة الأوائل’’ هي أساس ما تعانيه منطقة الشَّرق الأوسط اليوم من إرهاب يمارسه محسوبون على أهل السُّنَّة. يستعرض الفصل الثَّاني فترة مرابطة جيش المسلمين، الوافد من جزيرة العرب لفتح مصر، بقيادة الصَّحابي عمرو بن العاص في الفترة ما بين عامي 640 و642 ميلاديًّا، في فترة شاع فيها الظُّلم في مصر؛ لما فرضه الرُّوم من حُكَّام البلاد من ضرائب تعسُّفيَّة “شملت الأشخاص والأشياء والصناعات والماشية والأراضي”، كما تشير موسوعة ويكيبيديا الرقميَّة، مضيفة أنَّ عمرو بن العاص كان قد زار مصر في زمن الجاهليَّة للتجارة، وشهد ما بها من خيرات وفيرة؛ فساد الاعتقاد في دولة الخلافة أنَّ مقوِّمات مصر في الزراعة ستمنح دولة الإسلام مصدرًا للحبوب والثمار. غير أنَّ الكاتب يسلِّط الضوء في تناوُله الفتح على مسألة الاستغلال المادِّي للمسلمين، دون إشارة إلى حرص المسلمين على تخليص أهل مصر من بطش الدولة الرُّومانيَّة.

تدور أحداث الرواية حول أربعة محاور أساسيَّة، هي تقديم الفتح الإسلامي لمصر باعتباره استعمارًا استيطانيًّا عربيًّا لنهب خيراتها وتغيير هويَّتها “القبطيَّة”، وتشويه صورة للصحابة وبعض أمهات المؤمنين-بخاصَّة عائشة بنت أبي بكر-بما لا يتَّفق مع وصفهم في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة، وادِّعاء أنَّ فتنة مقتل عثمان كانت بسبب موالاته أقاربه من بني أميَّة، على حساب بيت مال المسلمين، وفرية تعدُّد المصاحف المنسوبة للوحي الإلهي واختلاف محتواها، وهذا ما يتناوله هذا القسم من الدراسة في نقاط تفصيليَّة، مع الاستشهاد بمقتطفات من الرواية، طبعة دار الكرمة للنَّشر (2016).

الفتح الإسلامي لمصر: غزو استعماري استنزف خيراتها

منذ البداية، يرسم الكاتب للصحابي عمرو بن العاص، الذي قال عنه الرَّسول (ﷺ) في حديث حسن رواه الترمذي “أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ”، صورة منفِّرة، بوصفه قائدًا قاسيًا، يمعن في إهلاك جنوده في مهامَّ مضنية. المثير للانتباه أنَّ الكاتب يتعمَّد إهانة عمرو بن العاص، بإشاعة أنَّ جنوده لم يكونوا يراعون هيبته ويمنحونه الاحترام الواجب، كما يشير الحوار التَّالي (ص20):

يستعرض الكاتب كفاح مسيحيي مصر في مواجهة طغيان الروم (الكاثوليك) ممن أرادوا تحريفهم عن عقيدتهم، ومواجهتهم المقوقس “الكافر” بمنتهى البسالة، وانتظارهم الفتح العربي بفارغ الصبر كي يخلصهم من الظلم، لا ليضعهم تحت وطأة حكم آخر. غير أنّ! الفتح يستعصي على جيش عمرو؛ بسبب براعة الروم في تحصين مصر من خلال اتخاذ أهم التدابير في مواجهة الأجلاف العرب. ويفخر الكاتب بكفاح المسيحيين وصدق عزيمتهم في بذل النفس والنفيس من أجل الدين، في مقابل سماجة العرب وحرصهم على الدنيا. يعيد الكاتب إثارة مسألة الصراع الطَّائفي بين مذاهب المسيحيَّة، معتبرًا أنَّ رغبة الأقباط في عدم اتِّباع مذهب الكاثوليك والحفاظ على نقاء مذهبهم ما دفعهم إلى معاونة جيش عمرو بن العاص، الذي يعترف في نفسه أنَّ فتحه مصر بمثابة احتلال جديد، متعهِّدًا بحماية الأقباط ‘‘إن استسلموا ودفعوا’’، في إبراز للجانب الانتهازي النَّفعي للصَّحابة، كما يراه الكاتب (ص32).

يتغزَّل الكاتب في وصْف البطريرك بنيامين، بابا الإسكندريَّة وبطريرك الكنيسة القبطيَّة الـ 38، الذي أجبره بطش الرُّومان على اللجوء للعيش في الصحراء 13 عامًا، ويذكِّرنا وصْفه بوصْف المتصوِّف الحسيني في رواية مولانا (ص35).

الكاثوليك يبطشون بأقباط مصر، ويدنِّسون كنائسهم لإجبارهم على التخلِّي عن عقيدتهم (ص45).

ويستبشر البطريرك بنيامين بسماع وصول جيش العرب لفتح مصر، معتقدًا أنَّه خلاص الأقباط، كأنَّما أراد الكاتب إبراز التناقض بين حُسن نيَّة بنيامين، الذي لم يرد سوى الحفاظ على عقيدته وقومه، واستغلال العر ونفاقهم؛ فهُم يحرصون على تحفيظ الجنود القرآن الكريم، بإرسال عمر بن الخطاب ابن ملجم لهذه المهمَّة، بينما لا دافع لهم من ذلك الغزو سوى المال والنساء (ص50).

يبرز الكاتب غياب الهدف النبيل لدى الفاتحين، فهم مجرد قطعان من الجنود تقودها حماسة زائفة تخفي وراءها حب الدنيا وإمتاع النفس، بينما يتمتع الخصوم بالروية والحنكة الدفاعيَّة والخبرة العسكريَّة، مع بلورة الفوارق الطبيعية بين جمال مصر (مياه النيل، والهواء المنعش، والتربة الصالحة للزراعة) وصعوبة البيئة الصحراوية؛ وذلك لمنح الغزاة مبررًا في الغزو، هو الهروب من بيئتهم القحلة إلى بيئة أفضل، حتى أنَّ الصحابي عبد الرحمن بن عديس نسي الشهادة في سبيل الله (ص63).

يتناول الكاتب من جديد استئساد الأقباط أمام محاولة المقوقس توحيد المذهب المسيحي لإنهاء التناحر المذهبي بين الأقباط الأرثوذكس والرُّومان الكاثوليك، وفي ذلك إشارة إلى رسوخ العقيدة والثبات على المبدأ، مهما كان التهديد (ص92).

يدَّعي الكاتب دخول مبعوث عمرو بن العاص إلى المقوقس في مساومة من أجل المال، وادعاء زعم المسلمين أنَّ غزوهم بهدف الشهادة، بينما هم يطالبون بالجزية (ص102).

يسبُّ الصحابي جبلَّة بن عمرو الأنصاري عمرو بن العاص، ويتباهى بأنَّ شهد أُحد مع الرسول، بينما كان الثاني لم يزل على كفره. ينعت جبلَّة عمرو بن العاص بـ ‘‘ابن النَّابغة’’، معايرًا له بانفلات أمِّه في الجاهليَّة وفسقها، والمثير للدهشة أنَّ عمرو لا يغضب لسبِّ أمِّه (ص109).

يدَّعي أنَّ المقوقس استسلم أمام ابن العاص كي يهرب من مصر التي مقتها واعترف بفشل مهمته فيها (تحويل القبط إلى المذهب الكاثوليكي)، بينما كان ابن العاص يسعى إلى إعلان انتصاره وجنوده بأيِّ عمل يبدو بطوليًّا يدعم ادعاء الانتصار (ص117)، ثم يأتي تصوير فتح مصر وكأنَّه مشهد هزلي، بطلاه هما ابن العاص والمقوقس باتفاقيتهما السرية، بينما ظنَّ القادة (الزبير بن العوام) أنَّ جهودهم هي ما أسفر عن الفتح، مع الاستشهاد بآيات القرآن الكريم بطريقة تهكميَّة (ص121).

يصف الكاتب تخيير الأقباط بين الإسلام ودفع الجزية وهم صاغرون بالانتهاك (ص127)، ويدَّعي عبثيَّة دعوة المسيحيين إلى الإسلام والتماس الأعذار لهم في ذلك بسبب اللغة والثقافة، في تلميح إلى اضطرار أقباط مصر إلى دخول الإسلام عُنوةً، إمَّا بالترهيب أو بالترغيب، بسبب عجزهم عن دفع الجزية (ص128).

يظهر الكاتب بعدها تفاهة المسلمين بانتظارهم إسلام أي مسيحي بتلهف وتكبيرهم كلما أسلم واحد، مع خيبة أملهم إن لم يسلم (ص129).

يتعمَّد الكاتب إبراز ما يروِّج له في الرواية عن تكالُب الصحابة على متاع الدُّنيا، وسعيهم إلى إمتاع أنفسهم، متِّخذًا من تصارُعهم على سبايا من مصر مثالًا لذلك (ص130).

ويتبع ذلك إظهار تنازع الصحابة على النساء السبايا بطريقة مقززة لا تصدر عمَّن هم أمثالهم (ص134).

ويسخر عيسى من وعد الله المؤمنين بالحور العين في الجنة، مع إظهار ابن العاص في صورة المتاجر بالدين (ص138).

يصف الكاتب انشغال الجنود بالنساء في أوج المعركة، ليفاجئهم الروم بحيل عسكرية جديدة، فهم كالأنعام يأكلون ويتمتعون بالنساء، في نقيض تام لما كان يظنه ابن ملجم من زهدهم وورعهم، مع وصف اعتلاء النساء بألفاظ وقحة لا تشير إلا إلى الشهوانية، مع إظهار ابن ملجم بالحكمة دائمًا في القول والرد، مع عجز المحاور عن إقامة الحجة عليه وإخفاء ذلك بالسباب. يتبع ذلك سخرية من الصحابي مسلمة بن مخلد، والي مصر في زمن معاوية بن أبي سفيان، وتشبيهه بالنساء بسبب سمنته، في إشارة إلى عدم أهليته للحكم (ص149).

يصف الكاتب المقوقس الكاثوليكي بالجبن والهرب والتآمر للانتقام من المصريين بأن أفسح الطريق أما الفتح العربي (ص153)، ثم يستسلم المقوقس للعرب؛ نتيجة شعوره بأنَّ المصريين يبغضون الروم وهو لا يحتمل أن يحكم شعبًا يبغضه، لذلك تجاهل رسالة هرقل التي كانت تأمره بالثبات في الدفاع عن مصر (ص154).

يتجلَّى غياب الحجَّة الراجحة لدى العرب في التعبير عن دافع غزوهم مصر، بينما يتمتع الأقباط بسلامة الحجة ورجاحة المنطق في الدفاع عن أرض أجدادهم (ص157). ولا يذكر العرب ربهم إلا في الشدائد، ولا يتمنون الشهادة في سبيله إلا تحت حصار (ص157). يتبع ذلك ادعاء تشريد العرب للأقباط وإخراجهم من منازلهم واتخاذهم عبيدًا وخدمًا بعد إفساد حياتهم الهادئة التي كان قوامها العبادة وتقديس المسيح وأمه: العائلة تسكن غرفة ملحة بالمنزل، وتترك المنزل كلَّه للصحابي، بل وتعمل في خدمته (ص167).

ولم يكتفِ العربي بذلك، والكاتب يُظهر تعنُّته العرب أمام سخاء الأقباط برفض المكوث في منازل “الكفرة”، بينما لا يظهر الأقباط سوى التسامح وتقبُّل الإهانة (ص168).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى