دين ودنيا

تأملات قرآنية مع شيخ الإسلام ابن تيمية (15)

الدكتور حسين القحطاني

عرض مقالات الكاتب

{المجاهد البطل المغوار شيخ الإسلام ابن تيمية ومعركة شقحب ضد التتار} • قال الله تبارك وتعالى : “إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين • وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم • وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم” . “الأنفال” جاء سبب نزول هذه الآية الكريمة في صحيح الإمام مسلم من حديث ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : “لما كان يوم بدر ، نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاث مئة وتسعة عشر رجلا ، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم القبلة ، ثم مدّ يديه ، فجعل يهتف بربه : “اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آتِ ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من الإسلام لا تعبد في الأرض” ، فما زال يهتف بربه ، مادًّا يديه ، مستقبل القبلة ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبوبكر ، فأخذ رداءه ، فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله ، كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : “إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين” ، فأمدّه الله بالملائكة” . لقد كان للعالم الرباني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معركة شقحب ضد التتار أثرا عظيما على مجريات المعركة ، بدأت هذه المعركة في رمضان سنة ٧٠٢ هجرية واستمرت ثلاثة أيام ، بالقرب من دمشق في سورية ، بسهل يسمى “شقحب” ، وكأن شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المعركة هو القائد الفعلي والروحي والعقلي ، فهو الذي هتف للجهاد حين خاف الناس ، وانتشرت الشائعات المثبطة في البلدان ، وهو الذي شدّ من عزائم المجاهدين ، واتصل بالأمراء ، ودعاهم للخروج وحماية بيضة الإسلام في الشام ، فاجتمع الأمراء بالميدان ، وتحالفوا على لقاء العدو ، وبرز دور شيخ الإسلام في الناس بروز الشمس صبيحة النهار ، وكان مثالاً رائعاً للعلماء المجاهدين بالقول والسّنان ، فقد انضم شيخ الإسلام لصفوف المجاهدين ، ووقف معهم يشجعهم ويبث روح الإصرار والدفاع عن الدين بين جنبات أبناء الشام ، وكان يبشر الناس ويثبتهم وهم على خط القتال ، ويقول لهم : إنكم لمنصورون ، والله أنكم لمنصورون ! فيقولون : قل إن شاء الله ، فيقول : إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا ، ولم يكتف شيخ الإسلام بذلك ، بل سار إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، ويدعوه للقتال ويثبّت قلبه ، وكان السلطان الناصر قد أصابه وهنٌ شديد عن لقاء التتار ، فشدّ شيخ الإسلام من أزره ، وجلس يذكّره بفضل الجهاد ، ووجوب حماية بلاد الإسلام ، فجاء السلطان بعد أن حثّه شيخ الإسلام إلى دمشق ، فسأل السلطان أن يقف شيخ الإسلام معه في معركة القتال تحت رايته ، فقال الشيخ : السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه ، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم . وأفتى شيخ الإسلام بالفطر مدة قتالهم ، وأفطر هو أيضا ، وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل معهم ، ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال ، ونظم المسلمون جيشهم بسهل شقحب ، وكان السلطان الناصر في القلب ، ومعه الخليفة المستكفي بالله والقضاة والأمراء وأولادهم ومواليهم . وذكر أهل السير أن شيخ الإسلام ابن تيمية ، كان أحد أهم أسباب النصر في هذه الوقعة العظيمة ، بحسن تدبيره ومشورته ، وبلاءه في أرض الجهاد ، ومواقفه البطولية في أرض المعركة . قال ابن عبدالهادي : “قال حاجب أمير وكان ذا دين متين : قال لي الشيخ – يعني ابن تيمية – يوم اللقاء وقد تراءى الجمعان : يا فلان أوقفني موقف الموت قال : فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل ، تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم ، ثم قلت له : يا سيدي هذا موقف الموت ، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة ، فدونك ما تريد ، قال : فرفع طَرْفه إلى السماء ، وأشخص بصره ، وحرّك شفتيه طويلا ، ثم انبعث وأقدم على القتال ، يقول : وأمّا أنا فخيّل إليّ أنه دعا عليهم ، وأنه استجيب له في تلك الساعة . ثم حال القتال بيننا والالتحام ، وما عدتّ رأيته حتى فتح الله” . وكان فرح الناس بهذا الانتصار فرحاً عظيماً ، وجعلوا يهنّأؤن الشيخ بما يسّر الله على يديه من الخير ، وكانت هذه الحملة هي الثالثة من حملات التتار على بلاد الإسلام ، وآخر الحملات الكبرى التي قام بها التتار يريدون بها استئصال بيضة الإسلام ، وقد سبقت هذه المعركة معركة شهيرة ، ألا وهي معركة عين جالوت ، ولكن التتار لم تنكسر شوكتهم إلا بعد معركة شقحب ، وكانت نهايتهم فيها . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه “الاستغاثة في الرد على البكري” : “إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام (التتار) لما قدم دمشق خرجوا – يعني الناس – يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرّهم ، وقال بعض الشعراء : يا خائفين من التتر …. لوذوا بقبر أبي عمر أو قال : عوذوا بقبر أبي عمر …. ينجيكم من الضرر ، فقلت لهم : هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا ، كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد ، فإنه كان قد قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك ولحكمة كانت لله – عز وجل – في ذلك … فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله والاستغاثة به ، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه ، لا يستغيثون بملك مقرّب ولا نبيّ مرسل كما قال تعالى يوم بدر : (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) … فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً ؛ لم يتقدّم نظيره ، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلاً ، لما صحّ من توحيده وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك ، فإنّ الله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى