مقالات

بيروت بين صدمتين

ياسر الحسيني

كاتب وإعلامي سوري
عرض مقالات الكاتب

كما هو حال كل الأنظمة المستبدة والفاسدة عندما تفقد القدرة على إدارة البلاد سياسياً واقتصادياً، وتدخل حالة من الجمود والاستعصاء أمام تصاعد الاحتجاجات الشعبية والتذمر من سوء أحوال البلاد، فتلجأ الطبقة الحاكمة إلى افتعال حوادث كارثية صادمة لإلهاء الشعب هرباً من الإستحقاقات الملحّة وذلك لعدم قدرتها على تلبيتها من جهة وعدم رغبتها من جهة ثانية، فمثل هذه الأنظمة ترى أن الإستجابة لمطالب الشعب يدخل في خانة التنازل والانصياع لرغبة الجماهير وهذا من وجهة نظرهم يعدّ انتقاصاً من هيبة السلطة ، كما أن أي تنازل سيؤدي إلى تنازلات أخرى في المستقبل قد تفضي في نهاية المطاف إلى تقويض أركان القوة والنفوذ لها ومن ثم إلى زوالها .

ماجرى في ميناء بيروت أمس يدخل في هذا السياق فمنذ انتفاضة 17 تشرين الأول/اكتوبر من العام الماضي والتي دفعت رئيس الحكومة “سعد الحريري” يومها إلى الإستقالة ، ومجيء حكومة ( اللون الواحد ) برئاسة ” حسان دياب” ليصبح لبنان في قبضة حزب الله بشكل كامل بدءاً من قصر بعبدا إلى سرايا الحكومة فمجلس النواب، وهذا ما جعل الاحتقان الشعبي يتعاظم وخاصة بعد أن دخلت البلاد في أتون أزمة اقتصادية خانقة لم تعهدها حتى في أسوأ أيام الحرب الأهلية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. تلك الأزمة التي طالت معظم شرائح المجتمع اللبناني بسبب التدهور الكبير في الخدمات الأساسية والذي ترافق بهبوط  خطير للعملة اللبنانية أمام الدولار، ما دفع العديد من البنوك والمصارف إلى تقليص نشاطها وسط مخاوف جديّة من انهيار العملة المحلية وهروب رؤوس الأموال إلى الخارج ، وخاصة تلك التي ارتباطات قوية مع النظام السوري الذي بات في عين العاصفة مع دخول قانون قيصر حيز التنفيذ، والذي يهدّد كلّ من يتعامل أو يموّل النظام لمساعدته في استمرار حربه على الشعب السوري.

كلّ ماسبق يضاف إليه اقتراب موعد صدور الحكم النهائي في قضية إغتيال الرئيس رفيق الحريري بانفجار يشابه انفجار الأمس والذي مضى عليه 15 عاماً، فمنذ لحظة اغتيال الحريري في شباط 2005 وأصابع الإتهام كانت تشير إلى حزب الله ونظام بشار الأسد ، ولكن الحكم المبرم للمحكمة المزمع إصداره في 7 آب الجاري لن يكون الأمر مشابهاً لما مضى ولن تبقى الحقيقة مغيّبة يكتنفها الغموض وإنما سيكون الحكم قطعياً جازماً ومعززاً بالأدلة والقرائن التي لا يساورها الشك وكل التسريبات التي حصل عليها حزب الله تؤكد ضلوعه في الجريمة بشكل مباشر تخطيطاً وتنفيذاً ، وهذا سيضع الحزب بشقيه السياسي والعسكري في قائمة المحاسبة الأمر الذي سيربك كل الأطراف السياسية اللبنانية الأخرى المتحالفة معه ، كما سيضع جميع المؤسسات الرسمية اللبنانية في موقف محرج تجاه المجتمع الدولي بسبب وجود أعضاء من الحزب فيها إن كان في البرلمان أو الحكومة أو الأجهزة الأمنية ، وصولاً إلى حليفه في قصر بعبدا الجنرال ميشيل عون رئيس الجمهورية وصهره جبران باسيل الذي يرأس حالياً حزب ” التيار الوطني الحر”.

إذن لابد من حدث جلل يخلط الأوراق من جديد ويبرر للحكومة استمرارها رغم الشلل التام الذي تعانيه منذ تشكيلها وقد مضى عليها ما يزيد عن ستة أشهر، كما يبرر لحزب الله والأحزاب المتحالفة معه تسويق خطاب المؤامرة على سلاح المقاومة ولا أستبعد الاقتباس من حليفهم المجرم في دمشق مقولة ” المؤامرة الكونية” .

ويبدو أن حسن نصر الله قد اعتاد على المقامرة والهروب إلى الأمام في كل مراحل لهاثه نحو الإستيلاء على لبنان لصالح المشروع الإيراني، وقد يكون مقتنعاً جداً هذه المرة بأن خلاصه من تبعات حكم المحكمة الدولية الخاصة بإغتيال الحريري ورفاقه في تفجير الوضع في لبنان برمتّه وليس فقط تفجير ميناء بيروت، لينتقل بعدها إلى الهجوم على المحكمة الدولية وحكمها على أنه وجه من أوجه استهداف المقاومة لمصلحة إسرائيل ، رغم انكشاف وهمية العداء من خلال مسرحيات التصادم العسكري التي افتعلها مؤخّراً والتي ساهمت في إخراجها بشكل هزلي إسرائيل نفسها، حتى بات القاصي والداني يتحدّث عن حالة الغرام السرية والغزل المبطّن بين الحزب والكيان الاسرائيلي.

إن حجم التفجير الهائل الذي يكاد يعادل تفجير قنبلة ذرية كتلك التي ألقيت على مدينتي “هيروشيما وناغازكي” اليابانيتين يبين أنّه بات الحل الوحيد بين يدي حزب الله وحكومة اللون الواحد بعد أن تعالت الأصوات المطالبة باستقالة الجميع بمن فيهم رئيس الجمهورية ، ولكنّه من زاوية أخرى يبدو انتحاراً فحتى لو حقق الانفجار غايته في إلهاء الشارع اللبناني فذلك لن يدوم طويلاً وسرعان ما ستعود المواجهة أكثر حدة ولن يكون بمقدور حزب الله اللجوء إلى السلاح فليس هناك من فريق آخر يحمل في وجهه السلاح وهذا ما يعيه جميع أطياف الشعب اللبناني الذي خبر الحرب الأهلية تماماً.

لقد سقطت أوراق حزب الله دفعة واحدة في هذا التفجير الإرهابي، وسيحاول جاهداً إلصاق التهمة بخصومه ولكنّه لن يفلح هذه المرة ، فالجميع يعلم أن ميناء بيروت ومطار بيروت بيده ولا يمكنه التملّص من المسؤولية ، وجلّ ما استطاع تحقيقه هو تأجيل إصدار الحكم من المحكمة الدولية حتى 18 آب الجاري، وهو تأجيل فرضته فوضى الدمار الذي حلّ ببيروت ولابد من اعطاء المزيد من الوقت بين صدمتين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى