مقالات

“الاردوغانية”.. كيف أنهى العسكر تجربة أول حزب إسلامي في تركيا – 6 من 13

جمال سلطان

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

بعد خروج “نجم الدين أربكان” ، صاحب أول تجربة حزب إسلامي تركي ، من السجن ، ثلاث سنوات ، كان الجنرال الدموي الذي قاد انقلاب 1980 “كنعان ايفرين” قد خفف قبضته عن الحياة السياسية وسمح بعودة الحياة إليها من جديد ، فاستأنف “أربكان” نشاطه السياسي معاندا الإحباط واليأس ، وأسس حزبا جديدا باسم “حزب الرفاه” عام 1983 ، وشارك في أول انتخابات تجرى بعد الانقلاب ، لكنه تعثر ولم يحصل سوى على رقم متواضع 2% ، لكنه جدد نفسه وطور خطابه السياسي وعزز نشاطه الجماهيري وخاض الانتخابات التالية 1996 فحقق فوزا كبيرا ، سمح له بالعودة للمشاركة في الحكومة من جديد ، في ائتلاف حاكم مع حزب “الطريق القويم” العلماني بزعامة السيدة “تانسو شيلر” ، لتصبح رئاسة الوزارة بالتناوب ، نصفها لحزب أربكان ونصفها لحزب تانسو شيلر ، ويصبح القيادي السياسي الإسلامي “نجم الدين أربكان” أول رئيس وزراء “إسلامي” في تاريخ تركيا الحديثة .
والملاحظة شديدة الأهمية هنا أن أربكان وحزبه “الإسلامي” لم يحقق أي حضور سياسي يذكر خلال فترة حضور “تورجوت أوزال” وحزبه “الوطن الأم” الذي مثل الوسطية السياسية الجامعة التي ترضي الوجدان الشعبي المحافظ وفي الوقت نفسه يحافظ على أساس الدولة ونظامها العام ويحقق نجاحات اقتصادية أيضا ، وبعد رحيل “أوزال” بدأ حزب “أربكان” يستعيد وهجه وحضوره ، لأنه تمدد فيما يشبه الفراغ الذي أعقب فترة “أوزال” .

خلال أقل من عام قضاه “نجم الدين أربكان” رئيسا للحكومة التركية، سعى إلى الانفتاح بقوة على العالم الإسلامي، حتى بدا وكأنه يريد استعادة دور تركيا الإسلامي القيادي، فبدأ ولايته بزيارة إلى كل من ليبيا وإيران، وأعلن عن تشكيل مجموعة الثماني الإسلامية التي تضم إلى جانب تركيا أكبر سبع دول إسلامية: إيران وباكستان وإندونيسيا ومصر ونيجيريا وبنغلاديش وماليزيا.
ولم يكتف أربكان بذلك، بل نشط عبر العالم الإسلامي، وحدد موعدا لمؤتمر عالمي يضم قيادات العمل الإسلامي، وباتت تركيا تتدخل بثقلها لحل مشكلات داخلية في دول إسلامية كما حدث حينما أرسل وفودا لحل خلافات المجاهدين في أفغانستان.

لكن أربكان حرص رغم ذلك على عدم استفزاز الجيش، وحاول تكريس انطباع بأنه لا يريد المساس بالنظام العلماني، فنفذ الاتفاقيات السابقة مع إسرائيل دون تردد، وزاد بأن زار إسرائيل لدعم التعاون العسكري، وسمح للطيارين الإسرائيليين بالتدرب في الأجواء التركية.

ولم يكن هذا التقارب مع إسرائيل كافيا لإقناع الجيش بأن يرضى عن “أربكان”، فلم تدم حكومته سوى عام ونيف ، ووقع الانقلاب العسكري الرابع لإنهاء مسيرة أربكان “الإسلامي” وحزبه ، وهو انقلاب ناعم وغير دموي هذه المرة ، لأنه قبل أن تتحرك الدبابات أرسل الجنرالات في 1998 إنذارا إلى كل من “تانسو شيلر” و”أربكان” ، ووضعوا فيه حوالي ثمانية عشر مطلبا ، أغلبها مطالب تعجيزية واضحة ، وبما أن الاثنين يتذكران جيدا رأس “عدنان مندريس” الطائر ، قدما استقالتهما على الفور ، ونزلت الدبابات بعدها إلى الشارع ، وألمحوا للمحكمة العليا بحل حزب “الرفاه” فاستجابت المحكمة لإشارة الجيش وانعقدت سريعا وقررت حل الحزب بدعوى انحرافه عن العلمانية .
وعقب الانقلاب الجديد تم حظر حزب الرفاه وأحيل أربكان إلى القضاء بتهم مختلفة منها انتهاك مواثيق علمانية الدولة، ومنع من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات، لكن أربكان لم يغادر الساحة السياسية ، وقاوم العزل ، فلجأ إلى المخرج التركي التقليدي ليؤسس حزبا جديدا باسم “حزب الفضيلة” ، وصدر في قيادته أحد مساعديه لإدارة الحزب ، لكنه كان المدير الفعلي من خلف الكواليس، لكن الحزب الجديد تعرض للحظر هو الآخر بعد عام واحد من نشأته ، في عام 2000.

تعثر تجربة “نجم الدين أربكان” المتتالي ، وصدامه مع المؤسسة العسكرية ، وخطابه الإسلامي الزاعق والمثير ، سبب ضيقا لدى تيار شبابي جديد في حزبه ، كان على رأسه القيادي الشاب “رجب طيب اردوغان” الذي كان قد ترشح للانتخابات البلدية ، ونجح بإبهار في الانتخابات وشغل منصب رئيس بلدية اسطنبول ، درة تركيا الاقتصادية والتاريخية ، وقد رأى “الشاب السياسي” أن هذا الأسلوب وتلك الممارسات لن تصل بتركيا إلى نهضة حقيقية ، ورأى أن البلاد بحاجة إلى حزب وسطي محافظ ، يتحاشى الخطاب الديني الزاعق والمثير ، يستلهم تجارب “عدنان مندريس” و”تورجوت أوزال” ، وتجربة “أوزال” تحديدا كانت مؤثرة في وعي هذا الجيل الجديد ، لأن الحزب الوسطي المحافظ على هوية المجتمع ، في نسخته المعتدلة التي قدمها “أوزال” سحب البساط من تحت أقدام حزب “اربكان” الإسلامي ، لأن الناخبين توجهوا إلى الحزب الوسطي المحافظ ولم يتوجهوا إلى الحزب المتشدد صاحب الخطاب الديني الزاعق رغم عاطفيته ، رغم التاريخ المشرف والكاريزما لزعيمه “أربكان” ، وهذه الظاهرة تكررت في باكستان أيضا ، وفي أكثر من تجربة سياسية في العالم الإسلامي ، وكلها تعطي الانطباع بأنه كلما شغل الفراغ السياسي بأحزاب وسطية قوية ومعتدلة ومتصالحة مع قيم مجتمعها كلما تهمش الدور السياسي للجماعات الدينية مهما كان عمقها التاريخي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى