مقالات

لماذا سنبكي بيروت طويلاً؟

عماد العبدلي

محام وناشط حقوقي وسياسي
عرض مقالات الكاتب

ليس فقط لان المصاب جلل و صادم و مفزع ويتجاوز أسوأ مسلسلات الرعب التي يكون بعضنا قد تخيلها لمصير هذه المدينة بفعل ما يحيط بها من أطماع ومن مخاطر جيو-إستراتيجية.
ليس فقط لأن الدمار الذي لحق ببيروت قد حوّلها إلى مدينة أموات بالقوة بسبب التصدعات والانهيارات و السموم المنبعثة في سمائها بفعل المواد التي انفجرت و الركام الذي صار يلف كل شيء، وهو ما ينبئ بشهور و حتى سنوات من المعاناة التي لم تكن بطبعها غائبة.
ليس فقط لأن أهل بيروت، التي كانت تلقب بسويسرا الشرق، قد يواجهون خطر أعظم أزمة غذائية في تاريخهم بعد الدمار الشامل الذي حل بمرفئهم الرئيس، هذا فضلاً عن كون بيروت نفسها كانت تعيش منذ أسابيع على صدى الانتحارات المتتالية بسبب استتباعات أسوأ أزمة اقتصادية اجتماعية ومعيشية عرفتها المدينة و عرفها لبنان بشكل عام.
ليس فقط لأن الأمان الهش الذي كانت تعرفه بيروت سيزداد هشاشة وقد يختفي تمامًا.
ليس فقط لان المبالغ التي تحتاجها المدينة المنكوبة لإعادة أعمار ما دمره هذا “الزلزال” هي مبالغ فلكية تتجاوز بكثير إمكانيات الدولة حتى بدون فساد ومحاصة و طائفية، فما بالك و هي الدولة التي “يدرس” الفساد كمادة رئيسية في تكوين المسؤولين و السياسيين و كل القائمين على الشأن العام أكاد أقول بدون استثناء.
سيبكي المشردون مساكنهم التي هدمت أو تلك الآيلة للسقوط في كل لحظة،
سيبكي الجوعى الذين كانوا لا يجدون إلا القليل لأنهم مهددون الآن بما هو أسوأ من الجوع الذي اعتادوا عليه.
وسيبكي الأغنياء الذين كانوا يجاورون المرفأ من أجل رفاهيتهم وضرورات فسادهم ما الم بقصورهم من تصدعات وبالطرق التي كان يخترقونها بسياراتهم الفارهة من خراب،
و سيبكي المثقفون و الفنانون والشعراء ما كان للجمال الأخاذ لبعض المناطق و المرافق من قدرة على قدح إبداعهم وإلهامهم بالصور و الخيالات التي لم يتح لغيرهم أن يروها في أماكن أخرى.
و سيبكي السياح، حتى وإن كانت أعدادهم قد قلّت بفعل الكورونا والقلاقل الاجتماعية والانفلات الأمني، ما كانوا يجدونها في هذه المدينة الصغيرة الصاخبة من حياة لا يجدونها في مواطنهم الأصلية.
فئة واحدة لن تبكي بيروت وهم حكامها وسياسيوها لأنهم المسؤولون أولاً و أخيرًا عن هذا “الزلزال” حتى إن سلمنا فرضًا بأنه ليس من فعل فاعل أو اعتداء معتد ؟!

ففي حال كانت الفرضية الأقوى، في ظل ما يرشح من أخبار، أن يكون “الزلزال” فضيحة فساد عملاقة تتصل بكيفية حجز وتخزين وحفظ هذه الكميات المهولة من المواد الحارقة و المتفجرة منذ سنوات عديدة، فان الأكيد أن منظومة التسيير التي تتحكم بالدولة اللبنانية (وخاصة المحاصة الطائفية التي تترتب عنها محاصصات أمنية واقتصادية معقدة ذات صلة مباشرة بعدم قدرة الدولة على التخلص من تلك المواد أو حفظها في أماكن ملائمة أكثر)، تلك المنظومة الحاكمة لا تملك بالمرة و لو الحد الأدنى من القدرة على إجابة تطلعات الشعب اللبناني في معرفة الحقيقة (في لبنان لا أحد يبحث عن الحقيقة لأن الإصرار على معرفة الحقيقة تساوي الموت) و محاسبة المسؤولين و اتخاذ الإجراءات اللازمة لمجابهة الأزمة،وتعويض المتضررين تعويضًا يليق بدولة.
ففي لبنان تحديدًا، أكثر مما يوجد في أية دولة أخرى، تقوم منظومة الحكم على توازنات شديدة التعقيد (داخليًا وخارجيًا) تجعل السياسيين و الحكّام ممثلين لطوائفهم ومصالحهم الاقتصادية الموروثة (عبر شبكة من العائلات الثرية التي تتقاسم كل شيء تقريبًا،حتى تمثيلية البرلمان الذي توّرث فيه المقاعد جيلاً بعد جيل).
ولا أمل في أن يكون صدى الزلزال قد وصل إلى هؤلاء الحكام وهؤلاء السياسيين لأنهم -بحكم تركيبتهم الخاصة- محصنون ضد الزلازل وهو ما ظهر إلى حد الآن في ردة فعلهم المخجلة ؛بل والمخزية التي تبين أنهم أبعد ما يكونون حتى عن فهم حقيقة ما يحدث، و خاصة عن فهم حقيقة ما سيحدث بعد ذلك، وهذا هو الأهم.
لن تكون بيروت الغد كبيروت اليوم ،وبخاصة لن تكون كبيروت ما قبل البارحة ليس فقط كطرق ومبان ومرافئ و مرافق وطرق وخدمات وتجهيزات، وإنما كشعب وكمواطنين لأن هؤلاء باعتبارهم الضحايا الوحيدين للزلزال على خلاف حاكميهم سيفكرون بعقلية الزلزال الذي سيكنس الفساد و الطائفية و “العائلية” لتعود بيروت من جديد مدينة يحلو فيها العيش، ويصبح لبنان لأول مرة وطنًا واحدًا لمن يهمه أن يكون لبنانيًا و كفى، وليس مجرد رقم في ألف دويلة داخل دولة ليس لها من الدولة إلا الإسم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى