دين ودنيا

الزكاة الرُّكن الْـمُضَيَّعُ (1)

الـحَسن ولد ماديكْ

باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة
رئيس مركز إحياء للبحوث والدراسات
عرض مقالات الكاتب

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله.
فإن علم الاقتصاد من أهمِّ العلوم الاجتماعية والسياسية لدورانه حول المشكل الاقتصادي يبتغي فَكَّ طلاسـِمِـه لإيجاد حَلٍّ يتجاوز سدَّ الحاجات الضرورية إلى الرفاه والتمكين.
وقد عرفت البشرية منذ نزل القرآنُ والْـهَدْيُ النبوِّيُّ بنموذج الاقتصاد الإسلامي نماذجَ منها الاقتصاد الاجتهادي الفقهي والمؤسسات التضامنية الاقتصادية والاقتصاد الأنانـي العلماني (الرأسمالي والاشتراكي).
ونشأ كل نموذج من النماذج الثلاثة الأخيرة في بيئة اجتماعية خاصَّة لأجل حَلِّ المشكل الاقتصادي ولستُ الآن بصدد تقييم أيٍّ منها.
وإذْ تَـحُولُ دون استفادة البشرية من الاقتصاد الإسلامي المتكامل عوائقُ وموانعُ ومرحلةٌ غيرُ مُتاحةٍ فللبشريّة جمعاء ولكل مجتمع مسلم أن يستفيدَ من ركن الزكاة فـي الإسلام، وإنَّـما يَـحتاج الـمُجتمعُ اليوم مَن يَكشف لـها أُفُقًا أوسَعَ مِن دائرة مُتون عُصُور الانحطاط.
إنّ الاقتصاد الاجتهادي الفقهي هو مجموع الأحكام والقواعد في المتون الفقهية القديمة وما يتفرع منها قياسا وتأصيلا لتنظيم كسب المال وإنفاقه وأوجه تنميته، وكان حَرِيًّـا بتلك المتون أن تقتصر مرجعيَّتُها على الذين عاصروا أصحابَها السادة الفقهاء أما الأجيال اللاحقة التي لم تعاصرْ نشْأَةَ المتن الفقهي فإنما هي كالأجيال الغابرة قبله أي غير معنية باجتهاد غير المعصوم وتأويلاته وافتراض الأقضية والنوازل والأحجيات.
وتوكّأ الاقتصاد الاجتهادي الفقهي قديما على مواردَ منها الغنائمُ والفَيْء والـجِزية والعُشْر والـخَـراج.
ومما أستدل به على قصور المتون الفقهية القديمة عن التنظير والتأصيل والتشريع للأجيال المتأخرة عن نشأتها اعتمادُها على مَواردَ اقتصاديةٍ مُوَقَّتةٍ مشروطة بالقتال في سبيل الله حين كان القرآن يتنزل بالإذن وَحْيًا يُخرِجُ اللهُ به الرسولَ النبـِيَّ صلى الله عليه وسلم من بيته لقتال عدو معلوم مخصوص، أو مشروطة بقتال وقع التكليف به في الكتاب المنزل خوطب به الذين آمنوا وهم الصحابة الكرام ليُقاتلوا الذين يَلُونهم من الكفار حول جزيرة العرب وإنما وقع التكليف به على الصحابة وعلى المُخَلَّفين من الأعراب عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقترن بالوصف بسبيل الله في سورة براءة وسورة الفتح لتأخره عن حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكما فصَّلْتُ في مادة (قتل) مِن موسوعتي للتفسير وأصوله قسم “معاني المثاني”
أما قتال الدفع والدفاع جماعيا صولة الغزاة فقد تنزل التكليف به في الكتاب المنزل في خطاب جماعة المسلمين أي في ظل سلطان مسلم متمكن غير مُـختف ولا مستتر يأوي إليه المستضعفون فيأمنون والمظلومون فيلْقَوْن النَّصَفَ، وتقصر الغنيمة في هذه الحالة الاستثنائية عن التصنيف ضمن الموارد الاقتصادية الإسلامية إذ قد تنقضي أجيال ودول قبل أن يقع غزوها خارجيا.
وليس من موارد الاقتصاد الإسلامي غنائم إحدى الطائفتين المقتتلتين من المسلمين رغم شرعية قتال الفئة الباغية الناكثة الصلح بل كل المسلم على المسلم حرام دمه وعِرضه وماله.
وأعلن بقوة البحث العلمي المتجرد أن علم الاقتصاد الإسلامي بعد عصر النبوة وبعد الخلافة الراشدة قد اختطفه أصحاب البلاط باختطافهم نظام الحكم السياسي فطوَّعوه لتتبع رغباتِ السلطان ووزرائه وحريمه ومظاهرِهم وترفهم وبذخهم وتمَّ نسْخُه ممسوخا في المتون الفقهية التي استبْقَتْ قليلا من نُظُم الاقتصاد الإسلامي وشَرَّعَتْ بالمتون الفقهية ما خالف.
وتوكّأ الاقتصاد الاجتهادي الفقهي على الغزو العسكري الذي وقع للبلاط أن يصيب العصفورين برمية واحدة.
أما أحد العصفورين فهو الغنائم والفيء الخراج والخمس والإقطاعات والغلال وسَبْـيُ الجواري والعبيد وملك اليمين إلى آخر مسطرة الترف والبذخ واتباع الشهوات والملذات.
وأما ثاني العصفورين فتوسيع رقعة الدولة وسلطانها.
ومن الغريب العجيب إقرار الفقهاء يومئذ بضرورة إلزام الرعية بالضرائب لتغطية المشاريع التنموية في الدولة ولتمويل الجهاد والغزو وقد تراءَتْ لهم إيرادات الغزو والجهاد الوفيرة الكثيرة لا تُسمن ولا تُغني من جوع كالخيط الرقيق من اللحم بين القواطع والأضراس بعد الفراغ من تناوله وقضمه وابتلاعه، وإنما ذلكم أثَرٌ من آثار تأثير البلاط على الفقهاء الذين ألْزَمهم الوَرَعُ على أن لا يُعوِّلوا على شيء من الغنائم والفيء والخراج والخمس ضمن الميزانية العامة للدولة كأنما هو حق خاص للبلاط وما حوله من المحظوظين وأمراء الجيوش والولاة.
ويُلزِمُ الاقتصاد الإسلامي الحاكمَ بإحياءِ شعيرة الإنفاق الطَّوْعِي للأغنياء وغيرِهم حسبَ التمكين والْوُسْعِ حال قُصورِ ركن الزكاة عن تغطية النفقات العامّة.
ووقع في تفصيل الكتاب المنزل تسمية الخراج بالأجر وبالمال في سياق امتناع الرسل عنه رغم ما يدعون إليه من الإيمان بالغيب لدفع الضرر الأكبر وهو تصلية الجحيم في اليوم الآخر والنجاة من عذاب الله في الدنيا الذي أهلك اللهُ به المكذبين من الأحزاب.
وثبتت شرعية الخراج (الضرائب) لدفع ضرَرٍ وقع فغلبَ وعسُر دفعُه إلا بضرر أكبر منه كما عرض القوم بين السَّدَّيْنِ جَعْلَ خراج لذي القرنين لدفع ضرر يأجوج ومأجوج، وكما في أسرى المسلمين لدى العدو المتغلب.
وحرِيٌّ بالفقهاء المعاصرين الإفتاءُ برفع إِصْرِ الضرائب عن العامة بعد ظهور كنوز الأرض ومعادنها ومخازنها من الغاز والنفط والسمك وغيرها وأن لا يكونوا كَلًّا على العامَّة يجمعون لهم بين حَشَفَيْنِ يحرمونهم من توزيع كنوز الأرض وخيراتها ثم يفرضون عليهم ضرائب دائمةً في الـحالين سِلْما وحربا وأمنا وخوفا ومـجاعة ورخاء.
فإن استغرق الضرر بيت المال بكنوزه فلا اعتراض على شرعية الخراج على الأغنياء الموسرين حكاما ورجال أعمال دون العامة ومن يكسبون قوت يومهم بعَرَقِه.
وإن للضريبة ضريبتُها على النظام السياسي القائم إن اقتصرت على الأغنياء والموسرين الذين يضطرُّهم دفعها إلى التفكير الجادّ في طرحِها والتخلص منها ولو عبر التآمر لقلب النظام السياسي قصد الاستفادة من الضرائب على الأغنياء ومن إيرادات أخرى في البلاط، ولا تسَلْ عن الآثارِ السَّلبيةِ للضرائبِ على العامَّةِ ومن يقتاتون بجهدهم وعضلاتهم فيتعبون ويعْرقون، ولن يَقْصُرَ وَعْيُهم عن اعتبار الضرائب إسفينا في نعش السِّلْم الاجتماعي تماما كما وصف الله في الكتاب المنزل ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ﴾[برءة 98]، وقوله تعالى ﴿وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُـخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ [القتال 36 ـ 37] ولا يعني تَربُصُ الدَّوائِرِ وخروجُ الضغائنِ غيرُ التمرد والانفلات والثورات الغوغائية فانهيار المجتمع.
ويتبيَّن الباحث المتجرد اتفاقا غير مكتوب وتفاهما بين البلاط الأموي والعباسي وغيرهما وبين الفقهاء يقضي بتنازل البلاط عن الأوقاف لصالح الفقهاء مقابل سكوتهم عن استئثار البلاط بالمغانم والفيء والخراج والإقطاعات.
وأَدَّى اعتزالُ الفقهاء والصالحين والأتقياء الصراعَ الدنيوي السياسي إلى انحراف ركن الزكاة عن مقاصِدِه العامة والخاصة، وإلى انحراف شعيرة الأوقاف عن البناء والتعمير بتطوير العلوم الدنيوية كالرياضيات والفيزياء والطب والهندسة والفلك وعلم الاقتصاد وعلوم البحار، واقتصرت الأوقاف على المساجد وصيانتها وعلى الإنفاق على طلبة العلم الشرعي وصار لكل مذهب من المذاهب الفقهية أوقافه الخاصة به لجذب طلبة العلم وأكثرُهم غرباءُ فقراءُ أغراهم الوقف على استظهار نصوص المتون الفقهية التي يُقدِّمها واقفٌ قصَم ظهر البحث العلمي المتجرد فلم تُنجِبِ الأمّةُ في عصور الانحطاط التي تطاولت وامتدت مئات السنين غير حُفَّاظ متونٍ فروعيّة لا صلة لهم بدراية الواقع ولم يتأهَّلوا بالعلوم الدنيوية ليدفعوا عن أمَّتهم صولة الصليبيين والمغول وتيمورلنك والاستعمار الغربي.
وإنَّ مِن أكبر معانـي رُكنِ الزكاة ومقاصِدِها أنها هيئةٌ إغاثيّةٌ للفردِ والمجتمع ومؤسسة شرعيّة واجبة الوجود في المجتمع المسلم لتأمين الفرد والمجتمع لا تستثنِـي في توزيعِها غيرَ المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى